المساهمات في شركات المحمول السعودية

فضيلة العلماء الأماجد: ظهر في النصف الأخير من السنة الهجرية المنصرمة في المملكة العربية السعودية موجةٌ شديدةٌ لما يُسمى بمساهمات بطاقات الشحن المسبوقة الدفع لنظام الأجهزة المحمولة، وتعرف اختصارًا بـ(سوا)، وهي مساهمات فردية ليست برعاية مؤسسات أهلية أو حكومية، وإنَّما يقوم عليها بعض المنتفعين والمتعطشين للأرباح السريعة والمضاعفة مضاعفةً شديدةً التي تجاوزت في كثير من الأحيان أكثر من 30% من رأس المال، علمًا بأنَّ الأرباح كانت أسبوعية، وما زالت حمَّى هذه المساهمات ملتهبة في المملكة السعودية، دون نكيرٍ أو إجراءٍ حكومي صارم يردع القائمين على مثل هذه المساهمات. علمًا بأنَّ القائمين عليها في كثير من الأحيان خريجو سجون وصعاليك، لا أمانة لهم ولا دِين ولا خُلق، بل أكثرهم مدمنو مخدرات ومتعاطو قاذورات ومحرمات.
وتخضع هذه المساهمات الشعبية– التي لاقت رواجًا منقطعَ النظير في جميع الأوساط ومن خلال جميع الشرائح في المجتمع السعودي- في بطاقات شحن للأجهزة المحمولة فقط مسبوقة الدفع، قيمة البطاقة من شركة الاتصالات (85 ريالًا سعوديًّا)، مع أنَّ المسئولين في شركة الاتصالات ينفون هذه الأسعار، ويصرِّحون بأنَّ البطاقة لا تفرزها شركة الاتصالات بأقل من (93 ريالًا سعوديًّا) وذلك للوكلاء المعينين من قبل الشركة، والملتزمين بعقود ووكالات مع الشركة نفسها مباشرةً، ولهم أسماء معروفة وظاهرة ومؤسسات قائمة بأسماء مشهورة كذلك. ولقد حدَّد هؤلاء المضاربون بأموال النَّاس- وهم مجهولون لا يعرفهم إلا زمرة من حولهم أو مَن استطاع أن يصلَ إليهم- قيمة السهم الواحد بـ(8500 ريال سعودي) على خلفية أنَّ قيمة البطاقة من شركة الاتصالات بـ(85 ريال سعودي) وشركة الاتصالات السعودية تتحفظ على هذا وتنفيه في كثير من التصريحات. ولهذه المساهمات تسلسل تصاعدي يبدأ من المساهم وينتهي بالمضارب بهذه الأموال التي قد جمعها الوسطاء وتسلم له بطريقة عشوائية بدائية، لا تودع في البنوك ولا في المصارف المالية ولا من خلال حوالات معتمدة أو إيداعات مصرفية موثقة، ولا يحصل المساهم على وثيقة أو إيصال يحفظ له حقه في كثير من الأحيان وإنَّما تسلَّم الأموال يدًا بيد تُظَرَّف في صناديق وفي أكياس وتودع في منازل أو في استراحات أو في خزانات الماء لا يعرفها إلا هذا المجهول المضارب بالمال زعمًا!
ومن خلال هذا التسلسل تمر الأموال بقنوات الوسطاء، وذلك حسب معرفتهم وقربهم من المشغِّل وعلاقتهم به، وقد يكثر هؤلاء الوسطاء ويتعددون، وينقسمون إلى مجموعات يرأسها شخص بصفته رئيسًا للمجموعة وبدرجة قربه من المشغِّل للمال والمضارب به! ولكلٍّ بطبيعة الحال عمولته وحظه من الأرباح المزعومة. وهم كذلك- الوسطاء- قد خدعوا النَّاس بالكتمان والتحفظ على أسماء المشغلين أو المضاربين بالأموال، وغرَّ المساهمين كذلك أنَّ بعض الوسطاء ممن يظهر عليهم سمات الخير، أو ممن عُرفوا بالصلاح والعدالة عند النَّاس، وكان التسليم بذلك مبنيًّا على الثقة أولًا والمجازفة والأثرة بالدنيا والضن بالأرباح الهائلة.
والذي أسهم بدورٍ أكبر في اغترار المساهمين وبعض الوسطاء في التعامل مع هؤلاء، هو صمت الحكومة غير المعتادة على مثل هذه التصرفات والمساهمات، وكذلك تهاون المسئولين في الأجهزة الأمنية، بَلْهَ إسهاماتِ كثير من رجال الأمن في مثل هذه التُّرَّهات وحمايتهم لها وكذلك بعض الأمراء؛ مما أضفى شرعية للنَّاس على هذه المساهمات. ولقد قاد هذه المساهمات حثالة المجتمع كما ذكرتُ من قبل، وهم من الجهل بمكان ومن قلة الأمانة والدِّين ما يُشهَد لهم به، بعد أن اتضح أمرهم للنَّاس وانكشف القناع، وظهر عَوَارهم، وتبين أنَّ العملية كانت إدارة لرءوس الأموال وإدرار الأرباح منها، والمعاملات المالية كما يَعلم فضيلتكم من أعقد المعاملات في الشريعة وأعسرها، تُعقد لها المجامع واللجان والعلماء للفصل في مسألةٍ من المسائل؛ فكيف بهؤلاء يتصدرون قيادة هذه المعاملات المشكلة جدًّا وتنوء بالعصبة أُولِي القوة من إدارة الشركات والمؤسسات المتخصصة.
ومما يثبت خيانة هؤلاء في المال الخاص والعام؛ أنه لم يحدد سقف يُرجع إليه وتنتهي بحده المساهمات، بل فتحوا الباب على مصراعيه، حتى بلغ حجم المساهمات قبل القبض على المحتال المتلاعب بأموال الأمَّة المهدر لها، مليارًا وأربعمائة مليون ريالٍ سعوديٍّ تُدار في اليوم الواحد، بمعنى أنه ينبغي له أن يوفِّر حجم بطاقات للشحن في اليوم الواحد بما يعادل ستة عشرَ مليونًا وأربعمائة وسبعون ألفَ بطاقةٍ يوميًّا تقريبًا، وهذا لا يقبله السوق الاستهلاكي السعودي بأي حالٍ من الأحوال ولا يمكن له أن يستوعبه.
هذا وإن كانت البداية لهذه المساهمات بأرقامٍ معقولةٍ وأعداد مقبولة، ثمَّ بدأت مرحلة الشح والطمع المحركين الرئيسين لعمليات استنزاف أموال النَّاس بحجة المساهمة والمضاربة بها، وهم برغم ذلك لم يظهر لهم اسمٌ أو تفويض من أي جهةٍ رسمية أو معتمدة من قِبَل الدولة أو من قبل الشركة المخوِّلة بإدارة برامج تقنية الاتصالات في المملكة السعودية.
والسؤال باختصار بعد هذا الإسهاب والإطناب:
هل الأرباح التي جُنيت من هذه المساهمات- بعد التوضيح السابق عن طبيعة العمل للمساهمين أو للوسطاء- مباحة لهم؟ علمًا بأنَّ المساهمين وبعض الوسطاء الشرفاء لم يكونوا على علمٍ بحقيقة الأمر ولا بطبيعة العمل على وجهٍ لا يلتبس به الحق، بل اشتراكهم ومساهمتهم كانت بغرض الربح الخالص والبريء من الشبهة والتهمة، بل يتعاظم كثيرٌ منهم أن يبلغَ في ماله أدنى شبهة من تعاملات ربوية أو ما شاكلها من معاملات منهي عنها شرعًا. والحاصل من هذا كله أنَّ النَّاس قد وقعوا فيما وقعوا فيه، فهل يُباح لهم من الأرباح التي حصلوها شيء؟ وهي مكاسب قد صُرفت في شراء عقارات ومركبات وحُصِّلت منها عوائد على الأولاد والزوجات من ملابس وكسوة وذهب وخلافه، لاسيما وأنَّ الرجل المضارب بهذه الأموال قد أُدِين بتهمة الاحتيال والنصب، ومطالبٌ بإعادة أموال النَّاس لهم، فهل يحق للمساهمين والوسطاء استرداد رءوس أموالهم كاملة أم حساب ما جنوه من أرباح مقاصة برأس المال، فيحصَّل لهم ما بقي من رأس المال كتتمة لرأس المال؟ أفتونا مأجورين، فالموضوع جِدُّ خطيرٍ، وعمَّت به البلوى، وحصلت به فتنة عظيمة في بلادنا؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فرغم الإسهاب الوارد في السؤال، ومحاولة السائل مشكورًا أن يجسدَ الأمر أمام جهة الفتوى إلا أن القضية بالغة التعقيد والتشابك، وتمس الحاجة فيها إلى تحقيقات قضائية موسعة تحدد مسئولية كل طرف، ومدى ما يمكن أن ينسبَ إليه من تفريط أو عدوان، ونحن نثق بفضل الله عز وجل  في القائمين على القضاء الشرعي ببلاد الحرمين كفاية وديانة ونسأل الله لهم التوفيق، وعلى كل حال فإن الذي يظهر لنا من خلال ما عُرِض من وقائع أن المبادئ الفقهية التي تحكم هذه النازلة إذا كُيِّفت العلاقة بين المستثمرين والقائمين على هذه الاستثمارات على أنها عقد مضاربة- ما يلي:
أن الربح في المضاربة وقاية لرأس المال، وأن العامل في عقد المضاربة لا يضمن إلا بالتفريط أو التعدي، فإن لم يكن تفريط أو عدوان فإن الخُسر كله على صاحب المال ويخسر العامل جهده.
وأنه لا تستقر ملكية أحد من الطرفين- رب المال أو العامل- على ما قبضه من الربح إلا بالتصفية النهائية وسلامة رأس المال. وفي ضوء ما سبق من القواعد وما عرض من الوقائع فإن العامل (القائمين على إدارة هذه الشركات) قد فرَّط تفريطًا بينًا وتعدى تعديًا ظاهرًا بما اقترفه من تغرير وتدليس وإضاعة للأمانة، فما وقع من خُسر فهو مسئوليته في المقام الأول، ومفهوم الخسر هو ما نقص من رأس المال، وأن بعض أصحاب المال بدورهم لا يخلون من قدر من التفريط حيث وثقوا في شركات لم تجر على النسق المعهود في إقامة الشركات، ولم يتحقق فيها القدر الذي يقتضي الوثوق في أعمالها وفق المعهود والمتبع في هذه البلاد فهم شركاء في هذا التفريط بدرجة أو بأخرى.
وبناء على ذلك فإن القائمين على إدارة هذه الشركات مسئولون عما لحق أصحاب رءوس الأموال من خسر بسبب تفريطهم وعدوانهم فيرجع إليهم أولًا في تعويض ما لحق رأس المال من خسر، وما قبضه هؤلاء من ربح يرد إلى رأس المال ويكون وقاية له، لما تقرر من أنه لا ربح لأحد من الطرفين إلا بعد سلامة رأس المال، وإذا كان واقع الحال أنه لم يتحقق ربح حقيقي أو لم يتحقق بالدرجة التي أعلن عنها فإن ما قبض يكون قد قبض بغير وجه حق فيرد على رأس المال، وما بقي بعد ذلك من خسر- إن وجد – فإنه يتحمله العامل ويسأل عنه، وتمتد هذه المسئولية لتطال أمواله وممتلكاته الخاصة، فإن لم تكف لتعويض هذا الخسر فإن المساهمين أصحاب رءوس الأموال يحاصصون في موجوداته بنسب رءوس أموالهم، ويبقى أن القضاء بما يملكه من قدرات واسعة على التحقيق والتحري هو الأحق ببيان حكم الشريعة في هذه النازلة وإعطاء كل ذي حق حقه. والله تعالى أعلى وأعلم.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   01 البيع, 06 قضايا فقهية معاصرة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend