التأمين على الحياة، وميراث أهل ملتين

رجل مسلم طلق زوجته، وله منها ولد غير مسلم، اشترى عقد تأمين على الحياة، ويرغب أن يوصي في عقد التأمين لابنه يرثه في حالة وفاته.
ا- هل تجيز الشريعة الإسلامية شراء عقود التأمين على الحياة؟
ب- هل تجيز الشريعة المطهرة أن يرث الابنُ غير المسلم والدَه المسلم أو أن يرث الأب المسلم ولده غير المسلم، أو أن يرث الزوج المسلم زوجته غير المسلمة، أو أن ترث الزوجة غير المسلمة زوجها المسلم؟


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
يثير هذا السؤال عددًا من القضايا: مدى مشروعية عقود التأمين على الحياة، مدى مشروعية التوارث عند اختلاف الدين، مدى مشروعية ثبوت النسب بالزنى وثبوت الإرث به، تبعية الولد في الدين إذا اختلف ديانة الأبوين.
أما بالنسبة إلى النقطة الأولى فقد تقرر عند أهل العلم عدم مشروعية التأمين على الحياة الذي تقوم به شركات التأمين التجارية، وذلك لما يشتمل عليه عقده من الغرر والربا، ولشبهه بالقمار والميسر.
أما اشتماله على الغرر فلأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقتَ العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ، فقد يدفع قسطًا واحدًا ثم تقع الكارثة فيستحق مبلغ التأمين كاملًا، وقد لا تقع الكارثة فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئًا ماديًّا، ونفس هذه الجهالة تنطبق على موقف المؤمن؛ فهو لا يستطيع أن يحدد ما يعطي أو يأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده، وإن كان قد يستطيع ذلك إلى حدٍّ كبير بالنسبة لمجموع المستأمنين عن طريق الاستعانة بقواعد الإحصاء، ولكن تبقى الجهالة والغرر في كل عقد على حدة، بل على مستوى مجموع هذه العقود قد تطرأ ظروف طارئة تقلب موازينه كلها رأسًا على عقب.
والنهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول البيوع، وقد صحَّ من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة وبيع الغرر( ).
وأما اشتماله على الربا، فلأن ما تدفعه شركة التأمين للمستأمن أو لورثته لا يخلو من ثلاث حالات: إما أن تدفع له أقل مما دفعه من أقساط أو أكثر منها، أو يكون ما تدفعه مساويًا لها.
فإن دفعت له مبلغًا مساويًا للمبلغ الذي دفعه أقساطًا فذلك ربا النساء، نظرًا لتأخر دفع هذا المبلغ إلى وقت حلول الكارثة.
وإن دفعت له أكثر فذلك ربا الفضل إذا نظر إليه من ناحية الزيادة، وإذا نظر إليه من ناحية تأخير وقت الدفع إلى وقت حلول الكارثة فهو ربا النساء، وكل من الفضل والنساء محرم على انفراد فكيف بهما إذا اجتمعا؟!
وأما اشتماله على القمار: فلأن كلًّا من الطرفين لا يعلم بما ستئول إليه الأمور على وجه التعيين؛ فقد يموت المؤمن عليه أو يقع الحادث بعد دفع قسط واحد، ويستحق ورثته مبلغ التأمين كله، وقد تنقضي سنوات طويلة ولا تحصل الوفاة ولا يقع الحادث، فكل من الطرفين المؤمن والمستأمن يتردد بين احتمالات متعددة، ولا علم لأحدهما بما سيكون من الأمر على التعيين؛ إذ لا شيء في عقد التأمين يعد محدد الأخذ والعطاء، فالشخص قد يدفع عشرين ويكسب مائة، والشركة قد تخسر مع أحد المستأمنين مائتين وتكسب من آخر ألفًا وهكذا.
ومما هو جدير بالذكر أن «دار الإفتاء المصرية» قد أصدرت فتواها بحرمة التأمين على الحياة، والتأمين ضد الحريق، والتأمين على العقارات عمومًا ضد كافة أنواع الحوادث، واعتبرت ذلك كلَّه من التصرفات الباطلة شرعًا؛ لأنه عقد معلق على خطر الوجود تارة يقع وتارة لا يقع، وهو بهذا المعنى يكون قمارًا.
وقد صدرت هذه الفتاوى لثلاثة من المفتين هم أصحاب الفضيلة: الشيخُ بكر الصدفي في الفتوى الصادرة في 10 شعبان 1328 هـ، وفيها تحريم التأمين على الحياة، والشيخ محمد بخيت في فتواه الصادرة في 12 ربيع الآخر 1337هـ الموافق 15 يناير 1919م وفيهما تحريم التأمين ضد الحريق، والشيخ عبد الرحمن قراعة في فتواه الصادرة في7 جمادى الثانية 1344هـ الموافق 22 ديسمبر 1952م، وفيها تحريم التأمين على العقار.
كما صدر قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالسعودية في دورته العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض بتاريخ 4 ربيع الآخر 1397هـ بتحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه، كما صدر أيضًا قرارُ المجمع الفقهي بمكة المكرمة في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398هـ بتحريم كافة أنواع التأمين التجاري، ولم ينازع في تحريمه إلا الشيخ مصطفي الزرقا وحده.
ونحن لا ننكر أن هناك بعض الاجتهادات المخالفة لقلة من المعاصرين، ولكن رأي الجمهور، بل الذي يوشك أن يكون إجماعًا هو الجزم بفسادِ هذا العقد وعدم مشروعيته.
ولا يعني هذا أن الشريعة المطهرة قد أغلقت بابَ المصالح على البشر؛ فإن المجامع الفقهية التي أفتت بتحريم التأمين التجاري قد أرشدت إلى التأمين التعاوني بدلًا منه، ونصت على القول بمشروعيته؛ فقد نص على مشروعية التأمين التعاوني كبديل من التأمين التجاري كل من مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني المنعقد في شهر المحرم 1385هـ، ومجلس هيئة كبار العلماء بالسعودية بتاريخ 4 ربيع الثاني 1397هـ، ومجلس المجمع الفقهي بمكة المكرمة بتاريخ 14شعبان 1398هـ، ففي البدائل الشرعية الطيبة ما يلبي هذه الحاجة، ويحقق هذه المصلحة بعيدًا عن التلوث بهذه المحرمات، وقد استطاع الاقتصاد الإسلامي أن يقدم صيغًا إسلامية للتأمين تقوم في الجملة على تجنب الربا والغرر في هذا العقد لتقدم نموذجًا إسلاميًّا بديلًا يفي بالحاجة، ولا يخرج عن دائرة الشرعية، وهي صيغ عملية وقابلة للتنفيذ الفوري، بل قد جربتها بالفعل شركات قائمة، وحققت في ذلك نجاحًا منقطع النظير.
أما بالنسبة للمسألة الثانية، وهي ثبوت النسب عن طريق الزنى، فقد تقرر في الشريعة المطهرة أن ماء الزنى هدر لا يثبت به نسب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْـحَجَرُ»( ).
أي أنه متى انعقد الزواج صحيحًا شرعًا استتبع هذا ثبوتَ النسب دون حاجة إلى دليل آخر، سوى ثبوت التلاقي بين الزوجين مع صلاحيتهما الجنسية، وأن تمضي بين العقد والولادة أقل مدة الحمل وهي ستة أشهر.
فالشريعة المطهرة قد قطعت نسب ولد الزنى من الزاني، فلا يحل له استلحاقه به؛ لأن ماء الزنى لا اعتبارَ له، فلا يثبت به نسب، ولا يصلح سببًا لثبوته ولو ادَّعاه الزاني بهذا الوصف؛ لأن إقرار الرجل بالنسب لا يُعتدُّ به مع اقترانه بأنه من زنى، وبناء على ذلك فلا توارث بين ولد الزنى والزاني، لانتفاء علاقة البنوة الشرعية التي جعلتها الشريعة المطهرة من أسباب التوارث، ويثبت ولد الزنى من أمه وعصبة أمه باعتبار أن الولادة واقعة مادية لصيقة بها معترف بها منها، وترثه أمه ويرثها.
هذا، وقد حذرت الشريعة المطهرة من العبث بالنسب، وقررت أن من الكبائر أن تدخل المرأة على زوجها وقومه من ليس منهم، أو أن ينكر الرجل ولده وهو يعلم أنه ولده، فقد روى أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية المتلاعنين: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ الله فِي شَيْءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ- أي يعلم أنه ولده- احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ»( ).
ولا يعني عدم ثبوت النسب بالزنى إضاعةَ ولد الزنى في المجتمع المسلم، بل أكدت الشريعة المطهرة على واجب الإحسان إليه، وكفلت له من الحقوق من جنس ما يتمتع به سائر الناس في المجتمع الإسلامي، ولقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على الغامدية حتى تضع حملها وتفطم وليدها( )، ويستطيع الزاني إذا أراد الإحسان إلى ولد الزنى أن يوصيَ له بجزء من ماله كما يوصي لغيره من سائر الناس.
أما بالنسبة لتبعية الولد الدينية إذا اختلفت ديانة أبويه، فإنه يلحق بأحسنهما دينًا وهو المسلم؛ لأن القاعدة الشرعية أن الصغير يتبع خير الأبوين دينًا إذا اختلفا في الدين، والإسلام خير الأديان قطعًا بلا نزاع، فلا يصحُّ التسليم بأن ولده من المرأة الكتابية ليس بمسلم إلحاقًا له بديانة أمه، وإن زعمت هي ذلك، فإن كل مولود يولد على الفطرة( )، وإن الإسلام هو الأصل الذي ينبغي أن يرجع إليه، وهو الذي يعلو ولا يعلى عليه.
وأما بالنسبة لقضية التوارث بين المسلم وغير المسلم، فقد قطعت الشريعة المطهرة التوارث بين المسلم والكافر؛ وذلك لتعلق الميراث بالولاية، ولا ولاية بين المسلم والكافر، وبهذا جاءت النصوص الصحيحة الصريحة التي تمنع التوارث بين المسلم والكافر، وتمنع التوارث بين أهل الملل المختلفة؛ فقد جاء عن أسامة بن زيد ب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَرِثُ الْـمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْـمُسْلِمَ»( ).
وقد عنون البخاري لذلك في «صحيحه» فقال: «بَابُ لَا يَرِثُ الْـمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْـمُسْلِمَ».
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى»( ). والله تعالى أعلى وأعلم.

تاريخ النشر : 30 يناير, 2012
التصنيفات الموضوعية:   01 البيع

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend