بين شركات التأمين الصحي وأطباء الأسنان

إليكم بعض العقبات التي تعترض أطباء الأسنان عند التَّعامل مع شركات التأمين الصحي.
وقبل أن نتناولها سوف نستعرض ملخصًا وجيزًا عن شركات التأمين الصحي وبعض أساليب إدارتها، وبالإمكان الرُّجوع إلى التفاصيل الدقيقة عن طريق مراجعة كل شركة على حدة؛ إذ يوجد اختلافات فيما بينها، ولكن يبقى الأصل واحدًا.
* يقوم العقد على أن تؤمن شركة التأمين على مجموعة من الأفراد من خلال تعاقد شخصي أو عن طريق المؤسسات أو الشركات التي يعمل بها هؤلاء الأفراد.
* تطلب شركة التأمين أن يدفع الفرد مبلغًا معينًا إما شهريًّا أو سنويًّا نظير أن تدفع أو تغطى شركة التأمين نفقات العلاج.
* المبلغ المدفوع من قبل الأفراد يكون أقل من قيمة المبلغ المغطى.
* تهدف شركات التأمين إلى تحقيق ربح عن طريق جمع أكبر قدر من الأموال من هؤلاء الأفراد مقابل تغطية العلاج لمدة سنة واحدة فقط قابلة للتجديد وفقًا لشروط الشركة، كأن تشترط استمرار التغطية باستمرار الفرد في وظيفته… إلخ.
* تغري شركة التأمين الأفراد والمؤسسات بأن تجعل قيمة الاشتراك قليلة بالمقارنة بقيمة التغطية العلاجية.
* تقوم الشركة باستثمار هذه الأموال في البنوك لتحصيل الربح عن طريق الفائدة.
* يتم التعاقد بين شركة التأمين وطبيب الأسنان من جهة وبين نفس الشركة (شركة التأمين) والمؤسسات أو الأفراد من جهة أخرى.
* تقوم الشركة بوضع أسعار محددة للعلاج كخلع الضرس والحشو والتنظيف… إلخ وتكون هذه الأسعار أقل من أسعار الطبيب.
* تشترط الشركة بأن يدفع المريض جزءًا من تكاليف العلاج المغطى تسمى Copayment لطبيب الأسنان، ومثالًا لذلك لو أن مريضًا يريد علاج أسنانه وتعاقد مع شركة التأمين… دفع المريض مبلغ 500 دولار (المبلغ السنوي) وشركة التأمين غطت العلاج السنوي بمقدار 2000 دولار تطلب الشركة أيضًا أن يدفع المريض جزءًا من العلاج10% أو 20% أو 30%… إلخ.
* عدد محدود من شركات التأمين يغطي كل نفقات العلاج.
مثال: مريض يريد خلع ضرس (شركة التأمين هي أيضًا التي تحدد الأسعار التي يسير عليها الطبيب فقد تكون الأسعار معقولة أو مجحفة للطبيب).
* حددت شركة التأمين خلع الضرس في العقد بمبلغ 100 دولار، ونصت على أن تغطي 80% يعني تدفع 80 دولارًا إلى الطبيب على أن يقوم المريض بدفع ال20 دولارًا الباقية للطبيب.
* ينص العقد على أن يأخذ الطبيب القدر المفروض على المريض إجباريًّا ولا يعطي له أي تخفيض أيًّا كان إلا إذا أعطى شركة التأمين هذا التخفيض.
مثال: إذا كانت قيمة الحشو هي 100 دولار (هذه القيمة هي ما فرضته شركة التأمين وليس الطبيب) تقول الشركة أنها سوف تغطي 60% من قيمة الحشو يعنى 60 دولارًا، وعلى المريض أن يدفع 40% يعني 40 دولارًا، معظم المرضى وليس كلهم لا يرغب في دفع هذه القيمة على اعتبار أن المريض دفع القسط المطلوب منه سواء كان شهريًّا أو سنويًّا ويظل يتساءل عن سبب دفعه إياها رغم أنه يعلم أنها قوانين شركة التأمين ويعتبرها إجحافًا.
وحيث إن مآل هذه القيمة سوف يكون للطبيب فيتساءل: لماذا لا يعفو الطبيب عن هذه القيمة طالما سوف يأخذ الباقي من شركة التأمين أو على الأقل يعطي تخفيضًا على قيمة الـ 40% المطلوبة (CoPayment).
وإذا فعل الطبيب ذلك أي أخذ 60 دولارًا فقط من شركة التأمين واعتبرها هي كل قيمة الحشو يكون بذلك خالف مخالفة صريحة لقوانين الشركة التي تنص على أن يأخذ الطبيب قيمة الـCopayment من المريض كلها وإذا أعطى أي تخفيض للمريض من هذه القيمة يجب عليه أن يعطي شركة التأمين نفس قيمة التخفيض.
يعني في المثال السابق إذا أعطى الطبيب تخفيضًا قدره 50% من قيمة الـ40% المقررة على المريض أي سيدفع المريض 20 دولارًا فقط بدلًا من 40%، فإن قيمة الحشو الأصلية تكون 80 دولارًا وعلى ذلك فإن شركة التأمين يجب أن تدفع 60% فقط من الـ 80 دولارًا وليس 100 دولار أي ستدفع 48 دولار.
الغريب أن معظم الأطبَّاء يتساهلون في هذه القيمة فمنهم من لا يأخذها مطلقًا ومنهم يأخذ جزءًا منها والقليل من يأخذها، علمًا بأن شركات التأمين لا تراجع من أخذ الـcopayment ممن لم يأخذها ولكن من حقها أن تتطلع على ذلك في أي وقت شاءت وإن وجد سيعد مخالفة صريحة لقوانينها المنصوص عليها في العقد المبرم.
تكمن المشكلة في عدم أخذ هذه القيمة بالكلية من جانب الغالبية من الأطبَّاء وإدراك المرضى أنها ليست ذات أهمية، وبالتالي توفر لهم أموالًا سوف يدفعونها. فإذا قلت مثلًا كطبيب: أنا لن أتساهل في هذه القيمة. سوف تخسر عددًا من المرضى؛ لأنهم سوف يذهبون إلى طبيب لا يأخذ هذه القيمة. فمن السهل أن تجد مريضًا يسأل قبل الدُّخول إلى الطبيب: هل ستأخذ مني الـ Copayment أم لا؟
ما هو الحكم الشَّرعي في عدم أخذ هذه القيمة؟ وإلى أي مدى يكون التزامي بهذا العقد وتفاصيله؟
مع العلم أن هذه القيمة ما هي إلا عراقيل تفرضها الشركة حتى تحد من عدد مرات الذهاب إلى الطبيب فيفكر المريض مرارًا قبل أن يذهب إلى الطبيب لأن ذلك سوف يجعله يدفع بعض الأموال، وبالتالي تكون الشركة قد وفرت أموالًا كانت ستدفعها.
ناهيك عن كون هناك حالات إنسانية تتطلب عدم أخذه كأن يكونَ المريض ليس معه هذا الجزء ومحتاج إلى العلاج ولكن لا يستطيع الدفع خصوصًا لو كانت عائلة.
مثال: أب عنده ثلاث أولاد ويغطي التأمين الكل بمقدار 3000 دولار، اكتشف الأب أن عليه أن يدفع 35% من التَّكْليف أي سوف يدفع 1050دولار، الحقيقة أن الأب لن يوافق على إجراء العلاج كله حتى يدفع أقل copayment ممكن، أو ببساطة سوف يذهب إلى طبيب لا يأخذ الـcopayment.
* قد تعطل الشركة الدفع لطبيب الأسنان أو لا تدفع لأي سبب تراه سواء كان منطقيًّا أو لا، وتقوم الشركة بتعيين موظفين مهمتهم البحث وخلق الأسباب لرفض الدفع وقد يتلقون نسبة أو مكافأة نظير ذلك.
مثال ذلك: قبل البدء في أي علاج مثل التيجان وهو ما يعرف بـ Crown أو Cap لتغطية كل سطح السن، نقوم بسؤال الشركة عما إذا كانت تغطي العلاج للمريض الفلاني وبالقيمة الموجودة بالعقد، وبعد عمل الجزء العلاجي- ولنقل: إنه بقيمة 500 دولار- قد تتنصل الشركة عن الدفع بحجة مثل أن المريض قد فصل من العمل وأن العلاج لا يغطي في حين أننا أخذنا الموافقة قبل البدء في العلاج.
مثال ثان: حددت شركة التأمين علاج تقويم الأسنان لمريض ما على أن تدفع 1500دولار وبعد أن تم العلاج رأت أن تدفع 900 دولار فقط، يتم تغيير الكلام المُتَّفق عليه في العقد (قد ينص في العقد على أنهم لهم الحق في تغيير المبلغ المطلوب دفعه أو لا).
* يوجد ما يسمى بالخلع الجراحي والخلع البسيط، فالخلع الجراحي هو ما تطلب إجراء عمليَّة جراحية لإزالة السن يعني تتطلب جهدًا ووقتًا ومواد، أما الخلع البسيط فهو الذي لا يحتاج إلى جهد ووقت، ولكن يحتاج أن يكونَ السن بهيئة كاملة حتى يستطيع الطبيب الإمساك به بدون كسر لأنه إذا وقع الكسر تحول إلى خلع جراحي وتطلب إجراء عمليَّة جراحية.
تضع شركات التأمين أسعارًا للخلع الجراحي بقيمة أكبر من الخلع البسيط، عندما يأتي المريض بسن مكسور فإن السن يقيم على أنه سوف يزال بخلع جراحي وهذا من خلال الفحص العلاجي والأشعة يعني التسلسل الطبيعي في العلاج أن يبدأ الطبيب بالخلع الجراحي لأن السن مكسور.
والسُّؤال هنا: إذا استطاع الطبيب خلع هذا السن المكسور بوسيلة وفَّرت وقتًا وجهدًا فهي تعد عمليَّة جراحية، ولكن لا تتطلب جهد ووقت الخلع الجراحي ولكنها لا تعد بسيطة لأن بعض الأطبَّاء لا يستطيع خلعها إلا إذا أتم العمل الجراحي كاملًا. وشركات التأمين لا تعرف سوى جراحي أو بسيط، فماذا أفعل هل أعمل الخلع الجراحي كاملًا إذا كان السن مكسورًا ودلائل الفحص العلاجي والأشعة تشير إليه، ولا أقوم بخلعها بالوسيلة التي أشرت إليها أم أعامله معاملة البسيط؟
مع ملاحظة أنني لا أتكلم عن الخلع البسيط فأمره واضح. إذا كان السن كاملًا وتم خلعه بدون جراحة.
* إذا رفضت شركة التأمين إعطائي ثمنًا علاجيًّا كأن تتنصل من دفع قيمة Crown تم تسليمه للمريض بما يعادل 500 دولار فهل للطبيب أن يأخذ ما يعادل هدا المبلغ لأشياء أخرى لم يتم عملها من مريض آخر مرتبط بنفس شركة التأمين؟ مع العلم أنه لن يؤثر على المريض الآخر من ناحية التغطية العلاجية ولن يدفع المريض أي أموال ولكن محاولة لأخذ الحق المسلوب.
* تم عمل علاج ما مثل علاج العصب وهو ما يسمى Root Canal treatment وفيه يتم إزالة العصب من قنوات السن الملتهب وتنظيف هذه القنوات وحشوها بمواد معينة ثم وضع الغطاء الخارجي فيما يعرف بالـ cap أو Crown، قد يتم هذا العلاج على مرتين، فمثلًا يتم حوالي معظم العلاج 80% على الأكثر، ولأي سبب كأن يكونَ المريض شعر أن الألم انتهى ولم يأتِ مرة أخرى، أو أنه لا يريد دفع الـ Copayment بعد أن هدأت الآلام مع العلم أن الطبيب يقوم بالاتصال بالمريض تليفونيًّا وبمراسلته ولكن دون رد من جانبه. الحقيقة أن العلاج لم يكتمل ولكن تم معظمه وشركة التأمين دفعت ثمن العلاج كاملًا والسُّؤال هنا شركة التأمين لا تدفع قيمة العلاج غير المكتمل، فإذا رددت المال كله أكون قد خسرت قيمة المواد والوقت والجهد. وإذا ذهب المريض لتكملة العلاج عند طبيب آخر كأن يكونَ قد شعر بالآلام أو لأي سبب آخر تكون مهمة الطبيب الآخر سهلة لتكملة العلاج، فهل إذا أخذ الطبيب المال على أن المريض هو الذي تسبب في ذلك رغم محاولات الاتصال يكون فيه مخالفة شرعية؟
في الحقيقة تختفي كل هذه العقبات إذا حول الطبيب عيادته بنظام الدفع النقدي فقط وترك التَّعامل مع شركات التأمين ولكن غالبية المرضى يعتمدون على شركات التأمين وعدد قليل هو من يقدر على الدفع النقدي خصوصًا وأن تكاليف العلاج باهظة لكون النفقات التي ينفقها الطبيب على المكان تمثل 70% من الدخل الوارد.
* لدي سؤال آخر يرتبط إلى حد كبير بالتَّعاملات المادية وهو إذا طلب مني طبيب علاج مريض عنده (هذا الطبيب لا يقوم بهذا العلاج حيث إنه خارج تخصصه)، وطلبت منه مبلغًا وقسمت له المبلغَ ثلاثة أقسام: قسمًا له وقسمًا لي والقسم الأخير لشراء المواد اللازمة للعلاج وبعد ذلك استطعت أن أحصل على هذه المواد بثمن جيد يعني أرخص ولا يخل بالجودة (نفس المواد ولكن البائع أعطاني تخفيضًا) والسُّؤال هل أتعامل مع الطبيب على ما اتفقنا عليه أم على ما استطعت توفيره؟ مع العلم أن الطبيب إذا قام بشراء هذه المواد سوف يكون بما اتفقنا عليه.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فأرى أن نبدأ بتقرير جملة من المبادئ التي تحكم الإجابة على هذه النوازل، ثم نشرع بعد ذلك في تطبيقها عليها لنصل إلى حكم في كل واحدة منها:
* أولًا: أن الأصل في باب المعاملات الحل، حتى يأتي ما يَدُلُّ على المنع، والعقود من جملة المعاملات، فالأصل فيها وفيما تتضمنه من شروط الحل، إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا(1)، فلا يحرم من شروط العقد إلا ما دل الشَّرع على تحريمه وإبطاله نصًا أو قياسًا.
ومن أمثلة الشروط الصَّحيحة ما كان مما يقتضيه العقد، كاشتراط التقابض أو حلول الثمن، أو كان من مصلحة العقد كاشتراط صفة في الثمن أو المثمَّن، أو ما كان فيه منفعة معلومة وإن لم يكن من مقتضى العقد ولا من مصلحته، ومن أمثلة الشروط الفاسدة ما كان منافيًا لمقتضى العقد، أو اشتراط عقد آخر على أحد طرفي العقد.
* ثانيًا: أن حرمة أموال المعاهدين كحرمة أموال المسلمين، فكما لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه لا يحل مال معاهد إلا بطيب نفس منه(2)، وأن من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  حجيجه يوم القيامة(3).
* ثالثًا: أن من اغتصب حقه، وتعذر عليه أ خذه من غاصبه، فظفر بمال للغاصب سواء كان من جنس ما غصبه أو غير جنسه فإن له أن يستوفي منه مظلمته، شريطة أن تكونَ مظلمته واضحة لا لبس فيها، وأن يأمن الفتنة والعقوبة، فمن سُرق منه شيء أو غُصب فوجده عند سارقه أو غيره فله أخذه- ولو قهرًا- إذا لم يخف من أخذه مفسدة أعظم من مفسدة ضياع الحق كنسبته إلى الخيانة والسرقة، ولا يشترط لذلك الرفع إلى القاضي.
‏فإذا لم يظفر بعين حقه، وظفر بما قدر عليه من مال غاصبه فله أخذه واستيفاء حقه منه، قال البُخاري : «باب: قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه، وقال ابن سيرين: «يقاصه، وقرأ: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [النحل: 126](4).
قال الحافظ ابن حجر: «أي هل يأخذ منه بقدر الذي له ولو بغير حكم حاكم؟ وهي المسألة المعروفة بمسألة الظفر، وقد جنح المصنف إلى اختياره، ولهذا أورد أثر ابن سيرين على عادته في الترجيح بالآثار»(5).
* رابعًا: أنه لا حرج في التحيل لاستيفاء حق أو دفع مظلمة، ولكنه يمنع عندما يتذرع به إلى تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرضه، ومضادته في أمره ونهيه، فإذا تذرع المكلف بالتحيل إلى إسقاط واجب من الواجبات، أو استباحة محرم من المحرمات كان هذا التحيل ممنوعًا، وكان صاحبه مأزورًا ومستحقَّا للعقوبة، أما إذا تذرع به لاستيفاء حق مضاع، أو لدفع مظلمة لم يستطع دفعها إلا بهذا التحيل فلا حرج فيه.
* خامسًا: أن مبنى الشركة وبيوع المرابحة على الأمانة، فالله ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبَه، فإن خان خرج من بينهما وجاء الشَّيطان(6)، وبيوع المرابحة هي قسم من بيوع الأمانة، وهي تعتمد على مدى أمانة البائع في الإخبار بقيمة السلعة أو ما قامت عليه به، والخيانة فيها محرمة، وتوجب الحق في الفسخ أو التعويض.
وبتطبيق المبادئ السابقة على هذه الاستفتاءات يتبين لنا ما يلي:
* أولًا: أن العقد الذي ينظم العلاقة مع شركات التأمين هو الحاكم لهذه العلاقة، إلا إذا تضمن بندًا تقضي الشَّريعة ببطلانه فيبطل هذا البند وحده، ويبقى ما عداه على أصل الإلزام ووجوب الوفاء.
* ثانيًا: أن الطبيب ليس جزءًا من هذه العلاقة التعاقدية التي تربط المريض بشركات التأمين، فتلك العقود عقدها المرضى، أو عقدتها لهم شركاتهم التي يعملون بها، وعليهم وحدهم تقع تبعاتها، فلا يسأل الطبيب عما قد تتضمنه من أسباب تقتضي الفساد، وإنما العبرة بالعلاقة التي تربط الطبيب بشركات التأمين، فهو يقدم خدمة لعملائهم مقابل أجر معلوم، ولا حرج في هذه العلاقة.
* ثالثًا: أن اشتراط جهة التأمين على الطبيب أن يجعلَ الخصم الذي يمنحه لمريضه من أصل التعاقد وليس من الحصة الخاصة به فتنتفع به شركة التأمين كما ينتفع به المريض ليس منافيًا لمقتضى العقد، وليس فيه ما يوجب بطلانه في ذاته، وإنما يتضمن مصلحة لأحد أطرافه– وهو هنا الشركة– لأنها تريد أن تنظم استخدام هذه الخدمة، فلا يذهب ذاهب إلى الطبيب إلا في موضع الحاجة الحقيقية، فلا حرج إذن فيه إذا قبل به الطرف الآخر وهو الطبيب، وأمضى العقد على هذا الأساس، وهذا يقتضي أن على الطبيب أن يعتبر هذا الشرط، فإن منح خصمًا لمريضه طبَّقه على حصة الشركة كذلك، ولعل المعاملة على هذا النَّحْو تنشئ رصيدًا إيجابيًّا للأطباء المسلمين لدى هذه الشركات تجعلهم يقلون من جحد حقوقهم الظَّاهرة، بالإضافة إلى ما يتضمنه هذا المسلك من قيمة دعوية كبيرة عندما يتفرد الأطبَّاء المسلمون بإعمال هذا الشرط ويشاع عنهم ذلك في أوساط هذه المهنة.
* رابعًا: أن ما يقع على الطبيب من غبن ظاهر من قبل شركات التأمين كأن تجحد حقوقًا ظاهرة له سبق أن أقرت بها أو كانت ما يقتضيه العقد بصورة بينة ينشئ له في باب (الديانة) حقوقًا في ذمة هذه الشركات، وله أن يسعى لاستخلاص حقه بالطرق القانونية، فإن عجز فإن له أن يتحيل لاستخلاص حقه بما لا يوقعه في مساءلة قانونية.
فقد يقتطع هذا من حصة الشركات من هذه الخصومات فلا يبلغ بها، أو من غير ذلك من بنود أخرى تتيح له ذلك ولا تعرضه لمساءلة قانونية سواء تعلقت بهذا المريض بعينه أم بغيره شريطة ألا يتضرر بها هذا الغير.
* خامسًا:أما قضية التفريق بين الخلع الجراحي والخلع البسيط فتلك قضية مهنية بحتة، فما يعتبر خلعًا جراحيًّا فهو كذلك، وإن لم يستغرق في كل صوره ومناطاته من الجهود ما تستغرقه الجراحات التقليدية، فإن للخبرة دورًا كما لا يخفى في ذلك، وكل ما لم يعتبر خلعًا بسيطًا فهو خلع جراحي أيًّا كان الوقت الذي يستغرقه، والأدوات التي تستخدم فيه، والجراح الماهر قد ينجز من العمليات المعقدة في وقت يسير وبأدوات يسيرة ما لا ينجزه غيره من المبتدئين في وقت أطول وبأدوات أكثر تعقيدًا، ولا تزال تسمى أعمالًا جراحية، فلا ينبغي التشديد في ذلك والتعمق فيه.
* سادسًا: انقطاع المريض عن استكمال العلاج لا يؤثر على استحقاق الطبيب لقيمة ما قام به من علاج، ما دام قد بذل أسبابه، وأتاح لمريضه فرصة العلاج الكامل، وفتح أمامه أبواب مشفاه، وحثه على الحضور، واستنفد وسائله في إقناعه باستكمال علاجه، ولكن المريض استعصى على النصيحة وأبى، وبهذا يكون الطبيب قد قام بدوره، واستحق على الأقل أجرة ما قام به من علاج، فقد ذكر الفقهاء في باب (الجعالة) أن محل عدم استحقاق الملتزم بالعمل للأجر إلا بتمام العمل فيما لا ينتفع الجاعل فيه بما أنجز من عمل، فإن انتفع فلا بد من تعويض العامل، حتى لا ينتفع الجاعل بجهد غيره بلا مقابل، فإذا كانت أنظمة الشركات لا تعرف في العلاج هذا التَّفصيل، فإما علاج كامل يستحق صاحبه أجره أو لا يستحق شيئًا بالكلية فإن الغبن في ذلك واضح، فليطالب الطبيب بحقه كاملًا، ثم يحفظ لهذه الشركات بقية حقها عندما تقع مقاصة في حقوق هضمتها هذه الشركات وأضاعتها على الطبيب.
* سابعًا: اتفاق الطبيب مع زميل له على علاج بعض مرضاه مقابل مبلغ معين يتم تقاسمه بينهما هو نوع من الشركة، وقد سبق أن الشركة مبناها على الأمانة، فإن فصل له توزيع المبلغ كما لو جعله أثلاثًا: ثلث للأدوات، وثلث لكل واحد منهما، دخل ثلث الأدوات في بيوع المرابحة، وقد سبق أيضًا أن مبناها على الأمانة، فينبغي أن يكونَ أمينًا في ذكر ما قامت به عليه هذه الأدوات، اللَّهُمَّ إلا إذا قال له مثلًا: نخصص هذا المبلغ للأدوات تحت العجز والزِّيادة، أو شيئًا من هذا القبيل، مما يشعر زميله أنه تقدير جزافي يحتمل معه أن تبقى فضلة فيه من ربح يختص بها.
هذا ما تيسر تدوينه في الرد على رسالتكم، وهو أحسن ما قدرنا عليه في هذا الباب، ما كان فيها من صواب فمن الله، وله وحده الفضل والمنة، وما كان فيها من خطأ فمنا أو من الشَّيطان، ونحن راجعون عنه في حياتنا وبعد مماتنا، والله ورسوله منه بريئان، والله من وراء القصد. والله تعالى أعلى وأعلم.

____________________

(1) سبق ذكره وتخريجه الصلح» حديث (1352).

(2) سبق ذكره وتخريجه «مسنده» (5/72).

(3) فقد أخرج أبو داود في كتاب «الخراج والإمارة والفيء» باب «في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات» حديث (3052) عن عدة من أبناء أصحاب النبي ﷺ عن آبائهم، عَنْ رَسُولِ الله ﷺ قال: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» حديث (445).

(4) البخاري في كتاب «المظالم والغصب».

(5) «فتح الباري» (5/108).

(6) أخرجه أبو داود في كتاب «البيوع» باب «في الشركة» حديث (3383)، والحاكم في «مستدركه» (2/60) حديث (2322)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه  رفعه قال: «إِنَّ الله يَقُولُ: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَـمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا». وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend