طلب الزوجة الأولى من زوجها طلاق الزوجة الثانية

سماحة المفتي، حفظك الله: أسكن في ولاية كاليفورنيا، وعندي زوجةٌ صالحة ومُربِّيةٌ فاضلة وعزيزة قلبي، وأربعة أبناء أكبرهم بنتٌ عمرها تسعة أعوام وأصغرهم ابن عمره سنة وتسعة أشهر. أدعو إلى دِين الله في المكسيك على الحدود الأمريكية، وقد منَّ الله عليَّ بإسلام عددٍ من المكسيكيين ومِن بينهم فتاةٌ شاء الله أن تكون الزوجةَ الثانية، وقد رزقني اللهُ منها طفلةً عمرها الآن ثمانية أشهر، وقد حَسُن إسلام زوجتي، وهي الآن تعمل أيضًا في الدعوة إلى دين الله وملتزمة بشرع الله في بيتها ومعاملاتها وتطبيق أوامر الله وسُنة رسوله عليه الصَّلاة والسَّلام، وقمت بإعلام الأُولى بالأمر فكان الرَّفض منها ومِن أهلها، وغادرت البيتَ مع الأبناء إلى بيت والدها، ثم رجعتْ إلى البيت اعتقادًا منها بأنني مسحورٌ من الزوجة الثانية على أمل أن أُشفى وأعود إلى صوابي، فانتظرَتْ مدةَ شهرٍ ولم يتغيَّر شيءٌ ولم تحتمل الوضع من شدة حبِّها لي، فغادرَتِ البيتَ للمرة الثالثة واضعةً شرطَ رجوعها بطلاق الثانية أو طلاقها وإنهاء كلِّ أمرٍ بيننا، حاولتُ جاهدًا إرجاعها وحاول الأهل والأصحاب لكن من دون جدوى، وهي الآن غائبة عن بيتها مدة تسعة أشهر، إلا أنني على علاقةٍ حميمة معها، ومع الأبناء؛ أراهم كلَّ أسبوع ونخرج ونقضي وقتًا ملؤه الحب، ولا يوجد بيننا مشكلةٌ لرجوعها إلا زواجي من الثانية.
ما أَمْرُ الشرع في حالنا؟ وما الواجب علينا عمله، علمًا بأنني اخترتُ الزوجة الثانية بإرادتي ومن دون تأثيرٍ مُؤثِّر؟ وأريد إبقاء الزوجتين وعدم طلاق أيٍّ منهما مهما ساءت الأمور راجيًا الفرجَ من الله الرءوف الرحيم؟ وهل ما فعلتُه من زواجي بالثانية يُعتبر ظلمًا للأولى وللأبناء؛ إذ كان زواجي الثاني ليس بسبب تقصيرٍ من الأولى ولا لوجود مشاكل بيننا، إلا أنني أخذتُ برخصة الله لنا في تعدُّد الزوجات، علمًا بأن هذه الرسالةَ على علمٍ واتِّفاق بيني وبين خالها، وفتوى سماحتكم ستكون حكمًا بيننا؟
جزاكم اللهُ خيرًا، وبارك الله فيكم، ونفع أمة الإسلام بكم.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فأسأل اللهَ أن يُهيِّئ لك من أمرك رشدًا، وأن يحملك في أحمد الأمور عنده وأجملها عاقبةً، وأشكرك على تواصلك مع المجمع وثقتك بالقائمين عليه، ولا يخفى على مِثْلك ومثل زوجتك الفاضلة أن الله جلَّ وعلا قد ابتلى الرِّجالَ في مسألة التعدُّد بالعدل، وابتلى النساءَ في ذلك بالغَيْرة، ونحن نُطالب الرجالَ بالعدل ونُؤكِّد على ذلك ونقول: إن القدرةَ عليه شرطٌ في مشروعية التعدُّد، وأن من آنَسَ مِن نفسه ضعفًا وجورًا بيِّنًا لا يَحِلُّ له أن يَقْدَمَ على ذلك، ولا يخفى أن العدل المقصود هو العدل في القَسْم الظاهر في المبيت والنفقة ونحوه؛ إذ لا يملك ما في القلوب إلا علَّامُ الغيوب(1).
كما نُطالب النساءَ بالصبر على ذلك، واعتباره بابًا من أبواب العبوديَّة فتحه اللهُ على المرأة التي قدَّر لزوجها أن يرتبط بأخرى ليرفع بذلك درجاتها ويحطَّ بذلك من خطيئاتها، وكم من منازلَ سَبَقَتْ من الله لكثيرٍ من عباده لا يبلغونها بأعمالهم ولكن يبلغونها بصبرهم على ما يتعرَّضون له من ابتلاءات واختبارات، ولله في ذلك الحكمة البالغة!
نحن لا نُطالبها بمحبة ذلك جِبِلَّة وغريزةً، ولكن نُطالبها بالصبر عليه، نحن لا نلومها على الغَيْرة الجِبِلِّيَّة، ولكن يبدأ اللوم عندما تتحوَّل الغيرة إلى بغيٍ واستطالة، فليس في دين الله أن تسأل المرأةُ طلاقَ ضَرَّتِها، ولا أدري كيف فات هذه السيدة الفاضلة المباركة هذا المعنى وهي تجده مسطورًا في ميراث النبوة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: قال صلى الله عليه وسلم : «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تَسْأَلَ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلِتُنْكَحَ، فَإِنَّمَا لَـهَا مَا قُدِّرَ لَـهَا»(2).
فنقول لها: يا أمة الله، إن أختَك هذه من المسلمات الجُدُد، وإن السعيَ في تطليقها فضلًا عن كونه منهيًّا عنه في ذاته يُعَدُّ فتنةً لها في دِينها، فلو احتسبت في صبرك على ذلك نية صالحة فإنني والله لأرجو أن تجدي ذلك نورًا يسعى بين يديك يوم القيامة، ويوم أن تُعايني كرامتَك على ربِّك بهذا الصبر إن شاء اللهُ، ستقولين ساعتها: يا ليت زوجي لم يقتصر على ثانيةٍ، ليته اقترن بثالثةٍ ورابعة.
ارجعي إلى بيتك يا أمة الله واصبري على أَمْر الله، واعلمي أن الحياةَ قصيرةٌ، وأنها دارُ مَـمَرٍّ، وأن الآخرةَ هي دارُ الـمَقَرِّ، وأن ما عند الله خيرٌ وأبقى، ونُؤكِّد على زوجك على قضية العدل، وألا يألوَ في ذلك جهدًا. والله من وراء القصد، واللهُ تعالى أعلى وأعلم.

____________________

(1) فقد أخرج أبو داود في كتاب «النكاح» باب «في القسم بين النساء» حديث (2134)، والترمذي في كتاب «النكاح» باب «ما جاء في التسوية بين الضرائر» حديث (1140)، وابن ماجه في كتاب «النكاح» باب «القسمة بين النساء» حديث (1971)، والحاكم في «مستدركه» (2/204) حديث (2761)، من حديث عائشة ل قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يَقسم فيعدل ويقول: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَـمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ»، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه».

(2) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «النكاح» باب «الشروط التي لا تحل في النكاح» حديث (5152)، ومسلم في كتاب «النكاح» باب «تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك» حديث (1413).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 النكاح, 06 الطلاق, 12 فتاوى المرأة المسلمة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend