ضرب المرأة

أيها العلماء الأجلاء: عندما يكون زوجي غاضبًا- أحيانًا بسبب خطأ من عندي وأحيانًا أخرى عندما يتعرض لمواقف عصيبة- يقوم بضربي. إنه يضربني على وجهي بقبضة يده. فقد تعرضت لكدمات في وجهي وسحجات في عيني ونزف من أنفي عدة مرات. فمرة كنا نركب السيارة وتعرض هو لمشاكل في تثبيت مقعد طفلنا في السيارة. حاولت أن أخبره بأن هناك قطعة محشورة لا يستطيع أن يراها من المكان الذي يقف فيه، فنهرني بأن «أخرس» وبصق عليَّ. هذا حدث خارج المنزل أمام الناس. لقد اعتاد البصق عليَّ كثيرًا. فهل يجوز حقًّا ضرب الزوجة على وجهها؟ أيضًا، هل هناك نوع من الدفاع عن النفس، أو أَلَا أفعل شيئًا، أم أجلس فحسب وأدعه يبرحني ضربًا؟ زوجي يقول إنها غلطتي هي التي جعلته يفعل ذلك. وهو لا يعتذر أبدًا عمَّا يبدر منه، بل يجب علي أنا أن أعتذر له وآسف عندما يضربني. فهل من نصيحة لي فأقدرها وأثمنها لفضيلتكم؟ وجزاكم الله خيرًا.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
ضرب النساء في مقام التأديب هو آخر الدواء ونهاية المطاف، فهو آخر المراحل في برنامج علاجي متدرج، وقد أجمعت كلمة المفسرين على أن الضربَ إن احتِيجَ إليه لا يكون مبرحًا، ومثلوا له بالضرب بالسواك ونحوه. يقول الربُّ جل وعلا: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾ [النساء: 34]، ولنبدأ أوَّلًا ببيان المراد من الآية ثم نجيب عن سؤالك. إن الآية الكريمة تتحدث عن حالة نشوز المرأة على زوجها، وتصف علاجًا له؛ فما هو ذلك النشوز؟ وما ذلك العلاج الذي وصفته الآية الكريمة؟ يقول ابن جرير الطبري شيخ المفسرين: وأما قوله:  ﴿نُشُوزَهُنَّ﴾ [النساء: 34] فإنه يعني: استعلاءهن على أزواجهن، وارتفاعهن عن فرشهم بالمعصية منهن، والخلاف عليهم فيما لزمهن طاعتهم فيه؛ بغضًا منهن، وإعراضًا عنهم، وأصل النشوز: الارتفاع، ومنه قيل للمكان المرتفع من الأرض: نَشَز ونشاز. وقد نقل هذا المعنى عن ابن عباس وابن زيد والسُّدِّي وعطاء وغيرهم من كبار الأئمة. وأما العلاج الذي قرَّرته الآية الكريمة فهو على هذا الترتيب الوارد فيها: الوعظ، ثم الهجر في المضجع، ثم الضرب اليسير في نهاية المطاف، قال تعالى: ﴿نُشُوزَهُنَّ﴾ [النساء: 34] أي: ذكروهن الله، وخوفوهن وعيده في ركوبها ما حرم الله عليها من معصية زوجها فيما أوجب عليها طاعته فيه ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾ [النساء: 34]: وقد ترددت الأقوال الواردة في تفسير الهجر بين ترك الجماع مع المبيت معها في نفس الفراش، بأن يوليها ظهره في نومه ويعتزل جماعها، أو هجر كلامها في تركها مضاجعة زوجها؛ حتى ترجع إلى مضاجعته، أو هجر فراشها بالكلية بألا يجمعه معها فِراش واحد ما دامت على هذه الحال من النشوز، أو أن يقول لها هُجْرًا من القول- أي قولًا غليظًا- في تركها مضاجعة زوجها، وقد اتفقت الأقوال جميعًا على أن الهَجر لا يكون إلا في البيت، فلا يحل له أن يترك البيت بالكلية، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَلَا يَهْجُرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ»(1). ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ [النساء: 34] هذا هو آخر الدواء ونهاية المطاف، والإجماع كما ذكرنا مُنعقد على أن الضربَ لا يكون مبرحًا، ومثلوا له بالضرب بالسواك ونحوه.
هذا هو المعنى الإجمالي للآية الكريمة، ومن ذلك نلاحظ ما يلي: أننا أمام حالة نشوز، أي امتناع المرأة عن طاعة زوجها استكبارًا وعنادًا، وترفعًا وإباءً، وهو لا يأمرها بمعصية؛ لأنه: «لَا طَاعَةَ لِـمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْـخَالِقِ»(2)، ولا يكلفها ما لا تطيق؛ لأن التكليفَ بما لا يطاق منهيٌّ عنه، وإذا كان رب العالمين لا يكلفُّ عبادَه إلا بما يطيقون، فكيف بعباده عندما يكلف بعضهم بعضًا؟! فليس الأمر على النحو الذي يتخيله بعض الناس جهلًا أو مكابرة من صورة امرأة نحيلة مهذبة رقيقة، يبغي عليها فظ غليظ، فيطعم سوطه من لحمها ويسقيه من دمها! إن هذه الصورة لم تأت بحِلِّها شريعةٌ قط، ولا وجود لها إلا في خيال الطاعنين، وحاشا لشريعة الله عز و جل  أن تبيحَ هذه الصورة أو قريبًا منها! إننا أمام برنامج علاجي متدرج، يبدأ بالوعظ بالقول، وينتهي بالضرب اليسير الذي مثلوا له بالسواك ونحوه. إن بقية النصوص الشرعية تبين أن الطريقة المُثْلي والفُضْلى تجنب ضرب النساء بالكلية، وأن الضرب وسيلة لا يلجأ إليها خيار الناس، ويزداد الضرب قبحًا عندما يكون على الوجه لورود النهي الصحيح الصريح عن ذلك، وذلك لما يلي: ما رواه مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «ما ضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده امرأةً قط، ولا خادمًا، ولا ضرب شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله»(3). وقد اختار الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الأحوال وأكملها وأتمها. ما رواه البخاري عن عبد الله بن زَمْعة أن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بِمَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْفَحْلِ أَوِ الْعَبْدِ؟ وفي رواية: جَلْدَ الْعَبْدِ؟ ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا- أو قال: يُجَامِعُهَا- فِي آخِرِ الْيَوْمِ!»(4)، وهذا تعجب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن يفعل ذلك وتحذير منه؛ إذ كيف يطيب لأحد أن يسطو على امرأته بالضرب فتكون منه كالشاة من الذئب، ثم يذل لها عند الجماع آخر النهار كالعبد طالبًا منها القرب؟! وكيف يليق به أن يجعل امرأته وهي كنفسه مهينة مهانة عبده؟ بحيث يضربها بسوطه أو يده؟! ولهذا يقول ابن الجوزي :: وليعلم الإنسان أن مَن لم ينفع فيه الوعيد والتهديد لا يردعه السوط، وربما كان اللطف أنجح من الضرب، فإن الضرب يزيد قلب المعرض إعراضًا، وفي الحديث: «أَلَا يَسْتَحْيِي أَحَدُكُمْ أَنْ يَجْلِدَ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُضَاجِعُهَا؟!»(5). قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَقَدْ أَطَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ سَبْعُونَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ يَشْتَكِينَ أَزْوَاجَهُنَّ، وَلَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ»(6).
ولا ينبغي للرجل الكريم أن يضرب زوجته، والذين يضربون نساءهم ليسوا خيارَ المؤمنين(7).
والخلاصة: أن الضرب اليسيرَ طريق من طرق العلاج، يصلح في بعض البيئات ومع بعض النفوس، فهو علاج مُرٌّ، وينبغي أن يَستغني عنه الخيِّر الحرُّ، فكان من تمام كمال الشريعة التي جاءت لكل البيئات، ولشتى الأزمنة والأمكنة، أن تشيرَ إليه في إطارٍ محكمٍ من الضوابط، التي تحول بينه وبين أن يكونَ سوط عذاب في يد كل عُتُلٍّ من الرجال يسطو به على مَن شاء من نسائه! ثم يبقى بعد هذا أن على المرأة العاقلة الحصيفة ألا تعرض نفسها لغضب زوجها وألا تستثير عناده وسطوته، وأن تدرك أن حُسْنَ تبعُّلِها لزوجها يعدل درجة الصيام والصدقة وسائر النوافل، وتستطيع المرأة العاقلة أن تتقي غضب زوجها وسخطه بحسن العِشْرة وإلَانَةِ القول والطاعة في المعروف، ثم إن خافت نشوزه ذكَّرَته بالله عز وجل  واستعانت على ذلك بمَن تظنه أثيرًا لديه من أهل العلم فربما كان أطوع له وألين في يده ثم قبل هذا كله وبعد هذا كله تستعين عليه بدعاء السحر وصدق اللجء إلى الله عز وجل . ولا يخفى أن البصق على الوجه من المنكرات التي لا تحل، وحق الدفاع عن النفس مقرَّر في النقل والعقل، على أن لا يتجاوز الحد، ولكن لا يصلح تطبيقه في هذه الحالة لما يؤدي إليه من المفاسد الظاهرة، فعلى المرأة التي يستطيل عليها زوجُها بغير حق وتعجز عن مناصحته أن تستعدي عليه سلطان القضاء الشرعي لردعه ورده إلى الجادة.
واللهَ نسأل أن يردَّه إليه ردًّا جميلًا وأن يصلحَ ذاتَ بينكم وأن يصرفَ عنكم السوء إنه ولي ذلك والقادر عليه، اللهم آمين. والله تعالى أعلى وأعلم.

___________________

(1) أخرجه أحمد في «مسنده» (4/447) حديث (20027)، وأبو داود في كتاب «النكاح» باب «في حق المرأة على زوجها» حديث (2142)، وابن ماجه في كتاب «النكاح» باب «حق المرأة على الزوج» حديث (1850) من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه ، وذكره الألباني في «صحيح وضعيف سنن أبي داود» حديث (2142) وقال: «حسن صحيح».

(2) متفق عليه.

(3) أخرجه مسلم في كتاب «الفضائل» باب «مباعدته صلى الله عليه وسلم  للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته» حديث (2328).
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ [الحجرات: 11]» حديث (6042)، وكتاب «النكاح» باب «ما يكره من ضرب النساء» حديث (5204)، ومسلم في كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب «النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء» حديث (2855).

(5) سبق تخريجه النساء» حديث (5204).

(6) أخرجه ابن ماجه في كتاب «النكاح» باب «ضرب النساء» حديث (1985) من حديث إياس الدوسي رضي الله عنه ، وذكره الألباني في «صحيح الجامع» حديث (5137).

(7) التخريج السابق.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 النكاح, 12 فتاوى المرأة المسلمة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend