صور الرفق والتيسير في أمور الزواج مهرًا أو تأثيثًا

أنا شاب مقبل على الزواج، تقدمت إلى أسرة متدينة وعلى صلة بالعلم الشرعي والأزهري، توقَّعت منهم التيسير والخروج على المألوف، ولكنني فوجئت فوجدتهم يتحدثون عن صداق المثل، وعن المشاركة في تأثيث بيت الزوجية، وعن مؤخر صداق يكتب للعروس، وعن قائمة بمنقولات بيت الزوجية تُكتب لها ويُوقِّع عليها الزوج.
أصابني هذا بصدمة! لقد تعلمت من المشايخ أن المهر يبدأ من ربع دينار، يعني جرامًا من الذهب تقريبًا، وتعلمت منهم البساطة في التأثيث، ولم أسمع منهم شيئًا عن القائمة ومؤخر الصداق، وكل هذه التفاصيل التي يصر عليها المصريون ويعتبرونها من أساسيات الزواج، أنا حائر! أرشدوني!

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن مفاهيم الرفق والتيسير في أمور الزواج مهرًا أو تأثيثًا مفاهيم صالحة، تؤكد عليها الشريعة وتتجلى في تطبيقات علمائها وحملتها عبر القرون! ولكن ترجمة التيسير والرفق تتخذ في الواقع صورًا شتى، وكلها تُفضي إلى مضمون واحد في نهاية المطاف:
• أن المهر لا حدَّ لأقله عند الجمهور، ولا حد لأكثره بالإجماع(1)، واليسر فيه من معالم الشريعة، والعدل فيه مهر المثل، وقد جاءت الشريعة بأجر المثل، وثمن المثل، ومهر المثل، ليكون معيارًا يتقارب الناس على أساسه.
• وأن المهر يا بني يجوز تأجيله كله، ويجوز تعجيله كله، ويجوز تعجيل بعضه وتأخير بعضه الآخر، وأيما صورة توافق عليها أطراف هذه العلاقة فهي مقبولة شرعًا، وقد يكون تأخير بعضه من الرفق إذا عجز الزوج عن دفع مهر المثل في الحال، أو قد يكون ذلك إعانة له على نفسه، ومانعًا له في بعض الأحيان من شيء من العجلة والاندفاع!
• ولا حرج أن يجمع ولي الفتاة بين تطييب خاطرها بالمطالبة لها بمهر المثل، والترفق بالخاطب بقبول ما تيسر معه من ذلك المهر، وتأجيل الباقي إلى ميسرة، أو إلى أقرب الأجلين: الموت أو الطلاق، كما تقول وثائق الزواج المصرية. أما إذا أصر على مهر المثل مُنجَّزًا وأرهق به كاهل شاب لا يقوى على توفيره في الحال فهذا من التعسير المذموم!
• أن تأثيث بيت الزوجية هو في الأصل مسئولية الزوج، وأن الزوج يؤثثه وَفْق إمكاناته، ولا ينبغي إرهاقه بتكليفه ما لا يُطاق، ولكن لا تمنع الشريعة من الترافق بين أطراف العلاقة بأن يبرَّ الرجل ابنته أو يتعاون مع خاطبها فيتحمل جزءًا من هذا التأثيث، توثيقًا لمعنى البر وتعميقًا لمشاعر المودة والرحمة، وإعانةً للزوج على تأثيث بيت الزوجية على نحو لائق، يوفر للزوجين الراحة المنشودة، ويوفر عليها تكاليف إصلاح الأثاث المتهالك أو تبديله!
ويتخذ هذا التعاون صورًا شتى: منها أن يتفق الطرفان على تقاسم هذه التبعة، من خلال مال مشترك يبذلانه على سواء في هذا الصدد، ومنها أن يتفق الطرفان على أن يبذل كلٌّ منهما جانبًا بعينه من منقولات شقة الزوجية، وليست صورة بأولى من الأخرى، ومردُّ ذلك إلى التفاهم والاتفاق، أما إذا أصر ولي الفتاة على مستوى معين من التأثيث وأرهق به كاهل الزوج البادئ، ولم يُعِنه في توفيره فهذا من التعسير المذموم.
• أن الأصل في منقولات بيت الزوجية إذا تولى مسئوليتها الزوج أن تكون ملكًا له، وليس في الشريعة ما يمنع من أن يُقدِّمها كلًّا أو بعضًا لزوجته، ويعتبرها جزءًا من مهرها، ومردُّ ذلك إلى التراضي والتوافق!
وصفوة القول أن الأصل في العقود والشروط الحل، إلا عقدًا أو شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا(2)، وأن الرفق واليسر لا ينحصر في صورة بعينها، بل قد يتخذ صورًا شتى وأشكالًا متعددة؛ فإن شريعة الله أرحب مدًى وأوسع أفقًا، تنصهر فيها جميع الحضارات، وتلتقي في مباحاتها وبدائلها المشروعة جميع الثقافات، وأيُّما صورة يتراضى عليها الطرفان ولا تتضمن مخالفة شرعية فهي صورة مقبولة وتدين محمود ومقبول.
فليس في الأمر يا بني ما يمثل صدمة على النحو الذي صورته أو تصورته، وإنما هي بدائل وتراتيب يتنقل الناس فيها من مباح إلى مباح، مستصحبين الرفق واليسر في ذلك كله، وقد حرصت على تأكيد هذا المعنى لأن طبيعة المرحلة التي تستقبلها الأمة تقتضي إشاعة هذه الروح، واستفاضة البلاغ بمثل هذه التوسعة.
وأسأل الله أن يأخذ بنواصيكما إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يحملكما في أحمد الأمور عنده وأجملها عاقبة. والله تعالى أعلى وأعلم.

_________________

(1) جاء في «تبيين الحقائق» من كتب الحنفية (2/136-138): «قال رحمه الله: (وأقله عشرة دراهم) أي أقل المهر عشرة دراهم».
وجاء في «المنتقى» من كتب المالكية (3/288-291): «(قال مالكٌ لا أرى أن تنكح المرأة بأقل من ربع دينارٍ وذلك أدنى ما يجب به القطع)».
وجاء في «التاج والإكليل» من كتب المالكية (5/186-187): «المشهور أن أقلَّ المهر ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو ما هو قيمة أحدهما، وأما أكثره فلا حدَّ له».
وجاء في «البيان» من كتب الشافعية (9/369-373): «مسألة: [مقدار الصداق والقنطار]: وليس لأقل الصداق حد- عندنا- بل كل ما يجوز أن يتمول، أو جاز أن يكون ثمنًا لشيء، أو أجرة- جاز أن يكون صداقًا… وبه قال عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، وابن المسيب، والحسن، وربيعة، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم… وأما أكثر الصداق: فليس له حد، وهو إجماع؛ لقوله تعالى: ﴿وآتيتم إحداهن قنطارا﴾ (7) الآية [النساء: 20]، فأخبر: أن القنطار يجوز أن يكون صداقًا».
وجاء في «شرح الزركشي» من كتب الحنابلة (5/280-286): «قال: وإذا كانت المرأة بالغة رشيدة أو صغيرة عقد عليها أبوها بأي صداق اتفقوا عليه فهو جائز، إذا كان شيئًا له نصف يحصل. ش: وضع هذه المسألة أن الصداق يجوز بما اتفقوا عليه من قليل أو كثير، ولا يتقدر أقله بعشرة دراهم ولا غيرها، ولا أكثره».

(2) أخرجه الترمذي في كتاب «الأحكام» باب «ما ذكر عن رسول الله ﷺ في الصلح» حديث (1352) من حديث عمرو بن عوف بن زيد رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال: «الْـمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا». وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح»، وذكره الألباني في «صحيح سنن الترمذي» حديث (1352)..

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 النكاح, 12 فتاوى المرأة المسلمة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend