هناك بعض المسلمات المتزوجات من نصارى أو يهود، وقد أنجبن منهن أولادًا، بحجة أنهن لم يجدن من يتزوجهن من المسلمين، أو بسبب علاقات عاطفية ساقت إلى الزواج. ما حكم الشريعة المطهرة في مثل هذه الزيجات؟ وما حكم الأولاد؟ وما يترتب من جراء ذلك من الإرث في حالة وفاة أحد الزوجين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
زواج المسلمة بغير المسلم محرَّمٌ بإجماع المسلمين، وباطل بإجماع المسلمين، من استحلته فقد خرجت من الملة وكفرت بالله العظيم، ومن أتته معتقدة حرمته فقد أتت منكرًا غليظًا وفاحشة مبينة، توشك أن تنتهي بها إلى هاوية الكفر والردة، بل ذهب بعض أهل العلم إلى القول بردتها من البداية؛ لأن عقد الزواج بطبيعته يراد به استحلالُ البُضع واستباحة الوطء والتمتع، فلا يكاد يتصور وقوع هذه الجريمة بغير استحلال.
ووجه الحكمة في منع هذا الزواج ما يفضي إليه من الفتنة في الدين، ولهذا علل القرآن الكريم هذا المنع بقوله تعالى: ﴿ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ [البقرة: 221]، أي إلى الأعمال الموجبة للنار، وذلك بما تؤدي إليه مخالطتهم من الفتنة: دعوة إلى الكفر أو تشكيكًا في الإسلام وتزهيدًا في إقامة شعائره، فالمرأة ضعيفة بطبعها، ولقوامةِ الرجل عليها تأثيرٌ في تقديرها للأمور، فقد يحملها ذلك على متابعته على كفره، أو بالأقل على هجر دينها والزهادة في إقامة شعائره، فلا إلى المسلمين ولا إلى أهل الكتاب، وفي ذلك من الفتنة والتهلكة ما فيه، وتنطبق نفس هذه المقولة على ما سيتمخض عنه هذا الزواج من الأولاد؛ لأنهم سينشئون في كنف أبٍ مشرك، فإما أن يدعوهم إلى الكفر أو أن يزهدهم في الإسلام، وفي ذلك خسران الدنيا والآخرة!
إن من حقوق الإنسان أن يحال بينه وبين ما يهلكه، فإذا رأينا إنسانًا على وشك الانتحار فمن حقه على المجتمع من حوله أن يحول بينه وبين ذلك حماية لحقه في الحياة.
ومن هنا منعت الشريعة زواجَ المسلمة بغير المسلم؛ لأنه شروع في عملية انتحار دينيٍّ، سواء بالنسبة لها أو بالنسبة لذريتها المرجوة في المستقبل، وهو انتحار تفوق جسامته جسامة الانتحار الماديِّ بالقتل ونحوه، فمن حقها على المجتمع المسلم أن يحول بينها وبين هذه النهاية البئيسة حمايةً لحقها في الإيمان وحقِّها في النجاة في الآخرة.
وإلى حرمة نكاح المسلمة بغير المسلم وبطلان هذا النكاح يشير قول الله جل وعلا: ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 221].
قال القرطبي: أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك. وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام(1).
وقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ [الممتحنة: 10].
وقد حرمت هذه الآية المسلمات على المشركين، وقد كان جائزًا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ثم نسخ بعد ذلك.
يقول الشافعي :: فإِنْ أسلمتِ المرأة أو ولدت على الإسلام أو أسلم أحدُ أبويها وهي صبيةٌ لم تبلغ- حرم على كل مشرك كتابي ووثني نكاحُها بكل حال(2).
وأما التعلُّل بعدم وجود أزواج، فإنه من أبطلِ الباطل شرعًا وواقعًا، أما شرعًا فلأن الواجب على كل من لم يجد نكاحًا أن يستعفف حتى يغنيه الله من فضله،كما قال تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: 33].
فأمر الذين لا يجدون نكاحًا بالصبر والاستعفاف حتى يغنيهم الله من فضله، ولم يرخص لهم في ركوب ما حرم الله من الزنى أو نكاح المحارم أو تزوج المسلمة بغير المسلم! ولقول النبي ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَاب، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»(3).
فأرشد إلى الصوم عند عدم القدرة على النكاح إما لافتقاد مئونته أو لعدم وجود من يصلح شرعًا للزواج.
وأما بطلان ذلك من الناحية العملية وعدم صلاحيته مبررًا للوقوع في هذا الجرم الغليظ، فلما نعلمه ويعلمه كل من له صلة بالجاليات الإسلامية في الغرب أن عدد راغبي الزواج من الرجال كثرٌ، وأن المرأة المسلمة إذا استقامت على أمر ربها وارتادت المسجد تدفقت عليها عروض الزواج، وأصبح لديها من الخيارات المتعددة ما تطيب به النفوس الجادَّة الراغبة في العفاف والإحصان بصدق.
ولا تزال المراكز الإسلامية المنتشرة في الغرب تقدم خدماتها في هذا المجال، وتتيح من المعلومات لراغبي الزواج ما يمكنهم من التعرف على الخيارات المناسبة، ونحن من جانبنا نوصيها بمضاعفة الجهد المبذول في هذا المجال إعانةً لمن يريد العفاف من الرجال والنساء من ناحية، وقطعًا للذريعة أمام ضعاف الإيمان ومرضى القلوب من ناحية أخرى.
أما التعلل بالعلاقات العاطفية واتخاذها عذرًا لاستباحة المحرمات، فإنه من أفحشِ المعاذير وأبطل الباطلات؛ فإن هذا هو الهوى الذي تنزلت الشرائع السماوية لكبح جماحه وترشيد مساره، ولو صح الاعتذار بالهوى عن ارتكاب الفواحش وخُلِّي بين الناس وبين الاسترسال مع أهوائهم لبطلت الشرائع، وانعدمت الجدوى من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وهل التكليف إلا إخراج المرء عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لمولاه؟!
ومن ناحية أخرى فإن أول الإثم في هذا المجال هو غَضُّ الطرف عن هذه العلاقات المحرمة التي تنشأ بين الذكور والإناث في هذه البلاد من خلوة محرمة واختلاط منكر، بالإضافة إلى تَخَلِّي الآباء عن دورهم في الرعاية والتوجيه، والاكتفاء بدور الممول، وترك الحبل على الغارب للناشئة يسيرهم تعليم فاجر وإعلام أفجر، فتطمس هويتهم، ويغرقون في مستنقع الإثم والشهوات، ثم يولول الآباء بعد ذلك عندما يجنون ثمار هذا التفريط ويلات وفجائع! وما دَرَوْا أن هذا هو الحصاد الطبيعي لغراسهم النكد وتفريطهم المشئوم!
أما ما ينشأ عن هذه العلاقة المحرمة من أولاد، فإن مثلهم مثل أولاد الزنى لا يثبت لهم نسبٌ، ولا يتقرر لهم ميراث من الزاني؛ فإن ماء الزنى هدر لا يثبت به نسب، ولا يتقرر به ميراث لقوله ﷺ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْـحَجَرُ»(4).
فالولد ينسب لصاحب الفراش الشرعي وهو الزوج، وحيث لا يوجد مثل هذا الفراش في هذه الواقعة لبطلان عقد النكاح فلا يثبت نسبٌ، ولا يتقرر ميراث إلا بين الولد وبين أمه، أما بينه وبين الزاني فلا توارث وذلك لسببين:
1- لاختلاف الدين من ناحية؛ لأن الولد مسلم بالتبعية لأمه، والزاني من أهل الكتاب، وقد قررت الشريعة المطهرة عدم التوارث عند اختلاف الدين؛ فقد قال ﷺ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى»(5).
ولانتفاء علاقة البنوة بينه وبين الزاني من ناحية أخرى؛ لأن ماء الزنى هدر لا يثبت به نسب، فلا يتقرر به ميراث، فإن أوصى له الزاني بشيء من ماله تملكه باعتبار الوصية، وليس باعتبار الإرث. والله تعالى أعلى وأعلم.
__________________
(1) «تفسير القرطبي» (3/72).
(2) «الأم» (5/7).
(3) متفق عليه.
(4) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الفرائض» باب «الولد للفراش حرة كانت أو أمة» حديث (6749)، ومسلم في كتاب «الرضاع» باب «الولد للفراش وتوقي الشبهات» حديث (1457) من حديث عائشة ل.
(5) أخرجه أحمد في «مسنده» (2/178) حديث (6664)، وأبو داود في كتاب «الفرائض» باب «هل يرث المسلم الكافر» حديث (2911)، وابن ماجه في كتاب «الفرائض» باب «ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك» حديث (2731)، وذكره ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2/135) وقال: «إسناد أبي داود إسناد صحيح»، وذكره الألباني في «صحيح وضعيف سنن أبي داود» حديث (2911) وقال: «حسن صحيح».