زواج الـمُكرَهة

زوَّجني أبي (اللهمَّ اغفر له) رغم أنفي دون إذني أو استشارتي، وقد نُقلتُ نقلًا لهذا الرَّجُل رغمًا وكرهًا؛ فأنا منتقبة، والتزمت النقاب في البيت ومنعته من نفسي منعًا، يقينًا مني أنني لم أتزوَّج بعد، بل شرعًا العقد باطل وفاسد، وأثم من فعل ذلك ولو بالمشاركة.
الرجاء؛ الجميع سيقرأ، وأنا أعد بتطبيق حكم الله: هل أنا المخطئة أم هم الذين أجرموا في حقِّي واعتدوا على حدود الله؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن اشتراطَ الولي في عقد النِّكاح لا يعني أن له أن يُكرِه من جُعلت تحت ولايته على الزَّواج بمن لا تُحب، فهي أحقُّ بنفسها من وليِّها في الإذن والرضا، فرضاها من شروط صِحَّة الزَّواج، فلا يصحُّ العقد إذا كانت مُكرَهة في الصَّحيح من أقوال أهل العِلْمِ.
وعلى هذا فعندما يُباشر الوليُّ تزويجَ مُوَلِّيَتِه لابُدَّ أن يُخيِّرَها فيمن يُريد أن يكون لها زوجًا، فإن رضيت به أمضى العقد، وإن لم ترضَ به عَدَل عن تزويجها منه واختار لها آخر، وهذا الحكم يجري في البكر والثيب على الأصحِّ من أقوال الفقهاء.
فعن ابن عباس ب قال: قال رسولُ الله ﷺ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا»(1)، وفي روايةٍ: «وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا»(2)، وفي روايةٍ: «لَيْسَ لِلْوَليِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ، وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ، وَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا»(3).
وعن خنساء بنت خذام الأنصارية: أن أباها زوَّجها وهي ثيِّبٌ فكرهت ذلك، فأتت رسولَ الله ﷺ فردَّ نكاحها(4).
وعن ابن عباس ب: أن جاريةً بِكرًا أتت رسولَ الله ﷺ فذكرت أن أباها زوَّجها وهي كارهةٌ، فخيَّرها النَّبيُّ ﷺ(5).
وعن أبي موسى رضي الله عنه  أن النَّبيَّ ﷺ قال: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ، وَإِنْ أَبَتْ لَـمْ تُكْرَهْ»(6).
وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: جاءت فتاةٌ إلى رسول الله ﷺ فقالت: إن أبي زوَّجني ابنَ أخيه؛ ليرفع بي خسيستَه. قال: فجعل الأمرَ إليها؛ فقالت: قد أجَزْتُ ما صَنَع أبي، ولكني أردتُ أن أُعلم النِّساء أن ليس إلى الآباء من الأمر مِن شيءٍ(7).
قال الشَّوكانيُّ في «نيل الأوطار»: «ظاهر أحاديث الباب أن البكرَ البالغةَ إذا زُوجت بغير إذنها لم يَصِحَّ العقدُ، وإليه ذهب الأوزاعيُّ والثوريُّ والعترة والحنفية(8)، وحكاه الترمذيُّ عن أكثر أهل العِلْمِ. وذهب مالكٌ(9) والشافعي(10) والليث وابن أبي ليلى وأحمد(11) وإسحاق إلى أنه يجوز للأب أن يُزوِّجَها بغير استئذانٍ، ويَرُدُّ عليهم ما في أحاديث الباب من قولِه: «وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا»… إلخ»(12).
وقال ابنُ القيِّم بعد أن ذَكَر طرفًا من هذه الأحاديث: «ومُوجَب هذا الحكم أنه لا تُجبر البكرُ البالغ على النِّكاح ولا تُزوَّج إلا برضاها، وهذا قولُ جمهور السلف، ومذهب أبي حنيفة، وأحمد(13) في إحدى الروايات عنه، وهو القولُ الذي نَدِين لله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافقُ لحكم رسول الله ﷺ وأَمْره ونهيه، وقواعد شريعته ومصالح أمته.
أمَّا موافقتُه لحكمه فإنه حَكَم بتخيير البِكر الكارهة(14)، وأما موافقةُ هذا القول لأمره فإنه قال: «وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ»(15)، وهذا أمرٌ مُؤكد؛ لأنه ورد بصيغة الخبر الدالِّ على تحقُّق الـمُخبَر به وثبوته ولزومه، والأصلُ في أوامره أن تكونَ للوجوب ما لم يَقُم إجماعٌ على خلافه.
وأما موافقتُه لنهيه فلقوله: «لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ»(16) فأمرٌ ونهيٌ، وحكم بالتخيير، وهذا إثباتٌ للحكم بأبلغ الطُّرُق.
وأما موافقته لقواعد شرعه فإن البكرَ البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرَّف أبوها في أقلِّ شيءٍ مِن ملكها إلا برضاها، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها، فكيف يجوز أن يُرِقَّها (أي يجعلها رقيقة) ويخرج بُضْعَها (أي فرجها) منها بغير رضاها إلى من يريده هو وهي مِن أكره النَّاس فيه، وهو من أبغض شيءٍ إليها، ومع هذا فينكحها إيَّاه قهرًا بغير رضاها إلى من يريده ويجعلها أسيرةً عنده، كما قال النَّبيُّ ﷺ: «أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ» أي أُسارى(17).
ومعلومٌ أن إخراجَ مالها كلِّه بغير رضاها أسهلُ عليها من تزويجها بمن لا تختاره وبغير رضاها، ولقد أبطل مَن قال: إنها إذا عيَّنت كُفُؤًا تُحِبُّه وعيَّن أبوها كفؤًا فالعبرة بتعيينه ولو كان بغيضًا لها قبيح الخلقة.
وأما موافقتُه لمصالح الأمة فلا يخفى مصلحة الثَّيِّب في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصول مقاصد النِّكاح لها به، وحصول ضد ذلك بمن تُبغضه وتنفر عنه.
فلو لم تأتِ السُّنةُ الصَّريحة بهذا القول لكان القياسُ الصَّحيح وقواعد الشَّريعة لا تقتضي غيرَه، وبالله التَّوفيق»(18). وناقش ابن القيم أدلةَ المخالفين وأبطلها.
ومما تقدَّم نعلم أنه يجب على وليِّ المرأة أن يستأذنها في تزويجها ويعلم رضاها؛ فإن الزَّواجَ معاشرةٌ دائمة وشركة قائمة بين الرَّجُل والمرأة، ولا يدوم الحبُّ والوئام، ولا يتمُّ الودُّ والانسجام بينهما إلا إذا رضيت به ورضي بها.
ومن هنا منع الشَّرْعُ إكراهَ المرأة بكرًا كانت أو ثيِّبًا على الزَّواج وإجبارها على من لا رغبة لها فيه، وجَعَل العقد عليها قبل استئذانها غيرَ صحيحٍ، ولها حقُّ المطالبة بالفسخ إبطالًا لتصرفات الوليِّ المستبد، فأتمروا بينكم بمعروف لحلِّ هذه المشكلة وقد علمتم حكم الشَّارع فيها. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.

________________________

(1) أخرجه أحمد (1897).

(2) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/219) حديث (1897)، وأبو داود في كتاب «النكاح» باب «في الثيب» حديث (2098)، والنسائي في كتاب «النكاح» باب «استئمار الأب البكر في نفسها» حديث (3264).

(3) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/334) حديث (3087)، وأبو داود في كتاب «النكاح» باب «في الثيب» حديث (2100)، أخرجه النسائي في كتاب «النكاح» باب «استئذان البكر في نفسها» حديث (3263).

(4) أخرجه البخاري في كتاب «الإكراه» باب «لا يجوز نكاح المكره» حديث (6945).

(5) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/273) حديث (2469)، وأبو داود في كتاب «النكاح» باب «في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها» حديث (2096)، وابن ماجه في كتاب «النكاح» باب «من زوج ابنته وهي كارهة» حديث (1875)، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2096).

(6) أخرجه أحمد في «مسنده» (4/394) حديث (19534)، والدارمي في كتاب «النكاح» باب «في اليتيمة تزوج» حديث (2185)، وابن حبان في «صحيحه» (9/396) حديث (4085)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/280) وقال: «رجال أحمد رجال الصحيح».

(7) أخرجه أحمد في «مسنده» (6/136) حديث (25087)، والنسائي في كتاب «النكاح» باب «البكر يزوجها أبوها وهي كارهة» حديث (3269) من حديث عائشة ل.
وأخرجه ابن ماجه في كتاب «النكاح» باب «من زوج ابنته وهي كارهة» حديث (1874) من حديث بريدة بن الحصيب، وذكره الكناني في «مصباح الزجاجة» (2/102) وقال: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات».

(8) جاء في «المبسوط» من كتب الحنفية (5/2-3): «وإذا زوج الرجل ابنته الكبيرة، وهي بكر فبلغها فسكتت فهو رضاها، والنكاح جائز عليها وإذا أبت وردَّت لم يجز العقد عندنا… وحجتنا في ذلك حديث أبي هريرة وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد نكاح بكر زوجها أبوها وهي كارهة. وفي حديث آخر قال: في البكر يزوجها وليها: فإن سكتت فقد رضيت وإن أبت لم تكره. وفي رواية: فلا جواز عليها».

(9) جاء في «حاشية العدوي» من كتب المالكية (2/41-42): «(وللأب إنكاح) أي جبر (ابنته البكر) على النكاح ممن شاء ولو كان أقل من صداق المثل (بغير إذنها، وإن بلغت) ولو عانسًا ما لم يضر بها، أما إذا أضر بها كتزويجها من مجبوب أو أبرص ونحوهما، فليس له جبرها».
(10)جاء في «حاشيتي قليوبي وعميرة» من كتب الشافعية (3/224-225): «(وللأب تزويج البكر صغيرة، وكبيرة بغير إذنها) لكمال شفقته، (ويستحب استئذانها) أي الكبيرة تطييبًا لخاطرها».

(11) جاء في «الإنصاف» من كتب الحنابلة (8/54-55): «المسألة الرابعة: البكر التي لها تسع سنين فأزيد، إلى ما قبل البلوغ: له تزويجها بغير إذنها. على الصحيح من المذهب. وعليه جماهير الأصحاب. وقطع به الخرقي. والمصنف في العمدة، وصاحب الوجيز، وغيرهم. وقدمه في المغني، والشرح، وقالا: هذا المشهور. وقدمه أيضا في النظم، والرعايتين، والحاوي الصغير. والفروع، والفائق، وغيرهم».
وجاء في «كشاف القناع» من كتب الشافعية (5/43): «(و) للأب (تزويج بناته الأبكار ولو بعد البلوغ) لحديث ابن عباس مرفوعا: الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها صماتها. رواه أبو داود فلما قسم النساء قسمين وأثبت الحق لأحدهما دل على نفيه عن الآخر وهي البكر فيكون وليها أحق منها بها، ودل الحديث على أن الاستئمار هنا والاستئذان في حديثهم مستحب غير واجب».

(12) «نيل الأوطار» (6/255).

(13) جاء في «الإنصاف» من كتب الحنابلة (8/54-55): «… وعنه: لا يجوز تزويج ابنة تسع سنين إلا بإذنها. قال الشريف أبو جعفر: هو المنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله. قال الزركشي: وهي أظهر. وأطلقهما في الهداية. والمذهب. والمستوعب. والخلاصة، والمحرر، والقواعد الأصولية. وغيرهم. واختار أبو بكر، والشيخ تقي الدين رحمهما الله: عدم إجبار بنت تسع سنين بكرًا كانت أو ثيبًا. قال في رواية عبد الله: إذا بلغت الجارية تسع سنين فلا يزوجها أبوها ولا غيره إلا بإذنها. قال بعض المتأخرين من الأصحاب: وهو الأقوى».
وجاء في «كشاف القناع» من كتب الحنابلة (5/43): «(و) للأب (تزويج بناته الأبكار ولو بعد البلوغ) لحديث ابن عباس مرفوعا: الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها صماتها. رواه أبو داود فلما قسم النساء قسمين وأثبت الحق لأحدهما دل على نفيه عن الآخر وهي البكر فيكون وليها أحق منها بها، ودل الحديث على أن الاستئمار هنا والاستئذان في حديثهم مستحب غير واجب».

(14) سبق ذكره وتخريجه حديث (2469).

(15) سبق تخريجه بالسكوت» حديث (1421).

(16) أخرجه البخاري في كتاب «الحيل» باب «في النكاح» حديث (6968) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

(17) أخرجه مسلم (1163).

(18) «زاد المعاد» (5/98).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 النكاح, 12 فتاوى المرأة المسلمة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend