حول غَيْرَة الضرائر من بعضهن وتصرف الزوج معهن

هل يجوز للزوجة الثانية أن لا تقبل أن تُحفِّظ الزوجة الأولى أولادَها القرآن، بل تقطع تعليقات الزوجة الأولى في كراسة المتابعة بشكل مقزز، بل يصل الأمر أن تهدي الزوجة الأولى أحدَ الأولاد مصحفَ المدينة وتكتب إهداء عليه، فتقطع الزوجة الثانية الورقة المكتوب عليها الإهداء من المصحف.
كل ذلك أذاني أنا (الزوج) أيَّما أذية، وجعلني أنفر منها جدًّا بسبب هذه الكراهية والغَيْرَة من أختها المسلمة.
وللعلم الزوجة الأولى لا تحتك بها تمامًا، كما أنها بارعة في تحفيظ الأولاد القرآن.
هل هذا من أخلاق المسلمين؛ ناهيك عن الملتزمين؟ أفتونا مأجورين.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فأبدأ بالقول بأن الله جل وعلا كما ابتلى النساء بالغَيْرَة ابتلى الرجال بالعدل، فهذه بتلك، وسبحان من عدل في حكمه بين العباد.
إن من لم يأنس في نفسه القدرة على العدل فلا ينبغي له أن يُقبل على شريعة التعدد، فقد قال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: 3]. ومن البدهي أن يكون العدلُ الذي أنيطت به مشروعية التعدُّد ليس هو العدل المطلق، الذي لا تطيقه النفس البشرية، ولا تقدر عليه لو حرصت، وإلا لكانت هذه الشريعة منسوخة بعد قوله تعالى:﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 129]. وإنما المقصود أنه إذا مالت قلوبُكم إلى واحدة دون غيرها، وهذا أمر لا مؤاخذة عليكم به، فلا يمنعكم ذلك من فعل ما كان في وسعكم، من التسوية في القَسْم والنفقة، وعدم الإساءة إليهن، ماديًّا ومعنويًّا، لأن هذا مما يُستطاع، ويُطالب به المكلَّف، أما الحبُّ وما يتبعه من الجماع فهو غير مقدور عليه للمكلف فعفي عنه، وفي الحديث: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ»(1).
فالعدل المطلوب إذن هو العدل المقدور للبشر، في باب المبيت والنفقة وحسن التعامل ونحوه، بحيث لا يميل كلَّ الميل فيذر إحدى الزوجتين كالمعلقة.
ولقد هُجرت هذه الشريعة ردحًا من الزمن، حتى أوشكت أن تكون مجرمةً في بعض المواقع، بل لقد جُرِّمت بالفعل على مستوى القواعد القانونية في بعض البلدان، وأصبح من النساء من يسوءهن أن يقال لإحداهن: إن زوجها قد ارتبط بزوجة أخرى. أكثر مما يسوءها لو قيل لها: إنه اتخذ صديقة أو عشيقة.
وإننا لنتفهم كُرْهَ المرأة للضُرَّةِ، ورغبتها الفطرية في الاستئثار بزوجها. فضُرَّة المرأة: امرأة زوجها، سميت بذلك لما يكون بينهما في العادة من المضارة، بل ونتفهَّم ما قد يحملها عليه ذلك من شذوذ في بعض المواقف والتصرفات، وينبغي للزوج الذي قُدِّر له أن يتخذ زوجةً أخرى أن يتفهم هذه المعنى، وأن يكون من أوسع الناس صدرًا، وأرحب الناس أُفُقًا، وأكثر الناس صبرًا وحلمًا. والأسوة في هذه كله هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وحرِيٌّ بمن كانت له أكثر من زوجة أن يقف على هديه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع نسائه.
فعن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادمٍ بقَصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمَّها، وجعل فيها الطعامَ، وقال: «كُلُوا». وحبس الرسولَ والقصعة حتى فرغوا؛ فدفع القصعةَ الصحيحة وحبس المكسورة(2). وفي رواية ابن علية: فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصَّحْفَة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: «غَارَتْ أُمُّكُمْ»(3). ولأحمد: فأخذ الكِسْرَتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل فيها الطعام(4).
يقول الحافظ ابن حجر: «وقوله صلى الله عليه وسلم: «غَارَتْ أُمُّكُمْ» اعتذار منه صلى الله عليه وسلم لئلا يحمل صنيعها على ما يُذَم، بل يجري على عادة الضرائر من الغَيْرَة فإنها مركبة في النفس بحيث لا يقدر على دفعها. وقال ابن العربي: وكأنه إنما لم يؤدِّب الكاسرة ولو بالكلام لما وقع منها من التعدِّي لما فَهِمَ من أن التي أهدت أرادت بذلك أذَى التي هو في بيتها والمظاهرة عليها، فاقتصر على تغريمها للقصعة»(5).
فصلوات الله وسلامه على أعدل الناس، وأحلم الناس، وأرفق الناس بالناس.
وإننا لندرك كذلك أن فشلَ كثير من تجارب التعدُّد، وانتهاؤها بكارثة في بعض المواضع، كان له أثره البالغ في تشويه كلمة التعدُّد، وإليه يرجع ما منيت به من سوء السمعة في معظم المواقع. وتتخذ الكارثة إحدى صورتين:
فشل الحياة الزوجية الأولى، وهيمنة الزوجة الثانية على عقل زوجها وقلبه، وحمله على هجر زوجته الأولى وأولاده منها، واستئثارها بوُدِّه ومشاعره ووجهه وماله، فلا يبقى للزوجة الأولى إلا مرارة الذكريات وعذاباتها، ووجيعة الغدر والهجر.
أو فشل الحياة الزوجية الثانية، وعجز الزوج عن مقاومة طبول الحرب التي تدقُّها الزوجة الأولى، وتوظيفها لبعض القوانين المعاصرة- خاصة بالنسبة لمن يقيمون في الغرب- يظاهرها على ذلك بعض التجمعات النسوية اللاتي تقاسمن على إفشال أي بادرة للتعدد، حتى لا تكون سابقة تحمل زوجها على تكرارها والتأسي بها، والضحية هي الزوجة الثانية، التي تعجز أسلحتها النسوية عن الصمود في هذه المواجهة، التي تجيش فيها أمضى أسلحة الزوجة الأولى، وأكثرها فتكًا، وهو التهديد بالأولاد واستخدامهم ضرارًا في هذا المعترك، والتهديد بالقوانين التي تنصُّ على مقاسمة المرأة المطلقة لزوجها في كل ممتلكاته، وتحمله حتى أتعاب المحاماة ما دامت لا تقوى على ذلك.
وقليلةٌ هذه التجارب التي استطاع فيها الزوج أن يقف عند حدود الله عز وجل، وأن يحافظ على التوازُن البديع المعجز الذي جاءت به الشريعة في هذا المجال، ومن هنا تُدرك طرفًا من الإعجاز التشريعي في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: 3].
وقد جرَّت العادة أن تكون ردودُ أفعال الزوجة الأولى هي الأعنف، وأن يكون شعورها بالضرر الواقع عليها هو الأظهر والأبين، ولهذا ما يفسره في الواقع، فقد كانت مستأثرة بزوجها نفسيًّا وبدنيًّا وماليًّا، ثم وجد من يشاركها في ذلك كله، ويبقى بالإضافة إلى ذلك ظلال الخوف من المستقبل المجهول في ظل هذه التطورات، هل ستبقى الزوجة الأولى كما كانت في بؤرة اهتمام زوجها وموضع رعايته وحدبه؟! أم ستتوارى في ظلال الجحود والتجاهل؟! هل سيبقى أولادها في بؤرة اهتمام أبيهم كما كانوا؟! أم وجد من يستحوذ عليه نفسيًّا وعاطفيًّا، ويستهلكه ماديًّا ومعنويًّا؟!
أما الزوجة الثانية فقد جاءت على وضع تعرِفُه سلفًا، وهيأت نفسها له، ولم تفاجأ منه بشيء، فمن الطبيعي أن تكون أهدأَ من الزوجة الأولى في التعامل مع هذا الموقف، وأقدر على احتواء العواصف النفسية، والأزمات العاطفية، إلا إذا استصحبت فشل تجارب التعدُّد، واختزنت ذاكرتها مرارات هذه التجارب وعذاباتها، وباتت تطاردها أشباحُ انهيار هذه العلاقة، وهواجس انتهائها بغتة، وأنها لم تكن إلا نزوة عارضة وصبوة طارئة، ستسحقها حجافل الزوجة الأولى ومكائدها.
ومن يعيشون تحت وطأة هذه الهواجس قلَّ أن تتوقع منهم إلا التوتر والاحتقان، ودوام الهلع والفزع والجزع، وهذا يُوجب على الزوج بطبيعة الحال أن يجتهد في نزع هذه الهواجس من نفس زوجته، وأن يبدد هذه الشكوك التي تطاردها وتقض مضجعها، وأن يراقب أقوله وأفعاله وتصرفاته معها، فقد يكون منه من شوارد القول أو شوارد النظرات ما يزيد هذه الحرقة، ويعمق هذه الوجيعة.
وإنني في هذه الواقعة أعجبُ من تصلُّب الزوجة الثانية من مساعدة الزوجة الأولى لها في تنشئة أولادها وتحفيظهم لكتاب الله عز وجل، إنه يبدو مسلكًا غريبًا لا تقتضيه طبائعُ الأشياء، اللهم إلا إذا تضمن في ثناياه حطًّا على هذه الزوجة الثانية، واتهاما لها بالقصور في تربية أولادها، وعجزها عن تنشئتهم على الصلاح، أو إعانتهم على حفظ كتاب الله عز وجل، ورسالة مباشرة أو غير مباشرة بأن الزوجة الأولى لا تزال هي الأقدر والأنفع والأصلح، في عالم تشيع فيه ثقافة البقاء للأصلح، فهنا تتحرك مشاعر الغَيْرَة الفطرية التي لا تزال كامنةً في نفوس الزوجتين، بل قد تكون في هذه الحالة أعنف؛ لأنها تدافع عن جدوى وجودها في حياة زوجها، وتريد أن تؤكد أنها ليست كلًّا عليه حتى في تربية أولادها، وأنها قادرة على إسعاد زوجها ورعاية أولاده، فليراجع الزوج الموقف من هذه الناحية، فإنها دقيقة المسارب، وقد تتوارى خلف غلالة رقيقة من الأريحية، ودعاوى التضحية وإنكار الذات.
كان كل ما مضى تفسيرًا لهذه الظواهر، ولكن يبقي بعد ذلك الدعوة إلى مخالفة النفس الأمارة بالسوء، والتعامل مع المواقف بالعدل الذي به قامت السموات والأرض، وأن ندرك أن الحياة قصيرة، ولا يجوز أن نستهلكها في هذه الصغائر، وأن الزوجة التي تسعر الحرائق في بيت زوجها مع كل شاردة وواردة، إنما تسعى في هدم عشها بيديها، وتسعى في إيغار صدر زوجها عليها، وحمله على مفارقتها من حيث أرادت التمسُّك به والمحافظة عليه، إنها تكون كمن يطلق النار على ساقه ليعقر نفسه.
إن الزوج قد ارتبط بهذه الزوجة الثانية لتحقيق مزيد من الاستقرار والسعادة في حياته، فإن أدى ذلك إلى نقيض المقصود، وفتح عليه أبوابًا من الفتن والتصدعات النفسية فقد يدفعه ذلك إلى العودة إلى مواقعه الأولى التي ألفها، وتعود على أوجاعها، وهو في غنى عن أن يضيف إليها أوجاعًا جديدة، وعذابات مزيدة، فهل تعقل أخواتنا ذلك؟!
وأخيرًا نقول للجميع: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وخيرٌ للموفَّق أن يستثمر وقته في عمل صالح يقربه من الله عز وجل، خاصة إذا كان قد بلغ الأربعين من عمره، فإن فقه ما بعد الأربعين هو ترك ما لا ينفع في الآخرة؛ كما قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف: 15]. والله تعالى أعلى وأعلم.

____________________

(1) أخرجه أبو داود في كتاب «النكاح» باب «في القسم بين النساء» حديث (2133)، والترمذي في كتاب «النكاح» باب «ما جاء في التسوية بين الضرائر» حديث (1141) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وذكره ابن الملقن في «البدر المنير» (8/37) وقال: «هذا الحديث صحيح».

(2) أخرجه البخاري في كتاب «المظالم والغصب» باب «إذ كسر قصعة أو شيئًا لغيره» حديث (2481).

(3) أخرجه البخاري في كتاب «النكاح» باب «الغيرة» حديث (5225).

(4) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/105) حديث (12046).

( 5) «فتح الباري» (5/126).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 النكاح, 12 فتاوى المرأة المسلمة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend