حكم سفر المرأة من غير محرم

ما حكم سفر المرأة من غير محرم؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
الأصل في سفر المرأة بدون محرم هو التحريم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا مَحْرَمٌ»(1).
وفي رواية: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إِلَّا مَعَ ذِي حُرْمَةٍ مِنْهَا»(2). وفي رواية: ««يَوْمَيْنِ»»(3)، وفي رواية: ««ثَلَاثَة»»(4)، وفي رواية: ««يَوْم وَلَيْلَة»»(5). وفي رواية: ««لَا تُسَافِرِ امْرَأَةٌ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»» رواه مسلم(6).
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : ««لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرِ الْـمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»». فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجَّة، وإني اكْتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا. قال: «ا«نْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ»»(7).
قال أبو العباس القرطبي في «المفهم»: «قوله صلى الله عليه وسلم  للرجل: «انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» هو فَسْخ لما كان التزم من المُضِيِّ للجهاد ويدل على تأكُّد أمر صيانة النساء في الأسفار»(8). اهـ.
واستثنى بعض أهل العلم السفر الواجب للحج، فأجازه مع الرفقة المأمونة؛ لما أخرجه البخاري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه  قال: «أَذِن عمر رضي الله عنه  لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم  في آخر حَجَّة حَجَّها، فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف»(9). وهم ليسوا محارم بالنسبة لهن، وإن ذلك كان بمحضر من الصحابة، فانعقد ذلك إجماعًا على جواز سفر المرأة في الحج مع الرفقة المأمونة.
كما استدلوا بما روي من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه  أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الحيرة بالعراق تَؤُمُّ البيتَ لا زَوْجَ مَعَهَا لا تخَافُ إلَّا اللهَ…»(10).
قال ابن حجر: (وفيه: اتفاق عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ونساء النبي صلى الله عليه وسلم  على ذلك، وعدم نكير غيرهم من الصحابة عليهن في ذلك… ولحديث عَدِيِّ بن حاتم مرفوعًا: «يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الـحِيرَةِ تَؤُمُّ الْبَيْتَ لَا زَوْجَ مَعَهَا…» الحديث، وهو في البخاري. وتُعقِّب بأنه يدل على وجود ذلك لا على جوازه. وأجيب بأنه خبر في سياق المدح ورفع منار الإسلام، فيُحمل على الجواز)(11). اهـ.
أما ما سوى ذلك من الأسفار المشروعة كحج التطوع أو السفر لزيارة أقارب أو لتجارة ونحوه فإن الجمهور(12) على المنع من سفرها بغير محرم؛ للأحاديث القاضية بالمنع، وأجاز بعضهم ذلك مع أمن الفتنة، ووجه هذه الأحاديث بأن مناطها عند الخوف من الفتنة، كما كان هو الشأن في الأسفار في ذلك الزمان، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية : هذا القول، حكاه عنه ابن مفلح في «الفروع» بقوله: «وعند شيخنا: تحجُّ كل امرأة آمنة مع عدم المحرم. وقال: إن هذا مُتَوَجِّه في كل سفر طاعة. كذا قال :»(13). اهـ.
وقال ابن عبد البر في «الاستذكار»: «والذي جَمَعَ معاني آثار الحديث على اختلاف ألفاظه أن تكون المرأة تُمْنَع من كل سفر يُخْشى عليها فيه الفتنة، إلا مع ذي محرم أو زوج، قصيرًا كان السفر أو طويلًا. والله أعلم»(14). اهـ.
والذي نراه- والله تعالى أعلم- هو استثناء السفر الواجب للحج أو العمرة مع الرفقة المأمونة للأدلة الواردة في ذلك، ويبقى الأصل فيما وراء ذلك هو المنع، عملًا بالنصوص الصحيحة الصريحة الواردة في ذلك.
وقد عُرض هذا الأمر على مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا في دورة انعقاد مؤتمره السادس بمونتريال بكندا، وانتهى فيها إلى هذا القرار الذي نسوقه لك بنصه تتميمًا للفائدة:
الأصل ألا تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي رحم محرم، ويجوز عند إذن الزوج أو الولي وتوافر الرفقة المأمونة وانتفاء الريبة سفر المرأة بدون محرم لحاجة مُعتبَرة، كحضور ملتقيات إسلامية نافعة، أو صلة رحم، أو حقوق لازمة، كسؤال حاكم، أو رفع دعوى ونحوه، إذا كان لها محرم في بلد الوصول، أو أمنت فيه الفتنة.
ولكن يبقى أن في الباب رخصةً فقهية تتمثل في هذا الاجتهاد الفقهي الذي يجيز ذلك في كل سفر مباح إذا وجدت الرفقة المأمونة، قياسًا على السفر في الحج والعمرة.
والرخص الفقهية يقصد بها ما جاء من الاجتهادات المذهبية مبيحًا لأمر في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره، والأخذ بالرخص الفقهية جائز بالضوابط الآتية:
• أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعًا، ولم توصف بأنها من شواذ الأقوال.
• أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة دفعًا للمشقة، سواء أكانت حاجة عامة للمجتمع، أم خاصة، أم فردية.
• أن يكون الآخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار، أو يعتمد على من هو أهل لذلك.
• ألا يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع.
• أن تطمئن نفس المترخص للأخذ بالرخصة.
• ألا يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع.
ويكون التلفيق ممنوعًا في الأحوال الآتية:
• إذا أدى إلى الإخلال بضابط من الضوابط السابقة.
• إذا أدى إلى نقض حكم القضاء.
• إذا أدى إلى نقض ما عمل به تقليدًا في واقعة واحدة.
• إذا أدى إلى مخالفة الإجماع.
• إذا أدى إلى حالة مركبة لا يقرها أحد المجتهدين. والله تعالى أعلى وأعلم.

____________________

(1) أخرجه مسلم في كتاب «الحج» باب «سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره» حديث (1338) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه .

(2) أخرجه مسلم في كتاب «الحج» باب «سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره» حديث (1339) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

(3) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الحج» باب «حج النساء» حديث (1864)، ومسلم في كتاب «الحج» باب «سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره» حديث (827)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه .

(4) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الجمعة» باب «في كم يقصر الصلاة» حديث (1087)، ومسلم في كتاب «الحج» باب «سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره» حديث (1338) من حديث ابن عمر رضي الله عنه .

(5) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الجمعة» باب «في كم يقصر الصلاة» حديث (1088)، ومسلم في كتاب «الحج» باب «سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره» حديث (1339) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

(6) أخرجه مسلم في كتاب «الحج» باب «سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره» حديث (827) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه .

(7) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الجهاد والسير» باب «من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة» حديث (3006)، ومسلم في كتاب «الحج» باب «سفر المرأة مع محرم» حديث (1341) من حديث ابن عباس ب.

(8) «المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» (3/453).

(9) أخرجه البخاري في كتاب «الحج» باب «حج النساء» حديث (1860).

(10) أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «علامات النبوة في الإسلام» حديث (3595).

(11) «فتح الباري» (4/76).

(12) جاء في «فتح القدير» من كتب الحنفية (2/419-423): «(ويعتبر في المرأة أن يكون لها محرم تحج به أو زوج، ولا يجوز لها أن تحج بغيرهما إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام)».

وجاء في «شرح مختصر خليل للخرشي» من كتب المالكية (2/287-288): «(ص) وزيادة محرم، أو زوج (ش) معطوف على بعيد مشى، والمعنى أن المرأة تزيد في تعلق الوجوب بها على الرجل أن تجد محرمًا من محارمها يسافر معها أو زوجا لقوله عليه السلام:« لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوما وليلة إلا ومعها محرم».
وجاء في «كشاف القناع» من كتب الحنابلة (2/394-396): «فصل: ويشترط لوجوب الحج على المرأة. شابة كانت أو عجوزا مسافة قصر، ودونها: وجود محرم… (وكذا يعتبر) المحرم (لكل سفر يحتاج فيه محرم) أي: لكل ما يعد سفرا عرفا، و (لا) يعتبر المحرم إذا خرجت (في أطراف البلد مع عدم الخوف) عليها؛ لأنه ليس بسفر (وهو) أي المحرم (معتبر لمن لعورتها حكم وهي بنت سبع سنين فأكثر)؛ لأنها محل الشهوة بخلاف من دونها».
(13) «الفروع» (3/236).

(14) «الاستذكار» (27/274).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 النكاح, 12 فتاوى المرأة المسلمة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend