تمليك المرأة نفسها لرجل كأَمَةٍ

فضيلة الأستاذ الدكتور/ صلاح الصاوي، حفظه الله ورعاه.
لعل فضيلتكم سمعتم بالفتنة التي أثارها مؤخرًا الشيخ عبد الرءوف عون، الذي أفتى بجواز أن تختار أيُّ فتاةٍ أن تنتقل من الحرية إلى الرِّق، وأن تُملِّك نفسها لرجلٍ فيصير سيدها، بلا زواج، ولا يلزمها بعد ذلك حجاب، وتسري عليها أحكام الإماء.
ويحاول الرجل تعميمَ زواج ملك اليمين، مؤكدًا مشروعيته، وأنه شخصيًّا تزوج بهذه الطريقة، مؤكدًا أن هذه الفكرة كانت تراوده منذ حوالي 15 سنة.
ويشرح طريقة ذلك الزواج المزعوم، وأنه ينعقد بأن تقول المرأة: ملَّكتُك نفسي. فيرد الزوج: وأنا قبلت، وكاتبتُكِ على سورة الإخلاص.
مشيرًا إلى أن هذا النوع من الزواج لا يُشترط توثيقه عند مأذون شرعي، وتقوم المرأة بترديد: ملكتك نفسي. ولا تقول: زوجتك نفسي.
ولفضيلتكم أن تتصور حجم المفاسد التي يمكن أن تترتب على هذا الجنون، خاصة مع استضافة القنوات الخاصة للرجل كثيرًا للترويج لهذه الفتنة.
أرجو من فضيلتكم إصدار فتوى عاجلة بهذا الخصوص، لو سمحت ظروف وقتكم، وكذلك نصائحكم الخاصة له. ونسأل الله لنا ولكم التوفيق، وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فأدعو صاحب هذه المقولة إلى تأمُّل هذه المعالم، آملًا أن يمتهد له من خلالها طريق إلى مراجعة الحق، وانشراح صدره به، ووالله إن استحياءه بالتوبة لأحب إلى الله وإلى عباده المؤمنين من هلاكه بهذه الفتنة.
وأدعو له في صدر هذا الجواب أن يشرح الله صدره للحق، وأن يرده إليه ردًّا جميلًا، وألا يجعله فتنةً لدعاة التغريب وتُجَّار الشنطة الثقافية في بلاد المسلمين الذين يصلون الليل بالنهار فتنةً وتلبيسًا وكيدًا وكذبًا على الله ورسوله.
اللهم اجعل توبته قرة عين لأوليائك، وغيظًا لأعدائك. اللهم آمين.
يرد على هذه الدعوة جملة من القوادح التي يكفي واحدٌ منها لنقضها، فلنتبين ذلك من خلال التأمل في هذه المعالم:
لا يجوز استرقاق الحرِّ ولو رضي بذلك، فلا يجوز للحرِّ أن يهب نفسه لغيره عبدًا له، كما لا يجوز له أن يقتل نفسه؛ لأن نفسه ليست ملكًا له، بل هي مِلكٌ لخالقه جل وعلا.
والاسترقاق أخُ الموت؛ ولأن ذلك يتنافى مع مقاصد الشريعة وتكريم الله تعالى للإنسان، وتشوُّف الشارع للحرية.
فمن القواعد المتفق عليها: أن الأصل في الإنسان الحرية. وقد اتفقت كلمة الفقهاء على أن اللقيط إذا وُجد ولم يُعرف نسبُه كان حرًّا، وإن احتمل أنه رقيق.
قال ابن المنذر: «أجمع أهلُ العلم على أن اللقيطَ حرٌّ»(1).
وقال صاحب «الشرح الكبير»: «فإن الأصلَ في الآدميين الحرية؛ فإن اللهَ تعالى خلق آدم وذريته أحرارًا، وإنما الرِّقُّ لعارضٍ، فإذا لم يُعلَم العارض، فله حكم الأصل، فلا يجوز ابتداءً استرقاقُ المسلم، واسترقاق الكافر إنما يقع جزاءً لاستنكافه عن العبودية لله تعالى، فجازاه الله بأن يصير عبدًا لعباده»(2).
قال الحموي في «غمز عيون البصائر»: «لا يجوز استرقاق الحُرِّ برضاه؛ لما فيه من إبطال حقِّ الله تعالى»(3). اهـ.
وكذا قال ابن الهمام في «فتح القدير»(4)، والكاساني في «بدائع الصنائع»(5).
استرقاق الحر سعيٌ في مناقضة مقصود الشارع:
فالسعي إلى تجديد الاستعباد وإحيائه على النحو المذكور مراغمة لمقصود الشارع وسعي في نقيض ما قصده في هذه القضية؛ فإن الحريةَ في المفهوم الإسلامي ليست مجرد حقٍّ من الحقوق، يجوز لصاحبها أن يتنازل عنها متى شاء كما هو الحال في الرؤية الغربية، ولكنها ضرورةٌ من الضرورات الإنسانية، وتكليف شرعي واجب الالتزام، وهي حقٌّ لله تعالى فلا يقدر أحدٌ على إبطاله إلا بحكم الشرع، فلا يجوز إبطال هذا الحق.
ومقام الحرية في الإسلام يساوي مقام الحياة، التي هي نقطة البدء والمنتهى بالنسبة للإنسان، ولذلك اعتبر الإسلامُ الرِّقَّ والاستعباد بمثابة الموت، واعتبر الحرية وسبيلها العتق بمثابة الإحياء والحياة.
ولدى فقهائنا تعبيرٌ ما فتئوا يذكرونه، أَلَا وهو تشوُّف الشارع إلى العتق، فالشارع يتشوَّف إلى العتق حتى لو تلفَّظ رجلٌ بالعتق على سبيل الهَزْل؛ فإنه يُؤخذ به ويعتق عليه عبيده، «ثَلَاثَةٌ هَزْلُـهُنَّ جِدٌّ وَجِدُّهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ»(6).
وفي تفسير الإمام النَّسَفي (710هـ= 1310م) لقول الله ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: 92]: «إن القاتل لما أخرج نفسًا من جملة الأحياء، لزمه أن يُدخل نفسًا مثلها في جملة الأحرار؛ لأن إطلاقَها من قيد الرِّقِّ كإحيائها؛ لأن الرِّقَّ موتٌ، والحرية حياة»(7).
مصادر الرِّقِّ في الشريعة:
هذا، ولا يدخل المرء في الاسترقاق في الشريعة إلا بواحدٍ من هذه الأمور الثلاثة:
1- الاسترقاق: وهذا لا يكون إلا للأسرى والسَّبْي من المحاربين من غير المسلمين في الحروب المشروعة التي تقع بيننا وبينهم، فلا يجوز ابتداءً استرقاقُ المسلم؛ لأن الإسلامَ يُنافي ابتداءً الاسترقاق؛ فقد جعل الاسترقاق كما سبق جزاءً لاستنكاف الكافر عن عبوديته لله تعالى، فجوزي بأن يصير عبدًا لعبيده.
2- التناسل: فولد الأمة من غير سيِّدها يتبع أمه في الرِّق، سواء أكان أبوه حرًّا أو عبدًا؛ ولهذا لا يجوز للأحرار الزواج من الإماء إلا عند خشية العنت وعدم القدرة على نكاح الحرائر، حتى لا تتسع دائرة الرِّق؛ لأن ولد الأمة سيتبع أمه في الرِّقِّ.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النساء: 25].
3- التملك: سواء أكان بالشراء أو الهبة أو الوصية ونحوها من صور انتقال الملكية من مالكٍ إلى آخر، ولا يصح ذلك إلا إذا كان حائزُ الرقبة يملكها ملكًا صحيحًا معترفًا به شرعًا، ويصح ذلك ولو كان البائع أو الواهب كافرًا ذميًّا أو حربيًّا فيصح ذلك، وقد أهدى المُقَوقِسُ للنبي ﷺ جاريتين فتسرى بإحداهما، ووهب الأخرى لحسان بن ثابت (8).
وهذه الطرق الشرعية لتملُّك الجواري لم تعد موجودةً في واقعنا المعاصر، وبالتالي فإن ما يُذكر في هذه النازلة من استرقاق الحرائر باطلٌ تدحضه قواطع الشريعة وإجماع أهل العلم، وما هو إلا ذريعة لاستباحة المحرمات تحت غطاء من الشرعية الزائفة.
ترغيب الإسلام في تحرير الرقيق لا في استرقاق الأحرار:
لقد رغَّب الإسلام ترغيبًا بليغًا في عتق الرقيق ومكاتبتهم وإعانتهم على ذلك؛ فقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُم﴾ [النور: 33].
وفي الصحيحين: عن أبي هريرة: أن النبيَّ ﷺ قال: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ من النَّارِ»(9).
وفي «المسند»: عن سَهْل بن حُنَيف: أن النبيَّ ﷺ قال: «مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ الله أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ أَوْ مُكَاتِبًا فِي رَقَبَتِهِ أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»(10).
وقد جعل الله تعالى لتحرير الرقيق وإعانة المكاتبين سهمًا من أموال الزكاة، كما هو معلوم، كما جعل عتق الرقاب كفارة لأمور يشيع حدوثها في المجتمع المسلم:
فكفارة قَتْل الخطأ عِتْق رقبة(11)، وكفارة الظهار عِتْق رقبة(12)، وكفارة الأيمان عتق رقبة(13)، وكفارة الجماع في نهار رمضان عتق رقبة(14).
وبهذا التضييق لروافد الرِّق والتوسيع لمنافذ العتق أصبح الرِّقُّ أشبهَ ما يكون بجَدْولٍ كَثُرت مَصَابُّه، وانقطعت عنه موارده التي يستمدُّ منها الماء، وخليق بجدول كهذا الجدول أن يكون مصيره إلى الجفاف.
وهكذا فمقصود الشارع وتكاليفه تنحو نحو تحرير الرقيق وليس استرقاق الأحرار.
التعارض بين الاسترقاق والزواج:
فرابطة ملك اليمين أقوى من رابطة الزواج، فثمة تناقض بين القول بالاسترقاق وبين تسمية هذه العلاقة زواجًا، وإن المرأةَ إذا صح أنها صارت أمةً مملوكة فإنها توطأ بملك اليمين وليست محتاجة إلى عقد النكاح في علاقتها بسيدها، بل لا يجوز مثل هذا العقد ابتداءً! فلا يجوز للسيد أن يتزوج أمته إلا إذا منَّ عليها بالعتق، وإنما يجوز له أن يطأها بملك اليمين؛ فإن جاءت بولدٍ منه صارت أم ولد، لا تُباع ولا تُوهب ولا تُورث، وتعتق عليه إذا مات عنها.
حتى إن الزوجَ إذا ملك زوجتَه انفسخ عقدُ نكاحهما وبقيت رابطةُ ملك اليمين، جاء في «الموسوعة الفقهية»: «فلا يتزوج السيدُ أمتَه التي يملكها، قال صاحب «الهداية»: لأن النكاح ما شرع إلا مثمرًا ثمراتٍ مشتركة بين المتناكحين، والمملوكية تُنافي المالكية، فيمتنع وقوع الثمرة على الشركة. وقال ابن قدامة: لأن ملك الرقبة يُفيد ملك المنفعة وإباحة البُضْع، فلا يجتمع معه عقدٌ أضعف منه، ولو ملك زوجته وهي أمةٌ انفسخ نكاحها. قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافًا»(15). اهـ.
وإذا كان سيتزوجها فما الحاجة إلى استرقاقها؟ اللهم إلا لكي تتخذ من الاسترقاق ذريعةً إلى كَشْف عورتها، وأن تستبيح تبرُّجها بزينةٍ على الملأ في بلاد المسلمين؟ وأن تخلع عنها رِبقة أوليائها ونظرهم لها ومحافظتهم عليها؟!
«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»(16):
ومن ناحيةٍ أخرى فإن من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، فمن ذا الذي سبق إلى هذه المقولة عبر تاريخ المسلمين؟
إن المكتبة الإسلامية كتاب مفتوح أمام الناس كافة، وقد وفَّرت ثورةُ المعلومات آلياتٍ هائلة للتواصل.
فدُلَّنا على كتابٍ من كتب المسلمين سُطِر فيه أن للمرأة الحرة أن تسترقَّ نفسها وأن تخلع عنها ثوبَ الحرية باختيارها لكي تعيش لمن اختارته سيدًا لها عيشة الإماء اللواتي يوطئن بملك اليمين؟ ثم لتتخذ من ذلك ذريعة لها لتتخلص من الحجاب الذي تذكر الفتوى أنها تكرهه ولا تُطيقه؟
ما دَخْلُ سورة «الإخلاص» في هذه القضية؟
وما دخل سورة «الإخلاص» في هذه القضية؟ إن الذي زوَّج المرأة على ما معه من القرآن زوَّجه إياها لكي يُعلمها هذه السورة، وجعل ذلك مهرًا لها في عقد زواج(17)، لا لكي يقرأها عليها فتصبح بها مملوكة له! ولكن النازلة التي معنا لا يجوز فيها الزواج ابتداءً للتنافي بين الاسترقاق والزواج كما سبق.
إنها دعوة إلى الفساد الاجتماعي بإعلان التمرُّد على مرجعية الأهل والأولياء، ودعوة إلى الفساد الأخلاقي بإعلان استباحة كَشْف المرأة ما بين السُّرة والركبة بدعوى قياس الإماء على الرجال في العورة؟
أقرب ذريعة إلى الزنى:
إن خلاصة هذه الدعوة أن تقول الفتاة لمن تريده ويريدها: لقد ملَّكتُك نفسي. فتصبح مملوكة له، فله أن يطأها بملك اليمين، وله كذلك أن يهديها لمن شاء على أن يستبرئها بحيضة، وكل ذلك بلا عقدٍ ولا مهر ولا شهود ولا رقابة من وليٍّ ولا غيره.
وزِدْ على ذلك حقَّها في أن تمشي في المجتمع كاشفةً ما بين السرة والركبة، فهل هناك طريق أقرب لترسيم العهر، وشرعنة الفاحشة، وإشاعة الانحلال الخلقي والدمار الاجتماعي أقرب من هذه الطريقة؟!
حول عورة الحرة والأمة:
أما إطلاق القول بأن عورة الأمة كعورة الرجل فهذا موضع نظر؛ فإن ذلك مُقيَّد بأمن الفتنة، ومنهم من قيَّده بأن هذا هو حدُّ العورة بالنسبة لهن في باب الصلاة وليس في باب النَّظر، وقد كانت الإماء في زمن النبوة أشبه ما يكن بالقواعد من النساء.
أما إذا تغيَّر الحال وجب أن تتغير الفتوى بتغيره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إنَّ الإماءَ في عهد الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، وإن كُنَّ لا يحتجبن كالحرائر؛ لأن الفتنة بهنَّ أقلُّ، فَهُنَّ يُشبهنَ القواعدَ من النِّساء اللاتي لا يرجون نكاحًا؛ قال تعالى فيهن: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَة﴾ [النور: 60]…».
يقول: «وأما الإماء التركيَّات الحِسَان الوجوه، فهذا لا يمكن أبدًا أن يَكُنَّ كالإماء في عهد الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، ويجب عليها أن تستر كلَّ بدنها عن النَّظر، في باب النَّظر…».
وعلَّل ذلك : بتعليلٍ جيِّدٍ مقبولٍ، فقال: «إن المقصود من الحجاب هو ستر ما يُخاف منه الفِتنة بخلاف الصَّلاة؛ ولهذا يجب على الإنسان أن يستتر في الصَّلاة، ولو كان خاليًا في مكان لا يطَّلع عليه إلا الله. لكن في باب النَّظر إنما يجب التَّستر حيث ينظر الناس…».
قال: «فالعِلَّة في هذا غير العِلَّة في ذاك، فالعِلَّة في النَّظر خوفُ الفتنة، ولا فرق في هذا بين النِّساء الحرائر والنِّساء الإماء»( ).
وقال ابن القيم : في «إعلام الموقعين»: «وأما تحريمُ النظر إلى العجوز الحرة الشوهاء القبيحة وإباحته إلى الأمة البارعة الجمال فكذب على الشارع، فأين حرم الله هذا وأباح هذا؟ والله سبحانه إنما قال: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [النور: 30]»(18).
لم يطلق الله ورسوله للأعين النظرَ إلى الإماء البارعات الجمال، وإذا خشي الفتنة بالنظر إلى الأمَة حرم عليه بلا ريب، وإنما نشأت الشبهة أن الشارع شرع للحرائر أن يسترن وجوههن عن الأجانب، وأما الإماء فلم يوجب عليهن ذلك، لكن هذا في إماء الاستخدام والابتذال، لا في إماء التسري اللاتي جرت العادة بصونهن وحجبهن.
فأين أباح الله ورسوله لهن أن يكشفن وجوههن في الأسواق والطرقات ومجامع الناس وأَذِن للرجال في التمتع بالنظر إليهن؟ فهذا غلط محض على الشريعة، وأكد هذا الغلط أن بعض الفقهاء سمع قولهم: إن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وعورة الأمة ما لا يظهر غالبًا كالبطن والظهر والساق، فظن أن ما يظهر غالبًا حكمه حكم وجه الرجل، وهذا إنما هو في الصلاة لا في النظر؛ فإن العورة عورتان: عورة في النظر، وعورة في الصلاة. فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك.
حول ما ذكر من كراهية المرأة المسلمة للحجاب:
أما ما ذكر من كراهية المرأة المسلمة للحجاب، وتفضيلها الاسترقاق على الحجاب، فأمرٌ لا يكاد ينقضي منه العجب، ألا يعلم هؤلاء أن كراهيةَ شيء مما أنزله الله على رسوله تُفضي إلى حبوط العمل وخلع الربقة؟!
أما قرءوا قول الله جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 8، 9]؟ وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ [محمد: 25، 26].
إن علاجَ هذه الظاهرة يكون ببناء الإيمان واستعادة الهوية المضيعة، وليس بفتح باب الحيل الفاسدة لتكريس مظاهر الانسلاخ من الدين ومن الهوية!
وفي النهاية أختم هذه الفتوى بما بدأتها به من الابتهال إلى الله جل وعلا أن يرد صاحب هذه الفتنة إليه ردًّا جميلًا، وألا يجعل للشيطان سبيلًا إليه، وأن يمنحه من الشجاعة والقوة ما يراغم به الشيطان ويرضي به الرحمن، وما يُؤثِر به مرضاة ربه على هوى النفس ونوازعها، والله المستعان وعليه التكلان. والله تعالى أعلى وأعلم.

____________________

(1) «الإجماع» ص104.

(2) «الشرح الكبير» لابن قدامة (6/374).

(3) «غمز عيون البصائر» للحموي من كتب الحنفية (2/402-407).

(4) «فتح القدير» (8/268-269).

(5) «بدائع الصنائع» (6/234-236).

(6) أخرجه أبو داود في كتاب «الطلاق» باب «في الطلاق على الهزل» حديث (2194)، والترمذي في كتاب «الطلاق» باب «ما جاء في الجد والهزل في الطلاق» حديث (1184)، وابن ماجه في كتاب «الطلاق» باب «من طلق أو نكح أو راجع لاعبًا» حديث (2039)، من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: «حديث حسن». وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» حديث (3027).

(7) «تفسير النسفي» (1/240).

(9) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (4/41) حديث (6819) عن مصعب بن عبد الله الزبيري.

(10) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «كفارات الأيمان» (6715)، ومسلم (1509).

(11) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/478) حديث (16029)، والحاكم في «مستدركه» (2/236) حديث (2860)، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/241) وقال: «رواه أحمد وفيه عبيد الله بن سهل بن حنيف ولم أعرفه وبقية رجاله حديثهم حسن».

(12) قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾﴿﴾ [النساء: 92].

(13) قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 3].

(14) قال تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 89].

(15) «الموسوعة الفقهية» (23/50-52).

(16) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الصلح» باب «إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود» حديث (2697)، ومسلم في كتاب «الأقضية» باب «نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور» حديث (1718) من حديث عائشة.

(17) أخرجه البخاري في كتاب «فضائل القرآن» باب «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» حديث (5029) من حديث سهل بن سعد.

(18) «الفتاوى الكبرى» (1/283-291). (18) «إعلام الموقعين» (2/46-47).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 النكاح, 12 فتاوى المرأة المسلمة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend