حملت امرأة كتابية من رجل مسلم من الزنى، بعدها اتفقا على الزواج، وبالفعل حصلا على رخصة زواج من المحاكم المحلية، وطلبا أن يحرر لهما عقد نكاح إسلامي. فما رأي الشريعة المطهرة في طلبهما بعقد الزواج الإسلامي؟ وعندما تضع المرأة لمن ينسب الولد؟ علمًا بأنهما على يقين بأن الحمل وقع من الرجل نفسه. وكيف تجري أحكام الوراثة في حالة وفاة المرأة أو الرجل قبل أو بعد الزواج الإسلامي؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
إذا زنت المرأة لم يحل نكاحها إلا بشرطين: أحدهما يتعلق التوبة من الزنى والآخر يتعلق بانقضاء العدة.
أما التوبة فإن من الأدلة على اشتراطها ما يلي:
قوله تعالى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: 3]. فلما أمر الله تعالى بعقوبة الزانيين حرم مناكحتهما على المؤمنين هجرًا لهما ولما معهما من الذنوب والسيئات، وقد بين تعالى أن الزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك، فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه ويعتقد وجوبه عليه أو لا: فإن لم يلتزمه ولم يعتقده فهو مشرك، وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه فهو زان، ثم صرح بتحريمه فقال تعالى: ۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: 3]، وقوله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور: 26]، والخبيثات هن الزواني، ومعنى ذلك تجنب المؤمن نكاح الخبيثة؛ لأنه ليس بخبيث، وإنما يزول خبثها بالتوبة النصوح، فإذا زال حل نكاحها؛ لأنها لم تعد خبيثة، ومما يدل على ذلك ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أَنَّ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ كَانَ يَحْمِلُ الْأُسَارَى بِمَكَّةَ، وَكَانَ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ يُقَالَ لَهَا: عَنَاق. وَكَانَتْ صَدِيقَتَهُ، قَالَ: فَجِئْتُ النَّبِيَّ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَنْكِحُ عَنَاقًا؟ قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي فَنَزَلَتْ: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ [النور: 3] فدعاني فقرأها عَلَيَّ وَقَالَ: «لَا تَنْكِحْهَا».
وقد نازع في هذا الشرط بعضُ أهل العلم، ولكن القول باشتراطه هو الصحيح؛ فإن من أقبح القبائح أن يكون الرجل زوجَ بَغِيٍّ، وقبح هذا مستقر في فطر الناس، وهو عندهم في غاية السُّبَّة.
أما انقضاء العدة فإنه موضع نظر بين أهل العلم: فذهب الحنفية إلى أنه لا تجب العدة على الزانية، فيجوز نكاحها دون اعتبار للعدة ولا لانقضائها، وإن كانت حاملًا منه جاز نكاحها ووطأها بلا نزاع. ووجه ما ذهبوا إليه أن المنع من نكاح الحامل حملًا ثابت النسب إنما هو لحرمة ماءِ الوطء، ولا حرمة لماء الزنى، بدليل أنه لا يثبت به نسب، أما إن كانت حاملًا من غيره فيجوز له أن يعقد عليها، وليس له أن يطأها حتى تضع حملها في قول أبي حنيفة ومحمد، أما جواز العقد فلما سبق من أن ماء الزنى هدر لا حرمة له، وأما عدم جواز الوطء فلكي لا يسقي ماءه زرع غيره، لحديث: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ».
وخالف في ذلك أبو يوسف ونفر فقالوا: لا يجوز نكاح الحامل من الزنى؛ لأن الحمل يمنع الوطء فيمنع العقد أيضًا؛ ولأن المقصود من النكاح هو حِلُّ الوطء، فإذا لم يحل له وطؤها لم يكن النكاح مفيدًا فلا يشرع. ونوقش بأن حرمة الوطء لعارض طارئ على المحل لا تنافي النكاح لا بقاءً ولا ابتداءً كالحيض والنفاس، فكذلك لا ينافي النكاح حرمة وطء الحامل من الزنى لأجل حملها.
وعند الشافعية ماء الزنى هدر لا يثبت به نسب ولا تنتشر به حرمة، فلا عدة على الزانية حاملًا كانت أو حائلًا، فإن كانت حائلًا جاز للزاني بها ولغيره عقد النكاح عليها، وإن كانت حاملًا من الزنى كره نكاحها قبل وضع الحمل.
وعند المالكية والحنابلة لا يحل نكاح الزانية حتى تنقضي عدتها، فلا تزوج الحامل من الزنى حتى تضعَ حملها، ولا تزوج الحائل حتى تعتد بثلاثة قروء.
إذن فالتوبة من الزنى لابد منها حتى يتسنى العقد على الزانية واستدامة العشرة معها، أما انقضاء العدة فهو موضع نظر، ولعلَّ الأقرب إلى مقاصد الشريعة من الستر هو القول بمشروعية العقد على الزانية على من زنى بها إذا أحدثت توبة صادقة، دون أن يتوقف ذلك على انقضاء العدة؛ لأن علة المانعين حديث النهي عن أن يسقي ماء الرجل زرع غيره، وهذا يتوجه عندما تتزوج الزانية بغير من زنى بها، أما إن تزوجت بمن زنى بها فلا يظهر انطباق هذه العلة؛ لأن الماء ماؤه في الآخرة والأولى.
أما فيما يتعلَّق بثبوت النسب فإن الأصل أن ماء الزنى هدر لا يثبت به نسب، ولا تثبت به بنوَّة، لقولِه صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْـحَجَر».
فلا يثبت نسب الولد إلا إذا جاء على فراش شرعيٍّ صحيح، فمتى انعقد الزواج صحيحًا شرعًا استتبع هذا ثبوتَ النسب دون حاجة إلى دليل آخر سوى ثبوت التلاقي بين الزوجين مع صلاحيتهما الجنسية، وأن تمضي بين العقد والولادة أقل مدة للحمل وهي ستة أشهر، فإذا لم يوجد مثل هذا الفراش فلا ينسب إلى الزاني، وإنما ينسب إلى أمه التي ولدته باعتبار أن الولادة واقعة مادية.
بيد أن مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا قد أدرج هذه القضية على جدول أعماله في مؤتمره الثالث والرابع، وظل فقهاؤه يجيلون فيها النظر على مدى عامين، ثم انتهى إلى أن الزاني إذا استلحق ولده من الزنى لحق به إذا كان ذلك خارج ديارالإسلام، وقد ناقش أدلة الجمهور المانعة من ذلك، وبين أن موردها فيما إذا كانت المراة فراشًا شرعيًّا لأحد، ثم تنازع الزاني وصاحب الفراش، فإن الولد يثبت نسبه لصاحب الفراش، وليس للزاني إلا الخيبة والعقوبة، لحديث: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْـحَجَر»، أما إذا لم تكن فراشًا شرعيًّا لأحد ولم يقع نزاع بين الزاني وبين أحد، واستلحق الزاني ولدَه من الزنى فإنه يلحق به، وقد تردد المجمع- كما سبق- طويلًا قبل أن يصل إلى قرار في هذه القضية، وظل هذا الأمر معلقًا لمدة عامين، ثم انتهى المجمع في النهاية إلى هذا القول فيما يكون من ذلك خارج ديارالإسلام، وأرجأ البتَّ فيما يكون من ذلك داخل ديارالإسلام إلى دراسات لاحقة، وإذا ثبت نسبه فإنه يرثه ويسري عليه ما يسري على سائرأبنائه الصُّلبيين. والله تعالى أعلى وأعلم.
تزوج الزاني من الزانية الحامل منه
تاريخ النشر : 30 يناير, 2012
التصنيفات الموضوعية: 05 النكاح