رجل طلق امرأته في المرة الأولى ثلاثًا في لفظ واحد، ثم بدا له أن يراجعها؛ لأنه قد قرأ فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله الواسعة في ذلك، وأن الراجح أن ذلك يعتبر طلاقًا واحدًا، وصادف أن كان ولي المرأة ممن يرى هذا الرأي، هل يجوز له مراجعتها على هذه الحالة بناءً على موافقته هو وولي المرأة، علمًا بأن المحكمة عندنا تسير على مذهب المالكية، وهو أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يعتبر طلاقًا بائنًا، ولا تحل المطلقة ثلاثًا بلفظ واحد لزوجها حتى تنكح زوجًا غيره. والمجتمع ينظر إليهما نظرة المعتدين على حدود الله تعالى المنتهكين حرمات الله. أفتونا وأجركم على الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
نعم، تجوز لهما المراجعة في باب الديانة، ما دام كل منهما يعتقد أن هذا هو الصواب، والعامي مكلف باتباع من يثق في علمه ودينه من أهل الفتوى، وهذا الاجتهاد ليس اجتهاد شيخ الإسلام وحده، بل قال به كذلك ابن عباس في رواية صحيحة ثابتة عنه، وأفتى به: الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود من الصحابة في رواية عنهم، وأفتى به: عكرمة، وطاوس وغيرهما من التابعين، وأفتى به ممن بعدهم: محمد بن إسحاق، وهلاس بن عمرو، والحارث العكلي، والمجد بن تيمية، وشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيميه، وتلميذه شمس الدين ابن القيم وغيرهم، وقد استدل على ذلك بما يأتي:
الدليل الأول: قوله تعالى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 229].
وبيانه: أن الطلاق الذي شرع للزوج فيه الخيار بين أن يسترجع زوجته أو يتركها بلا رجعة حتى تنقضي عدتها فتبين منه مرة بعد مرة، سواء طلق في كل مرة منهما طلقة، أو ثلاثًا مجموعة؛ لأن الله تعالى قال: ، ولم يقل: «طلقتان»، ثم قال تعالى في الآية التي تليها: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة: 230].
فحكم بأن زوجته تحرم عليه بتطليقه إياها المرة الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره، سواء نطق في المرة الثالثة بطلقة واحدة أم بثلاث مجموعة، فدل على أن الطلاق شرع مفرقًا على ثلاث مرات، فإذا نطق بثلاث في لفظ واحد كان مرة واعتبر واحدة.
الدليل الثاني: ما رواه مسلم في «صحيحه» من طريق طاوس عن ابن عباس ب، قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاقَ الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم.
وفي «صحيح مسلم» أيضًا عن طاوس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هنَّاتك. ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك فلمَّا كان في عهد عمر تتَايَع الناس في الطلاق فأجازه عليهم.
فهذا الحديث واضح الدلالة على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة، على أنه لم ينسخ لاستمرار العمل به في عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر؛ ولأن عمر علل إمضاءه ثلاثًا بقوله: (إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة)، ولم يدع النسخ، ولم يعلل الإمضاء به، ولا بظهوره بعد خفائه؛ ولأن عمر استشار الصحابة في إمضائه ثلاثًا، وما كان عمر ليستشير أصحابه في العدول عن العمل بحديث علم، أو ظهر له أنه منسوخ.
وما أجيب به عن حديث ابن عباس فهو: إما تأويل متكلف، وحمل للفظه على خلاف ظاهره بلا دليل، وإما طعن فيه بالشذوذ والاضطراب وضعف طاوس، وهذا مردود بأن مسلمًا رواه في «صحيحه»، وقد اشترط ألا يروي في كتابه إلا الصحيح من الأحاديث، ثم إن الطاعنين فيه قد احتجوا بقول عمر في آخره: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم)، فأمضاه عليهم. فكيف يكون آخره حجة مقبولة ويكون صدره مردودًا لاضطرابه وضعف راويه؟! والله تعالى أعلى وأعلم.
الطلاق الثلاث بلفظ واحد
تاريخ النشر : 30 يناير, 2012
التصنيفات الموضوعية: 06 الطلاق