الاستحالة وأثرها الشرعي وصفًا وتطبيقًا

ما هي الاستحالة؟ وما أثرُها في تغيير الحكم وصفًا وتطبيقًا؟ وهل من تطبيقاتها أنواع الخل التي كان أصلها من النبيذ أو من الخمر؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الاستحالةَ هي انقلابُ العين إلى عينٍ أخرى تُغايرها في حقيقتها وفي صفاتها، وهي من المطهرات، فتحوِّل المواد النجسة أو المتنجسة إلى مواد طاهرة، فيتغير حكمها من التحريم إلى التحليل، فإن الحكمَ تابعٌ للاسم والوصف، ودائرٌ معه وجودًا وعدمًا، أما إذا تغيَّرت أوصافُها وبقيت حقيقتها فإن هذا لا يُغير في الحكم شيئًا، كتغيير الجامد إلى سائل أو السائل إلى جامد، فلو جمدت الخمر أو أُذيبت الشحوم المحرمة فإن هذا لا يُغيِّر حكمها؛ لأنها وإن تغيرت بعضُ أوصافها فلا تزال حقيقتُها باقيةً؛ ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه  قال: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ»(1). ومعنى جَمَلوه: أي أذابوه، فإن الشحوم وإن تغيرت بعض أوصافها فحقيقتها باقية ويبقى التحريم متصلًا بها.
قال ابن القيم: «وعلى هذا الأصل فطهارة الخمر بالاستحالة على وَفْق القياس فإنها نجسة؛ لوصف الخبث، فإذا زال ذلك الوصف زال أثرُه، وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها، بل وأصل الثواب والعقاب، وعلى هذا فالقياس الصحيح تعديةُ ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت، وقد نبش النبيُّ صلى الله عليه وسلم  قبورَ المشركين من موضع مسجده ولم ينقل التراب… وقد أجمع المسلمون على أن الدابةَ إذا عُلفت بالنجاسة، ثم حُبست وعلفت بالطاهرات، حل لبنها ولحمها، وكذلك الزرع والثمار إذا سقيت بالماء النجس ثم سقيت بالطاهر حلت؛ لاستحالة وصف الخبث، وتبدله بالطيب، وعكس هذا أن الطيب إذا استحال خبيثًا صار نجسًا، كالماء والطعام إذا استحال بولًا وعذرة، فكيف أثرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبيثًا ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيبًا، والله تعالى يُخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب؟ ولا عبرة بالأصل، بل بوصف الشيء نفسه، ومن الممتنع بقاءُ حكم الخبث وقد زال اسمُه ووصفه، والحكم تابعٌ للاسم والوصف، دائرٌ معه وجودًا وعدمًا، فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر لا تتناول الزرع والثمار والرماد والملح والتراب والخل، لا لفظًا، ولا معنًى، ولا نصًّا، ولا قياسًا». انتهى من «إعلام الموقعين»(2).
وموضع الإشكال في هذه القضية في تطبيقاتها العملية، وليس في تأصيلاتها الفقهية، فهي أقربُ إلى عمل الخبراء منها إلى عمل الفقهاء، ويوم أن يتفق أهل الخبرة على انقلاب عين المواد إلى مادة أخرى وتغير خواصها الكيميائية بما يُقطع معه باستحالتها وانقلاب عينها فلن نجد عسرًا في القول بتغير حكمها من النجاسة إلى الطهارة، ومن الحرمة إلى الإباحة، فلعل مراكز أبحاثنا تنشط في تطبيقات هذه المسألة في مختلف المواد التي تعمُّ بها البلوى، وتمسُّ الحاجة إلى استعمالها لنقول فيها قولًا فصلًا يُريح أهل الإسلام المغتربين خارج ديار الإسلام من عنائهم وعذاباتهم، ويفتح عليهم بابًا من أبواب الرَّوْح والتوسعة.
لقد ارتادت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بإمكاناتها العلمية وميزانياتها الواسعة آفاق هذا البحث، وانتهت إلى بعض النتائج المهمة؛ فقد جاء في قراراتها بمناسبة بحثها المواد المحرمة والنجسة في الغذاء والدواء، بمشاركة الأزهر ومجمع الفقه الإسلامي بجدة والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بالإسكندرية ووزارة الصحة بدولة الكويت، وذلك في شهر مايو 1995م ما يلي:
• الجبن المنعقد بفعل إِنْفَحَةِ ميتةِ الحيوان المأكول اللحم طاهرٌ ويجوز تناولُه.
• المراهم والكريمات ومواد التجميل التي يدخل في تركيبها شحم الخنزير لا يجوز استعمالها إلا إذا تحققت فيها استحالة الشحم وانقلاب عينه، أما إذا لم يتحقَّق ذلك فهي نجسة. انتهى.
وكما أثبتت حدوث الاستحالة في بعض الأشياء فقد نفتها عن أشياء أخرى أو أحالت فيها إلى تقرير الخبراء، ومن ذلك ما جاء في بندها السادس:
• المواد الغذائية التي يدخل شحمُ الخنزير في تركيبها دون استحالةِ عينِه، مثل بعض الأجبان، وبعض أنواع الزيت والدُّهن والسمن والزبد، وبعض أنواع البسكويت والشيكولاته والآيس كريم، هي محرمة ولا يحل أكلُها مطلقًا، اعتبارًا لإجماع أهل العلم على نجاسة الخنزير وعدم حِلِّ أكله، ولانتفاء الاضطرار إلى تناول هذه المواد.
• ولا تزال الحاجة ماسة إلى استكمال البحث في هذا المجال، وتبادل نتائجه مع مختلف المراكز الإسلامية، بيانًا لفقه الشريعة في هذه النوازل، وتألفًا للقلوب على اتباعها والانقياد لأحكامها. والله تعالى أعلى وأعلم.

________________

(1) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «البيوع» باب «بيع الميتة والأصنام» حديث (2236)، ومسلم في كتاب «المساقاة» باب «تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» حديث (1581).

(2) «إعلام الموقعين» (2/14)

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   01 الطهارة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend