نظرًا لما عليه حال معظم المساجد في بلاد الغرب من عدم الاهتمام الكافي بمصلَّى النساء وإهمال النشاطات الخاصة بهنَّ، فقد بدأت مجموعة من النساء مشروعَ مسجد للنساء فقط، وقمن بصلاة جمعة تؤم وتخطب الجمعةَ فيها إحداهُن. فما حكم الشرع في ذلك؟ بارك الله فيكم ونفع بكم.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فنسجل أسفنا على تهميش مصلَّيَات النساء في المساجد، وعدم العناية بها، وعدم تهيئة أجواء مناسبة للأخوات لأداء شعائرهن في سكينة وطمأنينة، وكم بُحَّت أصواتُنا في المطالبة بتأمين هذه الحقوق المشروعة لأخواتنا في المساجد، فإن النساء شقائق الرجال(1)، أي مثيلاتهن في الأحكام، ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، لاسيما في حالة الجاليات المسلمة المغتربة خارج ديار الإسلام، حيث تكاد أن تكون المساجد وحدها مصدر التلقِّي للعلم، والتواصل الإيجابي مع جماعة المسلمين.
ولأخواتنا الحق في أن تكون لهن منتدياتهن الخاصة بهن، يجتمعن فيها لتدارس العلم، والتفاعل الإيجابي مع فعاليات الجالية المسلمة، والتعاون على عموم البر والتقوى، ولا مانع في هذه الملتقيات الخاصة أن يصطففن خلف إمامة منهن في صلاة الفرائض، أو النوافل الجماعيَّة كالتراويح مثلًا، حيث تؤمهن أقرؤهن للقرآن، وتقف وسطهن؛ لما روي أن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أمَّتا نساءً فقامتا وسطهن(2). قال الإمام النووي: «حديثا إمامة عائشة وأم سلمة رواهما الشافعي في «مسنده»، والبيهقي في «سننه» بإسنادين حَسنين»(3).
ولا حرج في أذان المرأة للصلاة في مجامع النساء وإقامتها للصلاة، وإن كان هذا ليس بواجب، إذ ليس على المرأة أذان ولا إقامة، قال الشافعي وإسحاق: «إن أذنَّ وأقمن فلا بأس»(4). وروي عن أحمد: «إن فعلن فلا بأس، وإن لم يفعلن فجائز؛ لأن عائشة رضي الله عنها كانت تُؤذن، وتُقيم، وتؤم النساء، وتقف وسطهنَّ. رواه البيهقي(5)»(6).
ولا حرج أن ينتخبن من بينهن من تعِظُهُنَّ، وتُشرف على تعليمهن العلمَ الشرعي، أو الخبرات المهنية الحياتية اللاتي يحتجنَ إليها، فقد أخذ العلمَ عن أمنا عائشة رضي الله عنها خلقٌ كثير من الصحابة والتابعين، وكانت أمُّ سلمة رضي الله عنها كما وصَفَها الذَّهبيُّ من فقهاء الصحابيات، وممن روى كثيرا من الأحاديث عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم(7)، وروى عنها كثير من الصحابة والتابعين، لا ننكر شيئًا مما تقدم، لمن تأهلت لذلك، وقامت بحقه رواية ودراية.
أما ما نُسب مؤخرًا لبعض أخواتنا من الاستقلال في مسجدٍ خاصٍّ بهن لصلاة الجمعة بإمامة واحدة منهن، وقيامها بخُطبة الجمعة لهن- فهو مُنكر ومُحدث، نصون أخواتنا عن التخبُّط في شعَابه.
ويكفي في الدليل على ردِّه إجماعُ الأمة إجماعًا قطعيًّا عمليًّا على خلافه، على مدار قرون الإسلام المتعاقبة، وبحضرة كبار علمائه وأئمته من الفقهاء والأصوليين والمحدِّثين والمفسرين، مع توافر الدواعي وانتفاء الموانع.
فلا يجوز لجماعة النساء إقامةُ الجمعة إذا لم يحضرهن رجال تصحُّ بهم الجمعة، فإن حضر من الرجال من تصح بهم الجمعة فالخطبة والإمامة للرجال.
ولو تصدَّرت امرأة لخطبة الجمعة وإمامة صلاتها لم تصحَّ الصلاةُ، ولا الجمعة، ووجب على الجميع إعادتُها ظُهرًا. وهذا من مسائل الإجماع التي لم يختلف فيها ولم يُختلف عليها؛ فلقد انعقد إجماعُ الأمة في المشارق والمغارب على أنه لا مدخل للنساء في خطبة الجمعة ولا في إمامة صلاتها، وأن من شارك في ذلك فصلاتُه باطلة إمامًا كان أو مأمومًا، فلم يسطر في كتاب من كتب المسلمين على مدى هذه القرون المتعاقبة من تاريخ الإسلام- فيما نعلم- قول فقيه واحد: سني أو شيعي، حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي، يجيز للمرأة خطبة الجمعة أو إمامة صلاتها، فهو قول محدث من جميع الوجوه، باطل في جميع المذاهب المتبوعة، السنية والبدعية على حدٍّ سواء.
لم يثبت أن امرأةً واحدةً عبر التاريخ الإسلامي قد أقدمت على هذا الفعل أو طالبت به على مدى هذه العصور المتعاقبة من عُمر الإسلام، لا في عصر النبوة ولا في عصر الخلفاء الراشدين، ولا في عصر التابعين، ولا فيما تلا ذلك من العصور، وإن ذلك ليؤكد تأكيدًا قاطعًا على ضلال هذا المسلك وبدعية من دعا إليه أو أعان عليه.
ولو كان شيء من ذلك جائزًا لكان أولى الناس به أمهاتُ المؤمنين، وقد كان منهن الفقيهات النابغات، وعن بعضهن نُقِل كثيرٌ من الدين، وحسبك بالفصيحة البليغة العالمة النابهة الصديقة بنت الصديق أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولو كان في ذلك خيرٌ لسبقونا إليه وسنوا لنا سنةَ الاقتداء به.
لقد عرف تاريخُ الإسلام فقيهاتٍ نابغات، ومحدِّثاتٍ ثقاتٍ أعلامًا، وقد أبلى النساء في ذلك بلاء حسنًا، وعُرفن بالصدق والأمانة، حتى قال الحافظ الذهبي: لم يؤثر عن امرأة أنها كذبت في الحديث(8). ويقول رحمه الله: وما علمت من النساء من اتُّهمت ولا من تركوها(9).
وحتى كان من شيوخ الحافظ ابن عساكر بضعٌ وثمانون من النساء، ومثله الإمام أبو مسلم الفراهيدي المحدِّث الذي كتب عن سبعين امرأة، ومن النساء في تاريخ هذه الأمة من كُنَّ شيوخًا لمثل الشافعي والبخاري وابن خلِّكان وابن حيان وغيرهم، ومع ذلك لم يؤثر عن واحدة منهن أنها تطلعت إلى خطبة الجمعة أو تشوَّفت إلى إمامة الصلاة فيها مع ما تفوَّقن فيه على كثير من الرجال يومئذٍ من الفقه في الدين والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد عرف تاريخُ الإسلام المرأةَ عاملةً على جميع الأصعدة، عرفها عالمةً وفقيهة، وعرفها مشارِكةً في العبادات الجماعية، ومشاركة في العمليات الإغاثية، ولكنه لم يعرفها خطيبةَ جمعة ولا إمامةً لجماعتها.
وبهذا يُعلم بالضرورة والبداهة من دين المسلمين أن الذكورةَ شرطٌ في خطبة الجمعة، وإمامةِ صلوات الجماعة العامة. وأمامَ من يجادل في ذلك عمُرُ نوحٍ لكي يُفتِّش في كتب التراث ليُخرج لنا شيئًا من ذلك، وهيهات هيهات، وما ينبغي لهم، وما يستطيعون.
أما تعويلُ من زعم ذلك على ما رُوِي من أن أمَّ ورقة قد أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم في إمامة أهل بيتها(10)- فإن هذا الحديث على فرض صِحَّتِه لا علاقة له بموضوع النازلة، فإنه يتحدث عن إمامة خاصة، في فروض عادية، داخل البيت، فأين ذلك من خطبة الجمعة وإمامة صلاتها؟!
إننا نُحذِّر أخواتنا الفُضلَيَات من الافتتان بمثل هذه المجازفات بالدِّين، والمتَّبَعة لغير سبيل المؤمنين، وندعوهن إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، ونذكرهُنَّ بأن هذا العلمَ دينٌ، وأن عليهن أن ينظرن عمن يأخذن دينهن(11). ونُذكرهن بأن القابض على دينه في هذه الأزمنة كالقابض على الجمر(12).
وننصح لهن بتحويل هذا المكان- إن كن قد التزمن بمكان تملكًا أو تأجيرًا- إلى قاعة محاضرات نسائية عامة، يجتمعن فيها لتدارس العلم، وممارسة الأنشطة النسائية الدعوية والاجتماعية، ولا حرج أن يُصلين فيه الفرائض إن وُجدن فيها عند حضور مواقيتها، وأن يأتَمِمن بإحداهن، على أن يكون ذلك في غير الجُمَع.
كما ننصح لهن بأن لا يغتررن بالضجيج الإعلامي الذي يُحاول أن يسلط أضواءه الخالبة والفاتنة على هذا المشهد، فإن أهله لا يألونكم خبالًا، ولن يرضوا عن واحدة منكن إلا إذا انسلخت عن ملتها وأمتها.
وأخيرًا: نسأل الله لهذه الأمة السلامةَ من الفتن، والعافيةَ من جميع المحن، وأن يحملَها في أحمدِ الأمور عنده وأجملِها عاقبةً، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل. والله تعالى أعلى وأعلم.
___________________
(1) ففي الحديث الذي أخرجه أحمد في «مسنده» (6/ 256) حديث (26238)، وأبو داود في كتاب «الطهارة» باب «في الرجل يجد البلَّة في منامه» حديث (236)، والترمذي في كتاب «الطهارة» باب «ما جاء فيمن يستيقظ فيجد بللًا ولا يذكر احتلامًا» حديث (113)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ». وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2863).
(2) حديث عائشة وأم سلمة أخرجهما البيهقي في «الكبرى» (3/131) حديث (5138)، و(5140).
(3) المجموع للنووي (4/187).
(4) أخرجه البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (1/434) حديث (572).
(5) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (3/131) حديث (5139).
(6) «المغني» (1/306).
(7) «سير أعلام النبلاء» (2/201- 203) ترجمة (20).
(8) السيابق.
(9) «ميزان الاعتدال في نقد الرجال» (7/465).
(10) أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «إمامة النساء» حديث (591)، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (591).
(11) أخرجه مسلم معلقًا في «المقدمة» عقب باب «بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذَّبِّ عن الشريعة المكرمة»؛ عن محمد بن سيرين رحمه الله قال: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
(12) فقد أخرج الترمذي في كتاب «الفتن» باب «ما جاء في النهي عن سب الرياح» حديث (2260) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْـجَمْرِ»، وذكره الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (2260).