هل تقضى ديون الموتى من الزكاة؟

جزاك الله عنا خيرًا شيخنا الفاضل. هل يجوز ردُّ دين الميت من أموال الزكاة إن كان أهلُه معسرين وهو لم يترك ميراثًا؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلا شك أن قضاء ديون الموتى من جُملة البر بهم والإحسان عليهم، فإن نفس المؤمن معلَّقة في قبره بدَيْنِه حتى يؤدَّى عنه، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَفْسُ المُؤْمِنِ معلَّقةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ»(1).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، وَلَكِنَّهَا الْـحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ»(2).
وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: توفي رجلٌ فغسلناه وحنَّطْناه وكفَّناه، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي عليه. فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا خُطًى ثم قال: «أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟» قلنا: ديناران. فانصرف، فتحمَّلهما أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُحِقَّ الْغَرِيمُ وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْـمَيِّتُ؟» قال: نعم. فصلى عليه ثم قال بعد ذلك بيوم: «مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟» فقال: إنما مَاتَ أَمْسِ! قال: فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الآنَ بَرَدَتْ عليه جِلْدُهُ»(3).
وقد صحَّ أنه يُغفر للشهيد كلُّ ذنب إلا الدين(4).
فمن البر بالميت والإحسان إليه وصلة رحمه قضاءُ دينه، وكل هذا متفق عليه.
ولكن السؤال: هل تقضى ديون الموتى من الزكاة؟
لقد اختلف أهلُ العلم في هذه المسألة، وجمهورهم على عدمِ قضاء دين الميت من الزكاة، حتى نقل بعضُهم الإجماعَ على ذلك، والحقيقة أنها قضية خلافية.
فذهب المالكية(5) وبعض الشافعيَّة(6)، إلى جواز قضاء الدين عن الميت، لعموم النصوص الوارد في سهم الغارمين(7)، والتي لم تفرق بين حيٍّ وميت، ولأنَ دَين الميِّت أحقُّ من دَين الحيِّ في أخْذه من الزكاة؛ لأنه لا يُرجى قضاؤه بخِلاف الحي، ولأن الميت أحوج إلى فكِّ رقبته وتفريج كربته وقد صار تحت الجنادل والتراب لا يملك سعيًا ولا كسبًا، وهو مرتهن في قبره بدينه, بخلاف الحي الذي يمكنه أن يسعى في ذلك، والذل الذي يتعرض له بسبب الدين ليس بأنكى من العذاب الذي يتعرَّض له الميت بسبب دينه!
وهذا هو اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة كما في «الفروع لابن مفلح»(8).
وبه أفتت اللجنة الدائمة ببلاد الحرمين، فقد وجه إليها هذا السؤال:
رجل مات وعليه دينٌ ولم يخلف مالًا فهل يجوز دفع الزكاة لوفاء دينه؟ فأجابت: الأصل في الشريعة الإسلامية أن من مات من أفراد المسلمين الملتزمين لتعاليم دينهم وعليه ديْنٌ لحقه في تعاطي أمور مباحة ولم يترك له وفاء- أن يشرع قضاؤه عنه من بيت مال المسلمين؛ لما روى البخاري أن رسول الله قال: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْـمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}. فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ»(9).
فإذا لم يتيسر قضاؤه من بيت المال جاز أن يُقضى دينه من الزكاة، إذا لم يكن الدافع هو المقتضي، قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى»: ((وأما الدَّين الذي على الميت فيجوز أن يُوفَّى من الزكاة في أحد قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد؛ لأن الله تعالى قال: {والغارمين} ولم يقل: (وللغارمين)، فالغارم لا يُشترط تمليكه. وعلى هذا يجوز الوفاء عنه، وأن يملك لوارثه ولغيره، ولكن الذي له الدين لا يعطَى ليستوفي دينه))(10).
وقد صدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم 165 (3/18) بشأن تفعيل دور الزكاة في مكافحة الفقر، وتنظيم جمعها وصرفها بالاستفادة من الاجتهادات الفقهية، فقد جاء فيه عند حديثه عن الغارمين في مصارف الزكاة ما يلي:
(( د- الغارمون: يشملُ سهم الغارمين من ترتبت في ذمتهم ديونٌ لمصلحة أنفسهم، ومن استدان لإصلاح ذات البين بالضوابط الشرعية، ويلحق بذلك تسديدُ الديات المترتبة على القاتلين خطأً ممن ليس لهم عاقلة، وديون الميت إن لم يكن له تركة يوفى منها دينه. وهذا إذا لم يتم دفعها من بيت المال (الخزانة العامة).))
وذهب الشافعية والحنابلة إلى عدم قضاء ديون الموتى من الزكاة، ووجه ذلك ما يلي:
• أن الميت قد انتقل إلى الآخرة، ولا يلحقه من الذُّل والهوان بالدين الذي عليه ما يلحق الأحياء.
• أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقضي ديون الأموات من الزكاة، بل كان يقضيها عليه الصلاة والسلام من أموال الفيء حين فتح الله عليه. ولو كان قضاء الدين عن الميت من الزكاة جائزًا لفعله صلى الله عليه وسلم.
• أن الميت إن كان أخذ أموال الناس يريد أداءها فإن الله تعالى يؤدي عنه بفضله وكرمه، وإن كان أخذها يريد إتلافها فهو الذي جنى على نفسه، ويبقى الدين في ذمته يستوفى يوم القيامة.
• أنه لو فُتح هذا الباب لعطَّل قضاءَ ديون كثير من الأحياء؛ لما جرت به العادة أن الناس يعطفون على الميت أكثر مما يعطفون على الحي، والأحياء أحقُّ بالوفاء من الأموات.
• أنَّ فتْح هذا الباب ذريعة إلى فتَح باب الطمع والجشع من الورثة، فيُمكن أن يجحدوا مال الميِّت ويقولوا: هذا مدين.
قال ابن قدامة رحمه الله في «المغني»: ((سمعت أحمد، وسئل: يكفَّن الميت من الزكاة؟ قال: لا، ولا يُقضى من الزكاة دينُ الميت. وإنما لم يجز دفعها في قضاء دين الميت؛ لأن الغارمَ هو الميت ولا يمكن الدفع إليه، وإن دفعها إلى غريمه صار الدفع إلى الغريم لا إلى الغارم))(11).
وقال النووي رحمه الله في «روضة الطالبين»: الأصحُّ الأشهر أنه لا يقضى دين الميت من سهم الغارمين(12).
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: شخصٌ توفي وعليه دين، وليس وراءه من يستطيع سداده، فهل يجوز أن يُسدَّد هذا الدين من الزكاة؟ فأجاب: «لا يجوز أن يسدد دين الميت من الزكاة، ولكن إذا كان قد أخذه بنية الوفاء فإن الله يؤديه عنه»(13).
والحقيقة أن هذه الاعتبارات التي وجه بها المنع من قضاء ديون الموتى من الزكاة موضع نظر:
فالقول بأن الميت وقد انتقل إلى الآخرة، ولا يلحقه من الذُّل والهوان بالدَّين الذي عليه ما يلحق الأحياء، يناقش بأن ما يتعرض له من الارتهان في قبره الاحتباس بدينه أنكَى وأمرُّ من الذل الذي تعرض له الحي بسبب الدين، وأين هذا من ذاك؟!
والقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقضي ديون الأموات من الزكاة، بل كان يقضيها عليه الصلاة والسلام من أموال الفيْءِ حين فتح الله عليه، فيناقش بأنه إذا وُجد بيت المال الذي يكفل هذه الديون كان هو المقدَّم بلا نزاع، ولكن موضع التساؤل إذا لم يوجد بيت المال الذي يتولى أمر هذه الديون ولم يتطوع بذلك أحدٌ، فهل نضن على الموتى بافتكاك نفوسهم وعتق رقابهم من العذاب بما يبذل لهم من أموال الزكاة في قضاء ديونهم؟ وقد رأينا قول النبي صلى الله عليه وسلم عن المدين الذي مات وعليه ديناران: «الآنَ بَرَدَتْ عليه جِلْدُهُ».
وأما القول بأن الميت إن كان أخذ أموال الناس يريد أداءها فإن الله تعالى يؤدي عنه بفضله وكرمه، وإن كان أخذها يريد إتلافها فهو الذي جنى على نفسه، ويبقى الدين في ذمته يُستوفى يوم القيامة، فيناقش بأنه إذا أمكن أن ننفعَ أخانا، ونفكَّه من ارتهانه بدينه، ونعتقه من عذاب الله عز وجل فلم نقصر في ذلك وقد جعل الله لنا سبيلًا قاصدًا إلى ذلك؟
وأما القول أنه لو فتح هذا الباب لعطَّل قضاءَ ديون كثير من الأحياء، فيناقش بأن هذا ليس بمطرد، فكما يقيِّضُ الله للموتى من يرحمهم بقضاء ديونهم سوف يقيض للأحياء من يتعاطف معهم ويرحمهم كذلك بقضاء ديونهم، وفي أموال الزكاة وأريحية المزكين متسع لهذا وذاك.
وأما القول بأنَّ فتْح هذا الباب ذريعةٌ إلى فتَح باب الطمع والجشع من الورثة، فيُمكن أن يجحدوا مال الميِّت ويقولوا: هذا مدين. فيناقش بأن هذا ليس بمطرد، والأصل أن تحمل تصرفات المسلم على ظاهر السلامة، ومثل هذا الاحتمال- وإن مثل- مفسدة، إلا أنها مفسدة مرجوحة مقابلَ المصلحة الراجحة للميِّت الغارم في افتكاك نفسه، وعتقه من ارتهانه في قبره بدينه، وتبريد جلده وقد واراه الثرى.
فكلُّ هذه التوجيهات لا تخلو من قال، وبناء على ذلك فإن الذي يترجَّح لدينا أنه إذا لم تُوجد طريقةٌ لسداد دين الميت، وليس له تركةٌ، ولم يتبرع أحدٌ بالسداد عنه، فلا حرج في سداد الدين من الزكاة. والله تعالى أعلى وأعلم.

_____________________
(1) أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 508) حديث (10607)، والترمذي في كتاب «الجنائز» باب «ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» حديث (1079) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: «حديث حسن».
(2) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (2/32) حديث (2222)، وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه».
(3) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/330) حديث (14576)، والحاكم في «مستدركه» (2/66) حديث (2346) وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه».
(4) أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «من قتل في سبيل الله كُفِّرت خطاياه إلا الدين» حديث (1886) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(5) جاء في «مواهب الجليل شرح مختصر خليل» (5/32): « فكل من ادان في مباح وهو يعلم أن ذمته تفي بما ادان فغلبه الدين فلم يقدر على أدائه حتى توفي فعلى الإمام أن يؤدي ذلك من بيت مال المسلمين، أو من سهم الغارمين من الزكاة».
(6) جاء في «أسنى المطالب» (1/398): «(وكذا لو مات) لا يستحق شيئا وإن لم يخلف وفاء لدينه وهو ظاهر إن مات ولم يتعين للزكاة بالبلد وإلا فينبغي أن يقضى دينه منه لاستحقاقه له قبل موته مع بقاء حاجته».
(7) فال تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
(8) «الفروع لابن مفلح» (2/619).
(9) أخرجه البخاري في كتاب «تفسير القرآن» باب «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» حديث (4781) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(10) «مجموع الفتاوى» (25/80).
(11) «المغني» (2/497-498).
(12) «روضة الطالبين» (2/320) بتصرف يسير.
(13) «مجموع فتاوى ابن عثيمين» (18/377).

تاريخ النشر : 06 أكتوبر, 2025
التصنيفات الموضوعية:   04 الزكاة
التصنيفات الفقهية:  

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend