الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن هذا الاستدلال لا يُنتج المرادَ؛ لأن باب المقاتلة أوسعُ من باب التكفير، فمن منع شيئًا من شرائع الإسلام الثابتة المتواترة واعتضد على ذلك بأشياع وأعوان، فإنه يُقاتل حتى يفيء إلى الحق. ولا يعني هذا بالضرورة كونَه مرتدًّا.
وإن إطلاق القول بالحكم بالردَّة على كل من امتنع من أداء الزكاة أيامَ أبي بكر موضعُ نظرٍ؛ لأن الذين امتنعوا عن الزكاة في ذلك الوقت كانوا أنواعًا:
منهم من ارتدوا عن الدين وتركوا الصلاةَ والزكاة وأنكروا الشرائع؛ وهؤلاء كفارٌ بلا نـزاع.
ومنهم من منع الزكاة مع بقائه على أصل الدين؛ وهؤلاء هم أهل بغيٍ. وفي أمر هؤلاء عُرض الخلاف، ووقعت الشُّبهة لعمر رضي الله عنه، فراجعَهُ أبو بكر وناظره حتى شرح الله صدره لما شرح له صدر أبي بكر رضي الله عنه.
يقول الخطابي رحمه الله في معرِض بيانه لأصناف أهلِ الرِّدَّة أيامَ أبي بكر رضي الله عنه:
«مما يجب تقديمُه في هذا، أن يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين:
صنف ارتدوا عن الدين ونابذوا الملةَ وعادوا إلى الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله: وكفر من كفر من العرب، وهذه الفرقة طائفتان:
إحداهما: أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم، الذين صدَّقوه على دعواه في النبوة، وأصحاب الأسود العَنْسِي ومن كان من مُستجيبيه من أهل اليمن وغيرهم. وهذه الفرقة بأسرها منكرةٌ لنبوة نبينا محمد ﷺ مدعية النبوة لغيره، فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه حتى قتل الله مسيلمة باليمامة، والعنسي بصنعاء، وانفضت جموعهم وهلك أكثرهم.
والطائفة الأخرى: ارتدوا عن الدين، وأنكروا الشرائع، وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين، وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، فلم يكن يُسجد لله تعالى في بسيط الأرض إلا في ثلاثة مساجد؛ مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس في البحرين، في قرية يقال لها: جُواثا.
والصنف الآخر هم الذين فرَّقوا بين الصلاة والزكاة؛ فأقروا بالصلاة، وأنكروا فرضَ الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام، فهؤلاء على الحقيقة أهلُ بغي.
وإنما لم يُدعَوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصًا لدخولهم في غمار أهل الرِّدَّة، فأُضيف الاسم في الجملة إلى الرِّدَّة؛ إذ كانت أعظمَ الأمرين وأهمَّهما.
وأُرِّخَ قتالُ أهل البغي في زمن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه؛ إذ كانوا منفردين في زمانِه لم يختلطوا بأهل الشرك.
وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمحُ بالزكاة ولا يمنعها، إلا أنَّ رؤساءهم صدَّوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك؛ كبني يربوع فإنهم قد جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه، فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقهَا فيهم. وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة لعمر رضي الله عنه »(1).
ويقول الخطابيُّ رحمه الله في معرض ردِّه على الرافضة، الذين زعموا أن أبا بكر أول من سبى المسلمين، وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة: «وهؤلاء الذين زعموا ما ذكرناه، قوم لا خَلَاق لهم في الدين، وإن رأس مالهم البُهتُ والتكذيبُ والوقيعةُ في السلف، وقد بَيَّنا أن أهل الردة كانوا أصنافًا؛ منهم من ارتدَّ عن الملة ودعَا إلى نبوة مسيلمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاةَ والزكاة وأنكر الشرائع كلها، وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفارًا، ولذلك رأى أبو بكر رضي الله عنه سبيَ ذراريهم، وساعده على ذلك أكثرُ الصحابة، واستولد عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه جاريةً من سبي بني حنيفة، فولدت له محمدًا الذي يُدعى ابنُ الحنفية.
ثم لم ينقضِ عصرُ الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتدَّ لا يُسْبَى، فأما مانعو الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين، فإنهم أهلُ بغيٍ ولم يسموا على الانفراد منهم كفارًا، وإن كانت الردة قد أُضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين، وذلك أن الردَّة اسمٌ لُغوي، وكل من انصرف عن أمرٍ كان مقبلًا عليه فقد ارتدَّ عنه، وقد جد من هؤلاء القوم الانصرافُ عن الطاعة ومنع الحق، وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح بالدين، وعَلَقَ بهم الاسمُ القبيح لمشاركتهم القومَ الذي كان ارتدادهم حقًّا»(2).
ثم يردُّ الخطابيُّ على شبهة قد تَعرِض في هذا المقام؛ وهي: كيف يُعتبر هؤلاء بغاةً وهم ينكرون الزكاة؟ فيقول:
«فإن قيل: كيف تأوَّلتَ أمرَ الطائفة التي منعت الزكاة على الوجه الذي ذهبت إليه، وجعلتهم أهلَ البغي؟ وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرضَ الزكاة، وامتنعوا من أدائها، يكون حكمهم حكمَ أهل البغي؟
قلنا: لا. فإن من أنكر فرضَ الزكاة في هذه الأزمان كان كافرًا بإجماع المسلمين. والفرق بين هؤلاء وأولئك: أنهم إنما عُذِروا بأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان:
منها: قربُ العهد بزمان الشريعة، والذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ.
ومنها: أن القوم كانوا جُهَّالًا بأمور الدين وكان عهدهم بالإسلام قريبًا فدخلتهم الشبهة؛ فعذروا.
فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علمُ وجوب الزكاة، حتى عرفها الخاصُّ والعام، واشترك فيه العالم والجاهل- فلا يُعذر أحدٌ بتأويل يتأوله في إنكارها»(3).
فالذي اعتمده الفقهاء والمحدثون، أن أهل الردة كانوا ثلاثة أصناف:
صنف عاد إلى عبادة الأوثان.
وصنف اتبعوا مسيلمة والأسود العنسي.
وصنف ثالث استمر على أصل الإسلام ولكنهم جحدوا الزكاة، وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي ﷺ؛ وهم الذين ناظر عمرُ أبا بكر في قتالهم، ففيهم وقعت الشبهة، وحولهم دارت المناظرة.
وجمهور أهل العلم على أن هذا الصنف الثالث ليسوا بكفارٍ، وأنه لا تلازم بين التكفير والمقاتلة، وهو الذي ذكره النووي والخطابي والحافظ ابن حجر والبدر العيني وابن قدامة والشوكاني وغيرهم.
يقول الحافظ في «الفتح»: «وإنما أُطلق في أول القصة الكفرُ ليشمل الصنفين، فهو في حق من جحد حقيقةً، وفي حق الآخرين مجازٌ تغليبًا؛ وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل لأنهم نصبوا القتال، وجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع، فلما أصروا قاتلهم»(4).
ويقول الخطابيُّ عن هذا الصنف: «وهؤلاء في الحقيقة أهلُ بغي، وإن لم يُدعَوا بهذا الاسم في ذلك الزمان؛ خصوصًا لدخولهم في غمار أهل الردة، فأُضيف الاسم في الجملة إلى الردَّة؛ إذ كانت أعظمَ الأمرين، وأُرِّخَ قتالُ أهل البغي في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ إذ كانوا منفردين في زمانه لم يختلطوا بأهل الشرك»(5).
ويقول عنهم في موضع آخر: «فأما مانعو الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي، ولم يسموا على الانفراد منهم كفارًا، وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين، وذلك أن الردَّة اسمٌ لُغويٌّ، وكل من انصرف عن أمرٍ كان مقبلًا عليه فقد ارتد عنه، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق وانقطع عنهم اسمُ الثناء والمدح بالدين، وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقًّا»(6).
ويسوق البدرُ العينيُّ نفسَ كلام الخطابي بحروفه تقريبًا، ويلتزمه ويشرح به الحديث، بل لا ينسبه إلى الخطابي أصلًا، حتى إن الذي لم يطلع على كلام الخطابي يحسبه من كلام البدر العيني نفسه.
ويقول ابن قدامة في «المغني»: «وإنْ منعها معتقدًا وجوبها، وقدر الإمام علَى أخذها منه أخذها وعزره، ولم يأخذ زيادة عليها في قول أكثر أهل العلم؛ فأما إن كان المانع خارجًا عن قبضة الإمام قاتله؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا مانعيها؛ فإن ظفر به وبماله أخذها منه من غير زيادة أيضًا، ولم يُسْبِ ذريته؛ لأن الجناية من غيرهم؛ ولأن المانع لا يُسْبَى فذُريَّته أولى، وإن ظفر به دون ماله دعاه إلى أدائها واستتابه ثلاثًا، فإن تاب وأدى، وإلا قُتِل، ولم يحكم بكفره، وعن أحمد ما يدل على أنه يكفر بقتاله عليها»(7).
ثم ساق رحمه الله أدلته على عدم كفره، ورد على ما استدل به أحمدُ رحمه الله.
وابن حزم يذكر أحوال الناس بعد موت النبي ﷺ فيقول: «انقسمت العربُ بعد موت النبي ﷺ على أربعة أقسام…». ثم يذكر هذه الطائفة فيقول: «وطائفة بقيت على الإسلام أيضًا، إلا أنهم قالوا: نقيمُ الشعائر إلا الزكاة»(8). ولم يقل: وطائفة ارتدت بترك الزكاة.
ويقول القاضي عياض في وصف هذه الطائفة: «وصنف ثالثٌ استمروا على الإسلام لكنهم جحدوا الزكاةَ، وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي ﷺ وهم الذين ناظَر عمرُ أبا بكر في قتالهم، كما وقع في حديث الباب»(9).
ويسوق الشوكاني في «نيل الأوطار» كلامَ الخطابي، ويكتفي به ولا يزيد عليه في هذا الباب، وفي ذلك دلالة على التزامه به وأنه موضع قبول عنده.
والخلاصة أن قتال مانعي الزكاة لا يعني أنهم كانوا جميعًا كفارًا، وأمر القتال مردُّه إلى السلطان المسلم المتمكن صاحب الشوكة والمنعة، ولا مدخل فيه للآحاد من الناس. والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________________
(1) «شرح صحيح مسلم» للنووي (1/202).
(2) «شرح صحيح مسلم» للنووي (1/203- 204).
(3) «شرح صحيح مسلم» للنووي (1/204- 205).
(4) «فتح الباري» (12/277).
(5) «شرح صحيح مسلم» للنووي (1/203).
(6) «شرح صحيح مسلم» للنووي (1/204).
(7) «المغني» (2/428-429).
(8) «فتح الباري» (12/276).
(9) «فتح الباري» (12/276).