القول ببدعية الخلافة الإسلامية

أستاذ كبير بالأزهر ذكر في حديث متلفز أن الخلافة الإسلامية بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وقال: إن الإخوان غسلوا أدمغة شبابهم طوال ثمانين سنة، وجمعوهم حول فكرة ضالة وبدعة محدثة، فما تعليقكم على ذلك؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فنسأل الله لنا ولصاحب هذه المقولة التُّقى والهدى، ونعيذ أنفسنا وإياه من مضلات الفتن، ومن مشتهرات المسائل التي يقال ما هذه؟! ما هذه؟! ورضي الله عن معاذ بن جبل الذي كان فيما يوصي به أصحابه من وصاياه الجامعة قوله:
إن من ورائكم فتنًا يكثُر فيها المال ويُفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحرُّ، فيوشك قائلٌ أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن. ما هم بمتبعي حتى أَبتدع لهم غيرَه، فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالةٌ، وأحذركم زيغةَ الحكيم فإن الشيطانَ قد يقول كلمةَ الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافقُ كلمةَ الحق.
قال الراوي لمعاذ: ما يدريني- رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمةَ الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمةَ الحق؟ قال: بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يُقال لها: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، فإنه لعله أن يُراجِعَ. وتلَقَّ الحقَّ إذا سمعته فإن على الحق نورًا(1).
ولا ندري ما الذي قصده بفكرة أن الخلافة بدعة؟ هل التسمية؟ أم المضمون؟
إن كان التسمية كان الخلاف لفظيًّا، ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقولون، فله أن يسمي القائم على الأمر خليفة، أمير المؤمنين، رئيس جمهورية، ملكًا، سلطانًا، فإن الأمر في ذلك واسع.
ومع تجوُّزنا في أمر المصطلح فإنه يعسر إطلاق القول ببدعية هذه التسمية، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْـخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْـمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»(2).
وقال: «الْـخِلافَةُ بَعْدِي ثَلاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا»(3).
وقال صلى الله عليه وسلم: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ». قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ؛ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»(4). وقد أجمع المسلمون على تسمية أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما وجهُ بِدعيَّة إطلاق لفظ الخلافة على القائم على الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يسوس أمته على وفاق هديه وشريعته صلى الله عليه وسلم؟! وقد ورد هذا اللفظ في أحاديث صحيحة؟!
إذا كنا لا نُلزم به فلا أقل من أن لا نشن الغارة على من يستعمله!!
أما إذا كان يتحدث عن بدعية المضمون، فتعالوا نُحلِّل هذا المضمون، لنرى أي أجزائه يصدق عليها وصفُ البدعة:
إن الخلافة رياسةٌ عامة للأمَّة تقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا به، فهي تتكون من شقين: كونها رئاسةً عامةً للأمة، وكونها تقومُ على تحكيم الشريعة، فأي الشقين ينكر صاحب هذه المقولة غفر الله له؟!
هل ينكر جمع كلمة الأمة تحت قيادة واحدة متى ما كان ذلك ممكنًا؟ أم ينكر أمر تحكيم الشريعة وحراسة الدين وسياسة الدنيا به؟
لا أظن أن الدعوة إلى اجتماع الكلمة، والعمل على تهيئة الأجواء لذلك يُعَدُّ منكرًا من القول أو بدعًا من العمل؟ فقواطع الوحي تُؤكد ذلك {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
وهو مطلب إسلامي ومطلب مدني على حدٍّ سواء، فإنَّ في الاجتماع قوة، وفي التفرُّق الفشل وذهاب الريح، وها هي الولايات المتحدة الأمريكية تضمُّ خمسين ولاية تحت راية سياسية واحدة، وهي أقوى دول العالم على الإطلاق.
وإذا كان هذا ليس هو الواقع المعيش في أمتنا، ولا تلوح إمكاناتُ تحقيقه في الواقع القريب، فلا أقل من أن لا نُصادر عليها الحق في هذا الأمل، ولا الحق في أن تحلم به، وأن تبقيه في أدبياتها، وفي ذاكرة شبابها وأجيالها الحاضرة والقادمة!
ولا أظن أنه ينكر الدعوة إلى تحكيم الشريعة وحراسة الدين وسياسة الدنيا به، فكل آيات الحكم بما أنزل الله قاطعةُ الدلالة على ذلك!
نذكر منها قوله تعالى في سورة المائدة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 48 – 50].
وقوله تعالى في سورة النساء: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} [النساء: 105].
وقوله تعالى في نفس السورة: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
فلا أدري أين موضع الخصومة؟ وأين مناط الإنكار والتبديع؟!
في بدايات القرن الماضي أطلَّ عالمٌ أزهري على الأمة بفكرة قريبة من هذه الفكرة، وأنكر حقائقَ قطعية ثابتة في الشريعة وفي التاريخ، وأنكر عليه الأزهرُ يومَها ممَثَّلًا في هيئة كبار علمائه، وسحبت منه شهادة العالمية، وأخرج من زمرة العلماء، وأثبت الباحثون يومها بالحقائق والوثائق أن الكتاب لمستشرق يهودي ( مرجليوث) وأنه ليس للشيخ منه إلا وضع اسمه عليه وإعادة تحرير بعض فقراته، ليبوء بخزيه وإثمه! فهل يعيد التاريخ نفسه؟!
نربأ بشيخ اليوم أن يدور في نفس الفلك، ومن أعماقنا ندعو له بالهدى والتقى.
وبالمناسبة لا علاقة لهذا بالإخوان المسلمين ولا بغيرهم من التجمُّعات الدعوية، فنحن في هذا المقام ننصح لله ورسوله، وقد علم القاصي والداني أنه لا علاقة لنا بالكيانات التنظيمة الدعوية إلا التناصح العام عن بعد والدعاء. والله تعالى أعلى وأعلم.

________________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب «السنة» باب «لزوم السنة» حديث (4611).
(2) أخرجه أبو داود في كتاب «السنة» باب «في لزوم السنة» حديث (4607)، والترمذي في كتاب «العلم» باب «ما جاء في الأخذ بالسُّنَّة واجتناب البدع» حديث (2676) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
(3) أخرجه الترمذي في كتاب «أبواب الفتن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» باب «ما جاء في الخلافة» حديث (2226)، وابن حبان في «صحيحه» (15/392) حديث (6943) من حديث سفينة رضي الله عنه. وقال الترمذي: «حديث حسن». وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» (459).
(4) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «أحاديث الأنبياء» باب «ما ذكر عن بني إسرائيل» حديث (3455)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء» حديث (1842).

تاريخ النشر : 24 يناير, 2025
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية, 09 نواقض الإيمان.

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend