السؤال:
سُئل أحدُ المفتين السابقين في لقاء متلفَز عن السياحة وعمَّا يجب توفيرُه للسائحين وعما يجبُ إلزامهم به، فأجاب بأن السياحة يجبُ أن تستمر بجميع أنواعها: السياحة التاريخية، والسياحة الشاطئية بما تعنيه هذه الكلمة. وأكد فقال: السياحة الملوخية والهبابية، وكل أنواع السياحة.
وذكر أن مصر مؤهلةٌ لأن تكون بلدًا سياحيًّا محترمًا. وعندما سُئل عن معنى كلمة محترمة أجاب: حاجة يقومها العالم، يعني ينظر إليه العالم بإعجاب، بفخر. وذكر له أنه لو دُرِس النموذج المكي فسوف تنفكُّ حاجات كثيرة.
وعندما استفسر منه عن مراده قال: إن مكة كان بها عُراة يطوفون بالبيت في زمن النبي، فأندية العراة اليوم لها سابقة وهي طواف المشركين بالبيت عراةً في زمن النبوة، فقد كان الحُمس يفعلون ذلك، ويقولون أنهم لا يطوفون في ملابس عصَوا ربَّهم فيها، فهذا مدخل لدراسة العُري الذي نجده اليوم في السياحة.
وعندما سُئل عما إذا كان يفرض على السائح الالتزام بما أعمَلُ وأؤمن به، فنفى ذلك وقال: إن المسلمين ميهبشوش في اللي قدامهم!
فما تعليقكم على ما جاء في هذه المقابلة؟ ومن هم الحُمس؟ وما قضية طوافهم بالكعبة وهم عراة؟ وكم امتد ذلك بعد الفتح؟ وهل يصلح ذلك غطاءً شرعيًّا للتعامل مع عري السياح في الواقع المعاصر؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد صرح الشيخ في جوابه أن الأمر يحتاج إلى عقدِ ورشَةِ عملٍ يتداول فيها أهلُ العلم النظرَ حول هذه القضايا، وأنه لا يريد أن يُنسب إليه في ذلك شيءٌ بادي الرأي، فكأن حديثه كان في إطار ما يسمى بالعصف الذهني- إذا صحَّ هذا التعبير- وليس فتوى نهائية تم تحريرها، وتدقيق القول فيها، ومن ثمَّ تبنيها وإعلان المسئولية عنها، وهذه تحسب له على كل حال.
أما الحُمس فهم قريش، وكانوا يتميزون عن غيرهم بالطواف في ثيابهم بينما يتجرَّد غيرُهم من ثيابه عند الطواف حتى لا يطوف بالبيت في ثياب عصى الله فيها!
قال عروة بن الزبير فيما يرويه البخاري: كان الناس يطوفون في الجاهلية عراةً إلَّا الحُمْس- والحُمْس قريش وما ولدت- وكانت الحُمْس يحتسبون على الناس، يعطي الرجلُ الرجلَ الثيابَ يطوف فيها، وتعطي المرأةُ المرأةَ الثيابَ تطوف فيها، فمَن لم يعطه الحُمْس طافَ بالبيت عريانًا([1]).
يقول الحافظ بن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)} [الأعراف: 28]: «كانت العرب- ما عدا قريشًا- لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأوَّلون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصَوا الله فيها، وكانت قريش- وهم الحمس- يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أَحمَسِيٌّ ثوبًا طاف فيه، ومن معه ثوبٌ جديدٌ طاف فيه، ثم يُلقيه فلا يتملَّكه أحد، فمن لم يجد ثوبًا جديدًا ولا أعاره أحمَسِيٌّ ثوبًا طاف عُريانا، وربما كانت امرأة فتطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئًا يستره بعض الشيء وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله | وما بدا منه فلا أحله |
وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل، وكان هذا شيئًا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستندٌ إلى أمر من الله وشرع، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك»([2]).
وهذه الفاحشة أبطلها الإسلامُ بعد الفتح، فقد كان فتحُ مكة في العام الثامن، ثم كانت حَجُّةُ أبي بكر بالناس في العام التاسع، وفيه بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب لكي يُعلن على الناس أن لا يطوف بالبيت مشركٌ وألَّا يحجَّ بالبيت عريانُ، فقد عنون البخاري لذلك فقال: باب حج أبي بكر بالناس في سنة تسع، وأورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثَه في الحجة التي أمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليها قبلَ حجة الوداع يومَ النحر في رهط يُؤذِّن في الناس: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريانُ([3]).
فلم يقر الإسلام بعد الفتح هذه الفاحشةَ، بل أرسل نبينا في العام التالي لعام الفتح مباشرة بإبطال هذه البدعة المنكرة والفاحشة المبينة.
ومن المقارنة بين طواف عراة المشركين بالكعبة، وتسكع عراة السائحين بالمصايف نلاحظ ما يلي:
أولًا: أن طواف العراة كان مما يَتديَّن به أصحابه، يتأولون أنهم لا يطوفون بالبيت بثياب عصَوا ربهم فيها؛ أما تسكع أصحاب المصايف فهو محضُ الشهوة والتحلُّل من الحريجة الدينية والخُلُقية. فالأول من جنس تشريع ما لم يأذن به الله، والثاني من جنس اتباع الهوى وخطوات الشيطان في معصية الله.
ثانيًا: أنه لا يمكن تسويغُ العُري بمدخل النموذج المكي أو التشريعات المكية، واتخاذه غطاءً شرعيًّا للترخُّص في غضِّ الطرف عن هذا الفسوق عن أمر الله؛ لأننا مُلزمون بآخر ما انتهى إليه أمرُ الدين تدينًا واعتقادًا، ومُكلَّفُون بأن نقيم منه ما تمكَّنا من إقامته، إذ التكليفُ دائمًا مناطُه الوسع والطاقة، والقول بغير ذلك سينتهي بنا إلى لوازم فاسدة لا يقول بها أحَدٌ، ففي النموذج المكي لم يكن هناك صيامٌ ولا زكاة، ولم يكن ثمَّة تحريمٌ للربا أو الخمر.
ثالثا: أن الله جل وعلا لم يُقِرَّ المشركين على فاحشة التجرُّد الكلي من الثياب حول الكعبة، بل جاء التكليف بمنعهم من الطواف على هذه الحالة، بل ومنع المشركين جميعًا من قربان المسجد الحرام، ولكن تجرُّد عراة السائحين يراد له التوطين والاستدامة، فأين هذا من ذاك؟!
رابعًا: أن الله جل وعلا وعد المؤمنين بأن يُغنيهم من فضلهم إذا التزموا أمره وانقادوا لحكمه، وطهروا الكعبة من المشركين، وحالوا بينهم وبين قربان المسجد الحرام، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)} [التوبة: 28]، وقد كان المشركون قديمًا كالسائحين حديثًا من حيثُ البعدُ الاقتصادي في الموضعين.
خامسًا: يمكن التفكير في بدائل للتعامل مع هذا المشهد، فقد يكون من بينها توفيرُ أماكن خاصة بهم لا يرتادها غيرهم، ويتولى إدارتها فريقٌ من بني جلدتهم، وممن كان على شاكلتهم، أو التوسعُ في مفهوم السياحة وأنماطها، مثل سياحة المهرجانات، والقرى السياحية ذات الطراز الخاص، والسياحة العلاجية (مستشفيات عالمية ومنتديات علاجية ونحوه) وعدم اختزالها في سياحة المصايف، والتجرُّد من العفاف والثياب، وقد ينقدح الفكر بالمزيد من الصور والنماذج.
وكنت أرجو وقد سُئل فضيلته عن مقصوده بكلمة (محترمة) عندما قال (إن مصر مؤهلة لأن تكون بلدًا سياحيًّا محترمًا) أن يذكر من معاني هذه الكلمة رعاية الخصوصيات الحضارية والثقافية للبلد المضيف للسائحين، بدلًا من الاقتصار على تفسيرها بأنها (حاجة يُقدِّرها العالم، يعني ينظر إليه العالم بإعجاب وبفخر).
لا يزال ملف هذه القضية مفتوحًا لمن شاء أن يُدلي بدلوه فيه. وفَّق اللهُ الجميع لما يحبُّه ويرضاه، وجنَّبنا جميعًا فتنة الزيغ والزلل، في القول والعمل. والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________________________
([1]) أخرجه البخاري في كتاب «الحج» باب «الوقوف بعرفة» حديث (1665).
([2]) «تفسير ابن كثير» (2/209).
([3]) أخرجه البخاري في كتاب «المغازي» باب «حج أبي بكر بالناس في سنة تسع» حديث (4363).