قراءة القُرْآن وهبة ثوابه إلى المُتوفَّى

هل يجوز أن أقرأَ القُرْآن وأهب ثوابه لوالدي؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن قراءةَ القُرْآن وهبةَ ثوابه إلى المُتوفَّى من مواضع النَّظَر بين أهل العِلْمِ(1)، والصواب في ذلك انتفاع الميت بالقراءة والإهداء، فإنه من جنس الدعاء، والميت ينتفع بدعاء الأحياء كما ينتفع بصدقتهم، ووجه ذلك أن مَن عمل عملًا ملك ثوابَه، ومَن ملك شيئًا فله أن يَهَبَه ما لم يقم بالموهوب له مانعٌ من الانتفاع بالثواب، ولا يمنع منه إلا الكفر، والموت ليس بمانعٍ بدليل وصول الدعاء، وأما حديث: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ…» إلخ(2). فالمنقطع عنه إنما هو ثوابُ عمله هو، وليس عمل غيره إذا أهدي إليه. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.

__________________

(1) جاء في «حاشية ابن عابدين» من كتب الحنفية (2/242-244): «(قوله ويقرأ يس) لما ورد: من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذ، وكان له بعدد من فيها حسنات. بحر. وفي شرح اللباب ويقرأ من القرآن ما تيسر له من الفاتحة وأول البقرة إلى المفلحون وآية الكرسي، وآمن الرسول، وسورة يس وتبارك الملك وسورة التكاثر والإخلاص اثني عشر مرة أو إحدى عشر أو سبعا أو ثلاثا، ثم يقول: اللهم أوصل ثواب ما قرأناه إلى فلان أو إليهم. ا هـ. مطلب في القراءة للميت وإهداء ثوابها له: [ تنبيه ] صرح علماؤنا في باب الحج عن الغير بأن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوما أو صدقة أو غيرها كذا في الهداية، بل في زكاة التتارخانية عن المحيط: الأفضل لمن يتصدق نفلا أن ينوي لجميع المؤمنين والمؤمنات لأنها تصل إليهم ولا ينقص من أجره شيء ا هـ. هو مذهب أهل السنة والجماعة، لكن استثنى مالك والشافعي العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة فلا يصل ثوابها إلى الميت عندهما، بخلاف غيرها كالصدقة والحج. وخالف المعتزلة في الكل، وتمامه في فتح القدير. أقول: ما مر عن الشافعي هو المشهور عنه. والذي حرره المتأخرون من الشافعية وصول القراءة للميت إذا كانت بحضرته أو دعا له عقبها ولو غائبًا لأن محل القراءة تنزل الرحمة والبركة، والدعاء عقبها أرجى للقبول، ومقتضاه أن المراد انتفاع الميت بالقراءة لا حصول ثوابها له، ولهذا اختاروا في الدعاء: اللهم أوصل مثل ثواب ما قرأته إلى فلان، وأما عندنا فالواصل إليه نفس الثواب. وفي البحر: من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء جاز، ويصل ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة كذا في البدائع، ثم قال: وبهذا علم أنه لا فرق بين أن يكون المجعول له ميتا أو حيا. والظاهر أنه لا فرق بين أن ينوي به عند الفعل للغير أو يفعله لنفسه ثم بعد ذلك يجعل ثوابه لغيره، لإطلاق كلامهم، وأنه لا فرق بين الفرض والنفل. ا هـ. وفي جامع الفتاوى: وقيل: لا يجوز في الفرائض. ا هـ. وفي كتاب الروح للحافظ أبي عبد الله الدمشقي الحنبلي الشهير بابن قيم الجوزية ما حاصله: أنه اختلف في إهداء الثواب إلى الحي؛ فقيل يصح لإطلاق قول أحمد: يفعل الخير ويجعل نصفه لأبيه أو أمه، وقيل لا لكونه غير محتاج لأنه يمكنه العمل بنفسه؛ وكذا اختلف في اشتراط نية ذلك عند الفعل، فقيل: لا لكن الثواب له فله التبرع به وإهداؤه لمن أراد كإهداء شيء من ماله، وقيل نعم لأنه إذا وقع له لا يقبل انتقاله عنه، وهو الأولى. وعلى القول الأول لا يصح إهداء الواجبات لأن العامل ينوي القربة بها عن نفسه. وعلى الثاني يصح، وتجزئ عن الفاعل. وقد نقل عن جماعة أنهم جعلوا ثواب أعمالهم للمسلمين، وقالوا: نلقى الله- تعالى- بالفقر والإفلاس، والشريعة لا تمنع من ذلك. ولا يشترط في الوصول أن يهديه بلفظه كما لو أعطى فقيرا بنية الزكاة لأن السنة لم تشترط ذلك في حديث الحج عن الغير ونحوه، نعم إذا فعله لنفسه ثم نوى جعل ثوابه لغيره لم يكف كما لو نوى أن يهب أو يعتق أو يتصدق ويصح إهداء نصف الثواب أو ربعه كما نص عليه أحمد، ولا مانع منه. ويوضحه أنه لو أهدى الكل إلى أربعة يحصل لكل منهم ربعه فكذا لو أهدى الربع لواحد وأبقى الباقي لنفسه ا هـ ملخصا».
وجاء في «حاشية الدسوقي» من كتب المالكية (1/423): «(تنبيه) قال في التوضيح في باب الحج المذهب أن القراءة لا تصل للميت حكاه القرافي في قواعده والشيخ ابن أبي جمرة ا هـ وفيها ثلاثة أقوال: تصل مطلقا، لا تصل مطلقا، والثالث: إن كانت عند القبر وصلت وإلا فلا، وفي آخر نوازل ابن رشد في السؤال عن قوله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} قال وإن قرأ الرجل وأهدى ثواب قراءته للميت جاز ذلك وحصل للميت أجره ا هـ. وقال ابن هلال في نوازله الذي أفتى به ابن رشد وذهب إليه غير واحد من أئمتنا الأندلسيين أن الميت ينتفع بقراءة القرآن الكريم ويصل إليه نفعه، ويحصل له أجره إذا وهب القارئ ثوابه له، وبه جرى عمل المسلمين شرقا وغربا ووقفوا على ذلك أوقافا واستمر عليه الأمر منذ أزمنة سالفة، ثم قال: ومن اللطائف أن عز الدين بن عبد السلام الشافعي رئي في المنام بعد موته فقيل له ما تقول فيما كنت تنكر من وصول ما يهدى من قراءة القرآن للموتى فقال هيهات وجدت الأمر على خلاف ما كنت أظن. ا هـ».
وجاء في «حاشيتي قليوبي وعميرة» من كتب الشافعية (3/177): «فرع: ثواب القراءة للقارئ، ويحصل مثله أيضا للميت، لكن إن كانت بحضرته أو بنيته أو يجعل مثل ثوابها له بعد فراغها على المعتمد في ذلك».
وجاء في «الفروع» من كتب الحنابلة (2/307-313): «فصل. كل قربة فعلها المسلم وجعل ثوابها للمسلم نفعه ذلك، وحصل له الثواب، كالدعاء (ع) والاستغفار (ع) وواجب تدخله النيابة (ع) وصدقة التطوع (ع) وكذا العتق، ذكره القاضي وأصحابه أصلا، وذكره أبو المعالي وشيخنا (ع) وصاحب المحرر (و) وكذا حج التطوع (م ر) وفي المجرد: من حج نفلا عن غيره وقع عمن حج، لعدم إذنه، وكذا القراءة والصلاة والصيام، نقل الكحال في الرجل يعمل شيئا من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك ويجعل نصفه لأبيه أو أمه: أرجو، وقال: الميت يصل إليه كل شيء من الخير من صدقة أو صلاة أو غيره».
وجاء في «كشاف القناع» من كتب الشافعية (2/147-149): «قال أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير، للنصوص الواردة فيه ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر ويقرءون ويهدون لموتاهم من غير نكير فكان إجماعًا».

(2) أخرجه مسلم في كتاب «الوصية» باب «ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته» حديث (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   01 القرآن الكريم وعلومه

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend