عندي سؤال عن أحد الانتقادات التي يوجهها المستشرقون للقرآن؛ يقولون: إنه إذا قرأ أحدهم كتابًا وقد أعاد الكاتب فيه قصةً من القصص مرات عديدة فإن الكاتب يُنتقد لذلك انتقادًا شديدًا، بل إنه يعتبر غيرَ مُنظَّم ويُظن أنه لا يجد ما يقول فيُضطر إلى أن يُعيد القصة مرارًا كثيرة حتى يجعل كتابه ضخمًا مع أن كثيرًا مما فيه مكرر. ويقولون: إن قصص القرآن مكررة تكرارًا كثيرًا، كقصة موسى مثلًا. فما ردنا على ذلك حفظكم الله؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فأسوق لك طرفًا مما ذكره الأستاذ محمد قطب في كتابه «دراسات قرآنية» ردًّا على هذه الشبهة:
إن التكرار نادر جدًّا في القرآن الكريم لا يتجاوز آيات معدودة جاءت بنصها في أكثر من سورة.
ولكن الظاهرة الحقيقية ليست هي التكرار، إنما هي التشابه الذي يؤدي إلى التنوع، وقلت: إنها كثمار الجنة، تبدو لأول وهلة أنها هي هي، ولكنها عند المذاق يتبين الفرق بينها وبين ما كان من قبل؛ ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: 25] وهذا التشابه الذي يؤدي إلى التنويع هو ذاته لون من الإعجاز.
فالموضوع الواحد يُعرض مرارًا، ولكنه يعرض في كل مرة مختلفًا عما سبقه نوعًا من الاختلاف، فيكون جديدًا في كل مرة، ويكون- مع التلاوة المستمرة للقرآن- متجددًا على الدوام، وقد يكون الاختلاف في حرف واحد، ولكنه يُغيِّر الصورة. خذ هذا النموذج:
﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 49].
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [إبراهيم: 6].
هناك نوعان من الاختلاف بين الآيتين وإن كان موضوعهما واحدًا:
فالآية الأولى خطاب من الله تبارك وتعالى إلى بني إسرائيل يذكرهم بنعمه عليهم، ويمن عليهم بأنه نجَّاهم من آل فرعون الذين يسومونهم سوء العذاب.
والثانية خطاب من موسى عليه السلام إلى قومه يذكرهم بنعم الله عليهم، ويذكرهم بالذات بتلك النعمة الكبرى، وهي تنجيتهم من آل فرعون الذين يسومونهم سوء العذاب، بالإضافة إلى التغيير في صيغة الفعل: «نجيناكم» و«أنجاكم»، أحدهما متعدٍّ بالتضعيف والآخر مُتعدٍّ بالهمزة، وأحدهما بضمير المتكلم والثاني بضمير الغائب.
ولكن انظر إلى الجزء الخاص بالعذاب الذي كان يوقعه آل فرعون ببني إسرائيل، إن فيه اختلافًا بين الآيتين يُحدث تغييرًا في الصورة: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة: 49]، ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [إبراهيم: 6].
إن الفارق بين العبارتين حرف واحد، هو الواو التي جاءت في الآية الثانية قبل كلمة «يذبحون»، ولكن انظر كم أحدث الحرف الواحد من الاختلاف بين الصورتين؟! في الصورة الأولى ينحصر العذاب في قتل الأولاد واستحياء النساء، وفي الثانية يصبح هذا الأمر واحدًا فقط من ألوان العذاب التي تُصَبُّ على بني إسرائيل، وإن كان السياق يُوحي بأنه من أبرزها وأشدها وأخبثها؛ إذ أجمل سوء العذاب وفصَّل قَتْل الأولاد واستحياء النساء.
ذلك مجرد نموذج ينفي خاطر التكرار الذي يتوهمه قارئ القرآن لأول وهلة، ويُبرز بدلًا منه ظاهرة التشابه التي تؤدي إلى التنويع، والتي تشبه ثمار الجنة الموصوفة في القرآن الكريم. والله تعالى أعلى وأعلم.