الإعجاز العددي في القرآن الكريم

ما مدى حُجية الإعجاز العددي في القرآن الكريم؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
مصطلح (الإعجاز العددي للقرآن) مصطلح مطاط، يستعمل في معان صحيحة، وفي معانٍ باطلة، فأما المعاني الصحيحة، فمنها:
1) استخراج بعض اللطائف القرآنية المتعلقة بالأعداد نحو قولهم: ذكرت الملائكة في القرآن 88 مرة وذكرت الشياطين في القرآن نفس العدد من المرات، وذكرت الحياة في القرآن 145 مرة وذكر الموت في القرآن نفس العدد من المرات، وذكر الناس في القرآن 368 مرة وذكرت الرسل في القرآن نفس العدد من المرات، وذكر إبليس في القرآن 11 مرة وذكر التعوذ منه في القرآن نفس العدد من المرات، وذكرت المصيبة في القرآن 75 مرة وذكر الشكر في القرآن نفس العدد من المرات، ونحو ذلك. فلا مانع أن يعد هذا التوافق العجيب وجهًا من وجوه الإعجاز القرآني يضاف إلى وجوه الإعجاز العديدة للقرآن الكريم.
ويستفاد من هذا الوجه في محاورة أهل الكتاب، فيقال لهم: إن القرآن أنزل على نبيٍّ أمي لا يكتب ولا يحسب، ولا كان في زمنه حواسب لإحصاء الكلمات، ومع ذلك وجد في القرآن هذا التوافق العجيب الذي يؤكد أنه ليس بقول بشر.
2) ومن المعاني التي لا بأس بها أن يذكر- كلطيفة قرآنية- ما وافق من الأعداد حقيقة علمية ثابتة في العلوم الطبيعية وليست نظرية قابلة للأخذ والرد، ومثاله قول بعضهم: كلمة البحر ذكرت في القرآن الكريم 32 مرة، وذكرت كلمة البر في القرآن الكريم 13 مرة، ونسبة 32 إلى 13 هي بالضبط نفس نسبة الماء إلى اليابسة في الكرة الأرضية، فسبحان الله.
أما المعاني الباطلة، فمنها:
1) استعمال الأعداد في التنبؤ بأحداث غيبية، أو ادعاء دلالة القرآن على زمن وقوعها؛ مثل ادعاء دلالة القرآن على تاريخ أحداث 11 سبتمبر، وكثيرًا ما يرتكب مروِّجُو هذه الخزعبلات بعض المغالطات، كاستعمال التاريخ النصراني لكون التاريخ الإسلامي لم يسعفهم في تحقيق مرادهم، ومن عدهم لبعض الآيات أو السور في حسبة معينة، وإهمالها في حسبة أخرى لتتوافق مع أغراضهم، وهذا المسلك باطل من جهة أنه كهانة وادعاء لعلم الغيب الذي استأثر الله تعالى به، وباطلٌ أيضًا من جهة أنه مسلك اليهود من قبل.
قال الإمام ابن كثير في تفسير{الم} في أول سورة البقرة: «وأما من زعم أنها دالة على معرفة الـمُدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادعى ما ليس له وطار في غير مطاره، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدلُّ على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته، وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي: حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب، قال: مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله ﷺ وهو يتلو فاتحة سورة البقرة {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ } [البقرة: 1، 2]، فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمدًا يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ } [البقرة: 1، 2]فقال: أنت سمعته؟ قال: نعم. قال: فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله ﷺ فقالوا: يا محمد، ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1، 2]؟ فقال رسول الله ﷺ: «بَلَى»، فقالوا: جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال: «نَعَمْ»، قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بيَّن لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجَل أمته غيرك. فقام حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه فقال لهم: الألِف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون. فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟! ثم أقبل على رسول الله ﷺ فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ فقال: «نَعَمْ» قال: ما ذاك؟ قال: «المص» قال: هذا أثقل وأطول: الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون. فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: «نَعَمْ» قال: ما ذاك؟ قال: «الر» قال: هذا أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان. فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: «نَعَمْ» قال: ماذا؟ قال: «المر» قال: هذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان. فهذه إحدى وسبعون ومائتان. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلًا أعطيت أم كثيرًا. ثم قال: قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله: إحدى وسبعون، وإحدى وثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان. فذلك سبعمائة وأربع سنين. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]

فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبيِّ وهو ممن لا يحتج بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحًا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم. والله أعلم». اهـ.
2) ومن المعاني الباطلة أيضًا استغلال بعض المبتدعة والزنادقة لورود عدد معين في القرآن، من أجل تعظيم ذلك العدد، وإحداث عبادات مبتدعة مرتبطة بهذا العدد، كهذا الدكتور الضال الذي ادعى أن العدد 19 له خصوصية في القرآن، لقوله تعالى:  ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ [المدثر: 30]، ولأن حروف البسملة تسعة عشر، ثم أخذ يستعمل الحاسب في استخراج أشياء من هذا القبيل ككون الحرف الفلاني تكرر في السورة الفلانية كذا مرة وهذا من مضاعفات الـ 19، ثم خلص في النهاية إلى أن المسلمين عليهم أن يصوموا 19 يومًا ويتقربوا بـ 19 من كذا وكذا من العبادات، وهذا لا ريب أنه من البدع والضلالات، وبوسع كل إنسان لو فتش وحسب أن يستخرج مثل ما استخرج هذا المبتدع ولكن لأعداد أخرى.
3) وكذلك تعظيم بعض الجماعات الإسلامية للعدد 40؛ لأنه ورد في قوله تعالى:{ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] فاستحبوا تخصيص هذا العدد بأشياء من الخير تفعل 40 يومًا أو مرة، ونسي هؤلاء أن النفساء كانت تترك الصلاة في زمن النبي ﷺ أربعين ليلة أيضًا.
فالخلاصة: أن هذا المسلك مسلك بدعي، ولو كان فيه خير لسبقنا إليه أصحاب محمد ﷺ، وورود العدد أو مضاعفاته في القرآن لا يعني إحداث عبادات متعلقة به، ولا يعني التعظيم لهذا العدد، فلا مزية له على غيره. والله تعالى أعلى وأعلم.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   01 القرآن الكريم وعلومه

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend