شيخنا حفظك الله ورعاك، ما هي آخر آية وآخر سورة أنزلت من القرآن؟ جزاكم الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
اختلف أهل العلم في آخر آية نزلت من القرآن على أقوال:
القول الأول: أن آخر آية نزلت هي آية الربا، وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 278]. روى ذلك البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه (1).
القول الثاني: أن آخر آية نزلت آية: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281] رواه النسائي عن ابن عباس وسعيد بن جبير(2).
القول الثالث: أن آخر آية نزلت آية الدَّين: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 282].
فقد روي عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدًا بالعرش آية الدَّين(3).
وقد جمع بين هذه الروايات الثلاث بأنَّ هذه الآيات نزلت دفعةً واحدةً كترتيبها في المصحف، فروى كل واحد بعض ما نزل بأنه آخر ما نزل.
القول الرابع: أن آخر آية نزلت قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
وهنالك أقوال أخرى منها آية الكلالة، كما روى ذلك الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله عنه (4).
ومِن أحسن ما قيل في هذا الاختلاف قول من قال: هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي ﷺ، ويجوز أن يكون قاله قائله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن، ويحتمل أن كلًّا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي ﷺ في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل، ويحتمل أيضًا أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول ﷺ مع آيات نزلت معها، فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك، فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب، والله تعالى أعلى وأعلم.
وكما اختلف أهل العلم في آخر آية نزلت اختلفوا كذلك في آخر سورة نزلت من القرآن على أقوال:
منها أن آخر سورة نزلت من القرآن هي سورة النصر {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } [النصر: 1] وهذا قول ابن عباس ب.
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال لي ابن عباس: تعلم آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعًا؟ قلت: نعم، رضي الله عنه ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾} [النصر: 1] قال: صدقت(5).
ويؤيد هذا ما صحَّ عن عمر وابن عباس أن هذه السورة أشارت إلى أجَل النبي ﷺ ونعت إليه نفسه.
فعن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من قد علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رُئِيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. قال: ما تقولون في قول الله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النصر: 1] فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا. فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجَلُ رسول الله ﷺ أعلمه له. قال:﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر: 3] وذلك علامة أجلك فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول(6).
ومنها أن آخر سورة نزلت هي سورة التوبة، قال البراء بن عازب رضي الله عنه : آخر سورة نزلت هي براءة (التوبة)، وآخر آية نزلت: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ [النساء: 176]).
ومنها أن آخر سورة نزلت هي سورة المائدة، فعن جبير بن نفير قال: دخلت على عائشة فقالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: قلت: نعم. قالت: فإنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه، وسألتها عن خُلُقِ رسول الله ﷺ فقالت: القرآن(7). والحديث صححه شعيب الأرنئوط في «تحقيق المسند».
ولم يثبت عن النبي ﷺ حديث في بيان آخر سورة نزلت من القرآن، ولهذا اختلف الصحابة، فقال كل بما أداه إليه اجتهاده، والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________
(1) أخرجه البخاري في كتاب «تفسير القرآن» باب {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] حديث (4544).
(2) أخرجه النسائي في «الكبرى» (11057).
(3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/117).
(4) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «تفسير القرآن» باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]حديث (4605)، ومسلم في كتاب «الفرائض» باب «آخر آية أنزلت آية الكلالة» حديث (1618).
(5) أخرجه مسلم في كتاب «التفسير» حديث (3024).
(6) أخرجه البخاري في كتاب «تفسير القرآن» باب «قوله {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]» حديث (4970).
(7) أخرجه أحمد في «مسنده» (6/188) حديث (25588)، أخرجه البيهقي في «الكبرى» (6/333) حديث (11138)، وأخرجه الحاكم في «مستدركه» (2/340) حديث (3210) مختصرًا إلى قوله: «فحرِّموه». وقال: «حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».