وقفات هادئة مع مقالة الكاتب الكبير الأستاذ علاء الأسواني «قبل أن تقطعوا أيدينا»

سؤالي حول مقال للكاتب علاء الأسواني تحت عنوان «قبل أن تقطعوا أيدينا»، وقد ذكر فيه أن الدعوة إلى تطبيق الشريعة كما يقدمها الإسلام السياسي تقود إلى كارثة، وأن دعاته يخلطون بين الفقه وهو ميراث بشري بحت، وبين الشريعة وهي أحكام قطعية أبدية، وأنهم يريدون الفقه وليس الشريعة، وأنهم بهذا يقودون البلد قطعًا إلى كارثة. وضرب أمثلة على ذلك بعدم قبول شهادة الذمي، وما يعنيه ذلك من ضياع حقوق الذميين، وحد شارب الخمر، وأثر ذلك على تراجع السياحة وفرار السياح، وحد القذف وعدم تطبيقه على من يقذف أحدًا من غير المسلمين، وكون دية الذمي على النصف من دية المسلم وأثر ذلك على الإخلال بحقوق المواطنة وإيقاد نيران الطائفية. تجدون هذا المقال منتشرًا بكثرة على الإنترنت. أرجو الرجوع إليه وإفتاءنا في أمره، مأجورين، بارك الله فيكم.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فهذه وقفات هادئة مع مقالة الكاتب الكبير الأستاذ علاء الأسواني «قبل أن تقطعوا أيدينا»، وقد أحالها إليَّ أحد الأفاضل واستفتاني حول ما جاء فيها من التفريق بين الشريعة والفقه، وما أثاره من تساؤلات حول تطبيق بعض الأحكام الشرعية كما وردت في كتب الفقه، وما يمكن أن تجرَّه على الوطن في تقديره من آثار كارثية.

أسفي على نفسي وعلى إخواني من المشتغلين بالفقه، وليس على الكاتب الكبير.
والحقيقة أنني أسفت عند قراءتي لهذا المقال، ولم يكن أسفي على الكاتب؛ فقد أثار الكاتب مخاوف تعتمل في صدور كثير من الناس، ومرد كثير منها إلى الالتباس والتقصير في البيان، وهي مخاوف مشروعة، وهذا هو التوقيت الصحيح لإثارتها، والتماس الرد الواضح عليها في هذه الظروف الدقيقة التي يتجه فيها السواد الأعظم من الأمة بمختلف أطيافها إلى تطبيق الشريعة.

وإنما كان أسفي على نفسي وعلى إخواني من المنتسبين إلى العلم ومن المشتغلين بالفقه، أننا قصرنا في استفاضة البلاغ بحقيقة الشريعة، وبيان منزلتها من الدين، والرد على شبهات المتخوفين، والذين يرون فيها مجهولًا قادمًا قد يُمهِّد الطريق إلى جملة من الحرائق والتشرذمات.

أسأل الله أن يغفر لنا تقصيرنا، وأن يقدرنا على القيام بحقوق أمتنا، وخصوصًا صفوتها المثقفة من الكتاب وحملة الأقلام.

وهذه الوقفات لا تستصحب روح المناظرة أو الإثارة، وإنما هي مناصحة مخلصة هادئة لكاتب كبير، له وقفاته الوطنية المميزة. وأسأل الله جل وعلا أن يشرح صدره لقبولها والانتفاع بها، وأن يجنبنا الزيغ والزلل في القول والعمل. اللهم آمين.

من ذا الذي أدخل كاتبنا الكبير وفقه الله فيمن تقطع أيديهم باسم الشريعة؟
أول ما استوقفني في هذا المقال عنوانه «قبل أن تقطعوا أيدينا»! ووجدتني أتساءل: من ذا الذي أدخل كاتبنا الكبير وفَّقه الله فيمن تُقطَع أيديهم باسم الشريعة؟! إن هذا الحكم لم يرد في كتاب الله إلا في موضعين: أحدهما في السراق، والآخر في البلطجية من القتلة وقطاع الطرق، كشبيحة النظام الأسدي أو بلطجية العادلي ونحوهم، ولن يكون شيء من ذلك- حتى مع هؤلاء- إلا بعد تحقيقات قضائية في غاية الاستيعاب والدقة، وبعد أن يمر الحكم بكل مراحل التمييز القضائي بمختلف درجاته، وأي شبهة ترد يُدرَأ

بها الحدُّ ويحال الأمر إلى التعزير، وهو عقوبة اجتهادية تفوض إلى الولاة والقضاة، وتنظمها القوانين في إطار مقاصد الشريعة، وفي ظل رقابة من الدستور ومواثيق حقوق الإنسان. 

فمن ذا الذي أدخل كاتبنا مع السراق والبلطجية والشبيحة؟ وهو الذي لا يملك إلا قلمه ولسانه اللذين يدافع بهما عما يحمله من قناعات، والمواقف الفكرية لا تواجه بقطع الأيدي، وإنما تبذل النصيحة لأصحابها بالحكمة والموعظة الحسنة.

وأيًّا كان موقفنا من هذه القناعات اتفاقًا أو اختلافًا فحاشا لله أن يكون لأحد سبيل إلى يديه باسم الشريعة، بل نؤكد له أن حملةَ الشريعة سيبذلون دماءهم دون حماية يده إن سولت لأحد من الناس نفسه أن يعتدي عليها أو أن يمسها بسوء.

تثمين لقول الكاتب الكبير: إن شريعة الله هي العدل والحق، وإنه ليس ضد الشريعة.
ثم أثني بعد ذلك بالذي هو خير، فأثمن قول الكاتب الكبير: إن أي مسلم قطعًا يحب أن يطبق شريعة الإسلام. وتأكيده على هذا قرب نهاية المقال بقوله: أكرر أننا لسنا ضد الشريعة الإسلامية؛ لأن شريعة الله هي العدل والحق.

وأقول: هذه تحسب للكاتب إذا قارنا هذه المقولة بمقولة العلمانيين العقديين، مثل فرج فودة، الذي كان يقول بصراحة: إنه ضد تطبيق الشريعة فورًا أو حتى خطوة خطوة. فالفرق إذًا أننا في هذه الحالة على الأقل توجد أرضية مشتركة يمكن أن نقف عليها، بخلاف حالة الإباء والرفض المجمل التي أفصح عنها وأشاعها فرج فودة وأمثاله، وهو الآن بين يدي ربه أسيرٌ بأعماله وأقواله.

فأسأل الله أن تكون هذه اللمحة الإيجابية من الكاتب الكبير منطلقًا للخير والإصلاح: وقد رزقني الله جل وعلا شخصية توافقية، تسعى في البحث عن نقاط التوافق والائتلاف، قبل النظر في نقاط الفرقة والاختلاف. فنحيي هذه المقولة, ونرى أن لها بعدًا إيجابيًّا لا يمكن تجاهله في وقفاتنا هذه مع مقالة الكاتب الكبير.

فأين إذًا وجه الخلاف؟! إنه التفريق بين الفقه والشريعة.
ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن بعد هذه التوطئة: إذا كان كاتبنا الكبير يقرر صراحة أن شريعة الله هي الحق والعدل، وأن أي مسلم يحب أن يطبق شريعة الإسلام. فأين إذًا وجه الخلاف معه وقد أقر مشكورًا بهذه المبادئ، وأكد على ذلك في صدر حديثه ومنتهاه؟! 

إنه يحرر بنفسه وفقه الله محل النِّزَاع، ويجعله محور مقاله، وهو التفريق بين الشريعة والفقه، فالشريعة كما يراها كاتبنا الكبير هي المبادئ الثابتة التي أنزلها الله علينا، وهي إلهية ثابتة لا تتغير أبدًا، وهي بالتأكيد تدعو إلى الحق والخير والعدل والمساواة. أما الفقه كما يراه فهو العلم الذي يُمَكِّنُنا من فهم الشريعة وتطبيقها على حياتنا اليومية، وهو إنجاز بشَرِي يتغير بتغير الزمان والمكان، وهو أحكام فقهية كتبها بشرٌ مثلنا، يصيبون ويخطئون، وكثير من هذه الأحكام كانت مناسبة للمجتمع في القرن العاشر، لكنها لم تَعُد

ملائمةً للمجتمع في القرن الحادي والعشرين.
وقفة مع هذا التفريق: ولي وقفة مع هذا التفريق، وهي وقفة ممن عاش مع الفقه الإسلامي زهاء نصف قرن، فأرجو أن يتسع لها صدر كاتبنا الكبير، وأن يُجِيل النظر فيها لعل الله أن يريه منها شيئًا نافعًا، وأن يشرح صدره لقبولها، فلا شك أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم أنه مُلاقٍ ربَّه يومًا من الدهر، وأنه موقوف ومسئول، ويهمه خلاص نفسه عند لقائه بربه، وليس على الله بعزيز أن يُعِزَّه بنصرة دينه وشريعة ربه، وأن يعز دينه وشريعة ربه بقلمه وبلسانه، اللهم آمين.

إن الحديث حول هذا التفريق حديث قديم تتداوله أقلام اللبراليين، ويتواصون به منذ زمن طويل؛ فقد أثاره من قبل الدكتور فؤاد زكريا، والدكتور فرج فودة، والمستشار محمد سعيد العشماوي، وآخرون. 

ليس كل الفقه عملًا بشريًّا، وليس كل الشرائع قطعية أبدية؛ إن الفقه يا سيدي كالشريعة، في كل منهما ما هو محكم قطعي، وفي كل منهما ما هو متشابه ظني، فليس كل الفقه عملًا بشريًّا بحتًا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد، وليس كل الشرائع قطعية أبدية لا يعتريها نسَخٌ ولا يَرِد عليها تبديل.

وإن المبتدئين في الدراسات الفقهية في كليات الشريعة والقانون في جامعة الأزهر مثلًا يعلمون أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبط من الأدلة التفصيلية، ويدركون أنه يشمل الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات، سواء في باب العبادات أم في باب المعاملات، ويدركون أن من ذلك ما هو ثابت قطعي، لا يختلف باختلاف الزمان والمكان، كأمهات الفرائض وأمهات الفواحش، ومنه ما هو من المشتبهات ومواضع الاجتهاد، كآلاف المسائل الاجتهادية التي ذخرت بها كتب الفقه، بل إن الفقه

قد يُطلق على الأصول الاعتقادية، وقد كتب أبو حنيفة كتابًا في العقائد سماه «الفقه الأكبر». كما يدركون كذلك أن تعبير الشرائع يطلق على الشرع المنزل وهو الأحكام القطعية، والشرع المؤول وهو الأحكام الاجتهادية، والشرع المبدل وهو الأحكام المنسوخة.

كاتبنا الفاضل يظنُّ أن الشريعة هي المبادئ الثابتة التي أنزلها الله علينا، وأنها إلهية ثابتة لا تتغير أبدًا.

وأنا أدعوه إلى مراجعة كتاب الله تعالى، وإلى مراجعة من شاء من أهل الفتوى ممن يثق بهم، (مشيخة الأزهر، دار الإفتاء، مجمع البحوث،، هيئة كبار العلماء، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية… الخ).

إن اختلاف الشرائع حقيقةٌ قرآنية؛ فقد جعل الله تعالى لكل نبي شرعة، فقال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: 48]، وقد يكون الشيء حرامًا في شريعة يحله الله في شريعة لاحقة أو العكس، ففي القرآن الكريم قول الله تعالى في اليهود: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [النساء: 160]، وفي القرآن الكريم إشارة إلى وضع بعض هذه الأغلال على يد المسيح عليه السلام ، فقال تعالى على لسان المسيح عليه السلام : ﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران: 50]، ثم اكتمل وضعها بالكلية على يد خاتم الأنبياء صلوات ربي وسلامه

عليه، كما قال تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157]، وقد شبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم  ذلك أبلغ تشبيه في قوله صلى الله عليه وسلم : «الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ»»(1) مشيرًا بذلك إلى وحدة العقائد وتعدد الشرائع.

ووقوع النَّسْخ بين الشرائع السماوية حقيقةٌ قطعيةٌ، فنحن متعبدون بالشريعة المحمدية، وليس بالشريعة الموسوية أو المسيحية، ولما كانت العلاقة مع غير المسلمين في ديار المسلمين تحكمها قاعدة «إقرارهم وما يدينون» كان النص في الدستور أن تكون المرجعية في مسائل الأحوال الشخصية لغير المسلمين وفي اختيار قياداتهم الروحية إلى شرائعهم الدينية، إيمانًا من الجميع بتعدد الشرائع في الواقع وليس بوحدتها.

ووقوع النسخ في الشريعة الواحدة حقيقة قرآنية كذلك، قال تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106]، وما نبَأُ نَسْخِ القبلة من بيت القدس إلى البيت الحرام أو التدرُّج في تحريمِ الخمر بخافٍ على مثل الكاتب الكبير.

ما الحرج في إطلاق الشريعة على المبادئ الثابتة، والفقه على المسائل الاجتهادية؟
ولأحد أن يقول: وما الحرج في إطلاق الشريعة على المبادئ الثابتة، والأحكام القطعية في الدين والفقه على المسائل الاجتهادية، ما دامت المسألة مسألة مصطلح، ولا مُشاحَّة في الاصطلاح كما يقولون؟

ونقول: لو وقف الأمر عند حدود المصطلحات مع الاتفاق على المضمون لهان الخَطب، ولكن يرد على ذلك ما يلي:

أولًا: أن هذا الطَّرْح يرفضه كاتبنا الفاضل، ويشنُّ الغارة على النصِّ الدستوري الشارح لمفهوم مبادئ الشريعة وهو النص الذي يقول: «مبادئ الشريعة تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة». واعتبره نصًّا كارثيًّا يسوق البلاد إلى خطر محقق.

فقال ما نصه: هذه المادة ببساطة تحيل مبادئ الشريعة إلى الأحكام الفقهية وتدفع بمصر إلى خطر محقق.
ثانيًا: أن هذا التفريق له خبيء، وليس مجرد تفرقة اصطلاحية بحتة، بل هو جزء من منظومة فكرية متكاملة يراد منها القضاء على الشريعة، بتفريغها من مضمونها، وإلغاء مرجعيتها في نهاية المطاف. نحن نحسن الظن بكاتبنا، ونحسب أنه لا يقصد هذا المعنى الذي يروج له غلاة اللبراليين.

فإن سأل سائل: وكيف ذلك؟
قلنا له: تبدأ القضية بضرب الفقه بدعوى ظنيةِ أدلته، وارتباط أحكامه بملابسات الأزمنة والأمكنة التي ظهر بها. وهذا يعني إلغاء جميع ما ذخرت به المكتبة الإسلامية من الفقه مجمعًا عليه ومختلفًا فيه على مدى تاريخ الإسلام.

ثم تبدأ الخطوة الثانية بالالتفاف على السنَّة والتفريق بين المتواتر والآحاد، والقول بأن أحاديث الآحاد ليست حجة في باب العمل، ولا تفيد الحِلَّ والحرمة، وهو القول الذي لم يعرف له إمام، ولا سطر من قبل في كتاب من كتب الإسلام فتسقط بذلك حجية السنة.

ثم تبدأ الخطوة الثالثة بالالتفاف على القرآن، والقول بأن النصَّ العام يتحول بمجرد أن يتعامل البشر معه بدءًا من النبي صلى الله عليه وسلم  وانتهاء بآحاد الناس من منطوق إلى مفهوم، ومن تنزيل إلى تأويل، فيصبح الحكم المستفاد منه حكمًا بشريًّا بحتًا لا حرمة له ولا قداسة، بل هو من جنس الاجتهادات البشرية العادية، لا فرق في ذلك بين بيان الرسول لهذا النص وبين بيان غيره من الناس؛ لأن في القول بأن بيان الرسول للنص مطابق لعينِ مراد الله بهذا النص تأليهٌ للنبي صلى الله عليه وسلم . كذلك يزعمون.

وهكذا ينعدم اليقين في أحكام الإسلام، وتنتقل جميع شرائعه من دائرة الأحكام الإلهية إلى دائرة الاجتهادات البشرية، ومن دائرة المقطوع به إلى دائرة المختلف فيه، فتسقط حجية القرآن، وتسقط حجية السنة، ويسقط الفقه، وهكذا تبطل الشريعة، وينهدم الإسلام.

وما دامت مبادئ الشريعة التي يتحدث عنها غلاة العلمانيين ثابتة وأبدية- وأنزه كاتبنا الفاضل أن يكون منهم- فهي إذًا لا تختلف باختلاف الملل والنحل، فهي في اليهودية وفي النصرانية وفي الإسلام سواء، أليست كل هذه رسالات سماوية تنزلت أصولها من عند الله؟! بل ولا يبعد القول بأنها من العموم والمرونة بحيث تنطبق على جُل المذاهب الفلسفية، كالاشتراكية والرأسمالية وغيرها، وإلا فهل سمعت بأحد يتمارى في الدعوة إلى الحق والخير والعدل والمساواة والسلام العالمي؟ سواء أكان من الأحبار والرهبان؟ أم من الفلاسفة والمفكرين؟! ففيم يختلفون؟! وعم يتساءلون.

هل هذه الطريقة في مناقشة الشريعة غير أمينة؟
قول الكاتب وفقه الله: هذه الأسئلة هي التي يتوجه بها الإخوان والسلفيون إلى الناس- خصوصًا البسطاء منهم- لكي يؤثروا في عواطفهم الدينية، ويحشدوهم في مظاهرات ويدفعوهم إلى اتخاذ المواقف التي تحقق المكاسب السياسية لجماعات الإسلام السياسي. والحق أن هذه الطريقة في مناقشة الشريعة غير أمينة…

إلخ.
كنت أرجو أن يربأ بقلمه عن منزلق اتهام البواعث والنيات، وادعاء أن غاية هذه الطريقة أو تلك حشد العواطف وتجييشها لتحقيق المكاسب السياسية لجماعات الإسلام السياسي؛ فإن ما في القلوب لا يعلمه إلا علام الغيوب، وهذه دعوى يستطيع كل أحد أن يدمغ بها خصومه في أي معترك فكري، وقديمًا طعن بها أعداء الرسل في وجوه أنبيائهم، طعن بها قوم فرعون في دعوة موسى وأخيه هارون، كما قال تعالى: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:78] ، وطعن بها قوم نوح في دعوة نبيهم كما قال تعالى: ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ [المؤمنون: 24]؛ ولهذا ينبغي لمثله تجاوز هذه الدعوى، والوقوف عند المناقشة الموضوعية للقضايا العلمية المطروحة.

مخاوف مشروعة:
مخاوف الكاتب من سوء التطبيق مخاوف مشروعة، يشاركه فيها الرأي كثير ممن يؤمنون بالشريعة، ويخشون من سوء القراءة وسوء التطبيق، وقد رأينا تجارب شركات توظيف الأموال التي تدَاعَى إليها أصحابها باسم الشريعة، وما شابها من التجاوزات وما أعقبها من آثار كارثية، ومن هذه الكوارث ما كان مرده إلى الأنظمة القمعية، وحقدها على حملة المشروع الإسلامي، ومنها ما كان مرده إلى وهن داخلي في بنية هذه الشركات، وآلية انضباطها بأحكام الشريعة، ولو وقف عند هذه النقطة وطالب بضمانات لأشَدْنا به جميعًا، ووقفنا معه نطالب بما يطالب به، ونشاركه، أو حتى نحمل عنه عناء الكدح في هذا المجال.

ونريد أن نؤكد لكاتبنا الكبير وفقه الله: أنه إذا وجدت الإرادة السياسية التي تريد أن تضع الشريعة موضع التطبيق، سيرجع إلى الوراء حملة هذه الدعوة من الخطباء والوعاظ ونجوم الفضائيات وأمثالهم، ليتقدم الصفوف الخبراء من فقهاء الشريعة وأساتذة القانون، ولن يُحال يومها إلى كتاب «فقه السنة» الذي كُتب للمبتدئين ليخرجهم من محرقة التعصب الفقهي، وإنما سيتقدم المفتون وهيئة كبار العلماء وخبراء الصياغة من أساتذة الشريعة والقانون في مختلف المجالات، وستكون أمامهم المكتبة الإسلامية بثرائها

وبعطاءاتها المتدفقة، ينهلون من بحارها، ويستخرجون من كنوزها ما يوافق مقاصد الشرع، ويحقق مصالح الأمة في هذا العصر.

وأبشر كاتبنا الكبير أننا لا نبدأ من فراغ، لقد تم تقنين الشريعة أيام الدكتور عبد الحليم محمود، والدكتور صوفي أبو طالب، ويوجد تقنين لدى الأزهر، وآخر لدى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، بل أزيده فأقول: إن لدى كل كلية من كليات الشريعة تخصصًا في السياسة الشرعية، وهو يعني بالجوانب الحكمية في الشريعة بصفة خاصة، فإذا علم أنه توجد حوالي خمس وأربعون كلية للشريعة على مستوى العالم الإسلامي، وأن بها الملايين من ساعات البحث العلمي في صورة أطروحات للماجستير والدكتوراه ملقاة

على أرفف المكتبات، تعلوها الأتربة وتعشش فوقها العناكب ولم تجد من يستثمرها؛ لغياب الإرادة السياسية طوال هذه الحقب الماضية، لو علم ذلك لعلم أننا أُمة ولود، وأن الدعوة إلى تحكيم الشريعة ليست دعوة عبثية، تبدأ من عدم وتنتهي إلى فراغ، أو يحال فيها إلى طلاسم وألغاز، بل هي دعوة جادة تشكل أحد ركني الهوية الإسلامية لهذه الأمة، وأنها لا تعاني من فقر في الموارد الفكرية، بل تعاني من غياب للإرادة السياسية.

كتاب «فقه السنة» ليس هو المرجع في تقنين الشريعة على مستوى الأمة:
كتاب «فقه السنة» الذي أشار إليه الكاتب الكبير وفقه الله كتاب من كتب الفقه، نرجو أن يكون في ميزان حسنات صاحبه طيَّب الله ثراه، وقد أدى دوره في حينه، فلم يكتب ليكون المرجع في تقنين الشريعة على مستوى الأمة، بل كتب لإخراج العوام- كما سبق- من محرقة التعصب المذهبي، أما العمل المؤسسي لتحكيم الشريعة فله- كما سبق- خبراؤه ورجالاته ومؤسساته، ولعله مما يخفى على الكاتب الكبير أن محدث الشام الشيخ ناصر الدين الألباني : له تعقبات على كتاب «فقه السنة» رواية ودراية، أي انتقادات حديثية وفقهية، ونشرها في كتابه «تمام المنة في التعليق على فقه السنة»، وأمر تطبيق الشريعة أكبر من أن يُصار فيه إلى كتاب كُتِب للعوام في فترة من الفترات، بل هو عمل لجان ومجالس وخبراء وفقهاء، وثمرة كدح وعناء، يمتد ربما إلى سنوات وسنوات.

وإن الذي يؤكد عليه حملة المشروع الإسلامي في هذه المرحلة إقرار المبدأ في هذه الوثيقة الدستورية الجامعة، التي تلتقي عليها أطياف المجتمع في هذه المرحلة الدقيقة والحرجة. 

المسائل التي أثارها الكاتب الكبير وفقه الله وأبدى تخوفه منها ليست موضع إجماع الأمة، لتكون حكمًا نهائيًّا باتًّا في موضوعه، فما من موضوع منها إلا وللاجتهاد فيه مساغ، وللنظر المقاصدي فيه مجال.

وفيما يلي طرف يسير في التعقيب على ما أثاره وفَّقَه الله:
حول الاعتذار عن كلمة «كافر» عندما تُطلَق على غير المسلمين: وأبدأ هذه التعليقات بإضاءة سريعة حول اعتذاره وفقه الله عن كلمة «كافر» عندما تطلق على غير المسلمين، إن كان مقصوده أنه لا ينبغي أن نصف أحدًا من غير المسلمين في الخطاب العام بهذه الكلمة فنوافقه على ذلك، ونؤكد على ضرورة تألف قلوب المخاطبين من غير المسلمين، والابتعاد عما يجرح مشاعرهم، وهذا من جملة ما تعبَّد الله به عباده من أن يقولوا للناس حُسنا(2).

أما إن كان المقصود نفي هذا الاعتقاد ابتداء، فهذا موضع مراجعة؛ لأن الله جل وعلا هو الذي وصف في كتابه من يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، أو يقولون: إن الله هو المسيح ابن مريم، أو: إن المسيح ابن الله- بذلك(3)، وليس في هذا ما يسبب حرجًا لأحد، ولو سألت اليوم أحدًا من غير المسلمين عما يعتقده فيمن لا يؤمن بلاهوت المسيح ولا بتجسده ولا بصلبه ولا بقيامته سيقول لك: إنه كافر. وهذا الحكم سواء من هذا الطرف أو ذاك لا علاقة له بالرقي في الخطاب، والبر والقسط في التعامل، وبالعدل قامت السموات

والأرض.
عدم قبول شهادة الذمي وضياع حقوق الذميين: ثم أثني بعد ذلك بقضية الشهادة وعدم قبولها من الذمي، ومثال الصيدلية التي افترض أنه لو سرقها مسلم من أحد من غير المسلمين وجاء من يشهد له من أهل ملته فلا تقبل شهادة أحد منهم ويضيع الحق،

والجواب عن ذلك: أنه لن يضيع حق لأحد، وأن الشريعة لم تختزل طرق استخراج الحقوق في باب الشهادات وحدها، بل يحكم كذلك بالقرائن القضائية، وقد تكون أقوى من الشهادة في بعض المواضع، وهذا هو ابن القيم قبل ما يزيد على سبعمائة عام يقول: «ولم تزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال معه نصٌّ صريح لا يتطرق إليه شبهة؛ ذلك أن المقصود الشرعي للقضاء هو إحقاق الحق وإقامة العدل. فإذا ظهرت أمارات العدل فثَمَّ شرع الله، والله سبحانه أعلم وأحكم، وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها» كما يقول ابن القيم :(4).

وقد تحدَّث أهلُ العلم عن الحكم بالقرائن وتقسيماتها، وجمهورهم على الأخذ بها في غير الحدود، والمالكية وقول عند الحنابلة على الأخذ بها في الحدود كذلك، كالحَبَل في إثبات جريمة الزنى، ورائحة الخمر في إثبات جريمة شرب المسكر، ووجود المسروقات لدى رجل صاحب تهمة(5)؛ فقد حكم عمر بن الخطاب  رضي الله عنه  برجمِ المرأة التي ظهر بها الحبل وزوجها غائب(6)، وحكم عثمان بجلد من رؤي يتقيَّأُ الخمر وقال: لم يتقيأها حتى شربها. فحكم بجلده وعليٌّ حاضر فلم ينكره(7)، وثبت عن ابن مسعود t: أنه جلد بحمص رجلًا وجد منه ريح الخمر… وهكذا(8).

والمقصود أن باب استخراج الحقوق لا يختزل في باب الشهادات وحدها؛ فقد يحكم القاضي بالوثائق الكتابية، وبالقرائن القضائية، وبتحليلات البصمة الوراثية، وبما يرفع من البصمات في موضع الجريمة، وغير ذلك مما تستخرج به الحقوق، فلن يضيع حق لأحد من غير المسلمين في دار الإسلام، وقد قال نبي الإسلام: «مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(9).

وهَبْ أنه لم توجد قرائن، ولم يكن في الباب إلا شهادة غير المسلمين؛ فإن على القاضي متى وثق بها أن يبني حكمه عليها لئلا تضيع الحقوق، وتخفر ذمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم  في أهل ذمته.

وقد نقل ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى أنه قال: «إن ما نقل عن الإمام أحمد من تقليلِ جواز هذه الشهادة وقبولها للضرورة يدلُّ على جوازها، وقبولها في كل ضرورة حضرًا وسفرًا، وأنه لو قيل: تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عُدِم فيه المسلمون، لكان له وجه، وتكون بدلًا مطلقًا»(10).

إقامة الحد على من شرب الخمر وأثر ذلك على تراجع السياحة وفرار السُّيَّاح:
أما قضية شرب الخمر وإقامة الحد على من يشربها من غير المسلمين، وأثر ذلك على تراجع السياحة وفرار السياح، ففي الأمر تفصيل كثير، وليس بهذا الإجمال الذي عرض بها الأمر بناء على الرجوع إلى «فقه السنة».

فغير المسلمين في بلاد المسلمين منهم شركاء الوطن الذين يحملون جنسيته، ومنهم الضيف الوافد زائرًا كان أو سائحًا كان أو تاجرًا، ولكل منهما ما يخصه من الأحكام، على خلاف بين المذاهب في ذلك، ولكن المفاجأة أن السواد الأعظم من الفقهاء على عدم إقامة الحد على غير المسلم إذا شرب الخمر؛ لأنه مما يعتقد حله في دينه، وقد أمرنا بإقرارهم وما يدينون.

فعند الحنفية(11) لا يقام على الكافر حدُّ الشرب  عندهم، وعند الشافعية(12) لا يُحد بشرب خمر لقوة أدلة حلِّه في عقيدتهم، وعند الحنابلة أن ما كان غير المسلم يعتقد إباحته من الأفعال المحرمة فلا يُحد به، ونص قولهم: «إذا رُفع إلى الحاكم من أهل الذمة مَن فعل محرمًا يوجِبُ عقوبةً مما هو محرم عليهم في دينهم، كالزنى والسرقة والقذف والقتل، فعليه إقامة حده عليه؛ لما روى ابن عمر: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم  أُتي بيهوديين فَجَرا بعد إحصانهما فأمر بهما فرُجما(13)»(14).

وإن كان يعتقد إباحتَه كشرب خمر لم يُحد، وقد نص أحمد على أنه لا يقام حدُّ الزنى على المستأمن، أي الضيف الوافد على بلاد الإسلام.

ولعلي أزيد الكاتب الكبير في هذا المقام أن الشريعة قد جعلت الخمر والخنزير في يدِ الذميِّ مالًا متقوَّمًا مُحترمًا، يصحُّ التعاقد عليه فيما بينهم، ويضمنه من أتلفه، بينما هو في يد المسلم هدر، ولا يضمن متلفه شيئًا؛ حتى قال القرافي وغيره من أهل العلم: «إن عقدهم على الخمر والخنزير كعقدنا على العصير والشاه»(15).

وإنني لعَلى يقين بأن كاتبنا الكبير سيسرى عنه وتنفرج أساريره ويتهلل وجهه إشراقًا وبهجة، عندما يرى هذا الموقف لفقهاء الشريعة، فهو المسلم الذي يغار على دينه وينتصر له. هذا، ولا تعارض بين عدم إقامة الحد على غير المسلم إذا شرب الخمر وبين اللوائح والقوانين المنظمة لهذه المسائل، والتي تنبه على أضرارها وتحذر من تعاطيها رعاية للصحة العامة، وحفاظًا على النظام

العام والآداب.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية يمنع منعًا باتًّا تعاطي الخمر في الأماكن العامة، ويمنع منعًا باتًّا من اشترى خمرًا أن يخرج مستعلنًا بها كما يستعلن بشرب الماء والعصائر ونحوه، بل يجب أن يضعها داخل لفافة من ورق تُخفيها، ولعل الولايات المتحدة أكبر مستهلك للخمر على مستوى العالم.

اشتراطُ إحصانِ المقذوف وأثره على ضياع حرمة غير المسلمين:
قضية القذف، واشتراط الإسلام في المقذوف لكي يقامَ الحدُّ على القاذف، وأنه إذا قذف مسلمٌ غيرَ مسلمٍ فلن يُقام عليه الحد، فلا يعني هذا إهدار حرمة غير المسلم في دار الإسلام، فالأصل أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، بل تُقام على قاذفه من المسلمين العقوبة الزاجرة، وقد تكون مساوية للعقوبة في حالة قذف المسلم لمسلم مثله، وقد تكون أشد منها عند الاقتضاء، والفرق أن العقوبة تقام في حالة قذف المسلم حدًّا، وفي حالة قذف الذمي تقام تعزيرًا، والنتيجة في النهاية واحدة.

غيبة غير المسلم كغيبة المسلم في التحريم:
ولعلي أزيد الكاتب الكبير أن الشريعة جاءت بتحريم غيبة غيرِ المسلم، سواء أكان متوطنًا في دولة الإسلام أم كان ضيفًا وافدًا، وجعلتها في أصل التحريم كغيبة المسلم؛ لأنه بعهده وأمانه يحرُم عِرضُه كحرمة عرض المسلم؛ فإن لهم ما لنا وعليهم ما علينا.

فالغيبة محرمة، سواء كانت في حق المسلم أو حق الكافر إذا كان ذميًّا، أما إذا كان محاربًا فتجوز بشرط ألا يقول المغتاب إلا حقًّا.

وقد سُئل ابن وهب تلميذ الإمام مالك عن غِيبة النصارى فقال: «أوليسوا هم من الناس؟ قال السائل: بلى.

قال: فإن الله تعالى يقول: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]».
وقال ابن حجر الهيتمي في «الزواجر عن اقتراف الكبائر»: «وسئل الغزالي في «فتاوىه» عن غِيبة الكافر؟ فقال: هي في حق المسلم محذورة لثلاث علل: الإيذاء، وتنقيص خلق الله؛ فإن الله خالق لأفعال العباد، وتضييع الوقت بما لا يعني. قال: والأولى تقتضي التحريم، والثانية الكراهة، والثالثة خلاف الأولى. وأما الذمي فكالمسلم فيما يرجع إلى المنع من الإيذاء؛ لأن الشرع عصم عرضه ودمه وماله؛ قال في «الخادم»: والأولى هي الصواب»(16).

وقد روى ابن حبان في «صحيحه»: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم  قال: «مَنْ سَمِعَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَلَهُ النَّارُ»(17). ومعنى: «سمعه»: أسمعه بما يؤذيه، ولا كلام بعد هذا؛ أي: لظهور دلالته على الحرمة.

دية الذمي نصفُ دية المسلم وعلاقة ذلك بحقوق المواطنة:
أما في قضية دية الذمي وكونها على النصف من دية المسلم، نقول لكاتبنا الكبير: هذا من مواضع النظر بين أهل العلم وليس من مواضع الإجماع، وقد ذهب الحنفية(18) إلى أن دية الذمي والكافر المستأمن والمسلم سواء؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 92].

فهنا أطلق القول بالدية في جميع أنواع القتل من غير فصل، فدل على أن الواجب في الكل واحد، وهو رأي له وجاهته، والأخذ به متوجه، ولا تثريب على من يأخذ به؛ تحقيقًا للمصالح العامة، وإعمالًا لمقاصد الشريعة في إشاعة العدل والزجر عن البغي.

دية المرأة على النصف من دية الرجل، وعلاقة ذلك بالمساواة الإنسانية:
أما كون دية المرأة على النصف من دية الرجل، فليس ذلك تقليلًا لشأنها؛ ولكن لأن الدية لا تدفع ثمنًا للمقتول، بل تدفع تعويضًا لأهل المقتول عما لحقهم من ضرر، فلما كان الضرر المادي في فَقْد الرجل أعظم منه في فقد المرأة؛ جعلت ديتها على النصف منه في قتل الخطأ؛ وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء ولو كان المقتول امرأةً أو طفلًا رضيعًا، إلا أن يعفُوَ أهلُ المقتول، ويجب على القاتل خطأ من الكفارة في قتل المرأة ما يجب عليه في قتل الرجل، وهو صيام شهرين متتابعين، ولا فرق، بل ذهب

بعض أهل العلم إلى التسوية بين الرجل والمرأة في الديات، وقالوا: إنه ليس في التفرقة بينهما نصٌّ صحيح يُعوَّل عليه، وإنما هي آثار منقولة عن الصحابة، وأقوالهم على جلالة قدرهم يؤخذ منها ويرد، والعصمة للوحيين قرآنًا وسنة صحيحة.

أقدر مخاوف الكاتب الكبير:
وأخيرًا أقدر مخاوف الكاتب الكبير، وأرجع مرة أخرى بالملامة على نفسي وعلى إخواني من المنتسبين إلى الفقه؛ لأننا لم نقم بحق هؤلاء الأفاضل في البيان الكامل الذي تزول به هذه الشبهات، ويطمئن به هؤلاء المخلصون إلى عدالة القضية التي ينتصر لها حملة المشروع الإسلامي وواقعيتها ورعايتها للمصالح العامة.

وأثمن قوله: أكرر أننا لسنا ضد الشريعة الإسلامية؛ لأن شريعة الله هي العدل والحق.

وقوله: إذا أردنا أن نطبق الشريعة الإسلامية بشكل صحيح، يجب أن يجتهد فقهاؤنا أولًا من أجل استنباط أحكام فقهية جديدة تناسب عصرنا الحديث.

وأطمئنه فأقول: إن هذا الاجتهاد الذي يطالب به موجود بالفعل، ولكنه خافٍ عليه؛ لأنه غير مشتغل بالفقه، فجل هذه الاجتهادات التي يتمناها حقيقة قائمة، وإن كان ثمَّةَ شيء لم ينجز منها فهو في طريقه إلى الإنجاز؛ فإن الاجتهادَ فيما جد من النوازل واجب محتُوم، وإن كُليات الشريعة قد استحدثت مادة فقه النوازل، وأصبحت تدرس لكل طلاب الشريعة في العالم الإسلامي، وأن الفقه الإسلامي بحر زخار، يحمل في أحشائه الدرر والجواهر، وأن الغواصين جاهزون، وأن المشكلات التي اعتبرناها مخاوف

مشروعة ينقصنا في كثير منها البيان، والبيان فقط، ولكن حلولها موجودة.
وإن تطبيق الشريعة ليس عملًا هامشيًّا يتم في الخفاء، بل هو مشروع أمة، سيجتمع له الفقهاء والخبراء من شتى المجالات، ويَسُرُّ هؤلا

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend