واجب الوقت عقيب مذبحة الحرس الجمهوري(3)

متابعة: جدولة المبادرة حول المخرج من الفتنة في الأزمة المصرية:

 

مصر التي تعيش اليوم في دمي، وقد عشت فيها عمرًا من قبل، تحتَّم عليَّ السَّهرَ المتواصل في محاولة لبذل المتاح من عصارة الفكر والقلم، في محاولة للحيلولة دون حريقٍ كبير ينتظرها، وفتنة كبرى تتهددها من أقصاها إلى أقصاها، حسبةً لله تعالى، وابتغاءَ وجهه الكريم، فقد ينفع الله بكلمة من أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لا يؤبه له.
سألتني نفسي: أتظنُّ أن كدحك في قضايا الشأن العام سيقرؤه أحد، أو ينتفع به أحد، أو يصل ابتداء إلى أحد، وأنت تخاطب قومك من بُعدٍ شاسع، ويبعدك عنهم آلاف الأميال، ولا تتسنم قمة من قمم العمل السياسي، ولا تكمن حتى في سفح من سفوحه؟!
ووجدتني استدعي على الفور ما رُوي من قصة خليل الله إبراهيم، عندما أمر بأن يؤذن في الناس بالحج، فقال: ربي وما عسى أن يبلغ صوتي؟! فقال إنما عليك الأذان، وعلينا البلاغ. فوقف ممتثلًا لأمر ربه، وأذن: يا أيها الناس إن الله بنى لكم بيتًا فحجُّوه. فأجابه كل من كتب الله له الحج إلى قيام الساعة قائلًا: لبيك اللهم لبيك(1).
لقد طرحت من قبل مبادرةً للخروج من الأزمة المصرية، وأنا لست- كما قال أحد المعلقين- لست متخصصًا في الشئون السياسية، ولكنني متخصص في السياسة الشرعية، وهي معروضة على أهل التخصص لتسديدها.
والذي دعاني إلى تجديد القول فيها، ما دعا إليه الفريق السيسي إلى الاحتشاد غدًا لإعطائه تفويضًا بالقضاء على الإرهاب، وهو باعتباره القائم الفعليِّ على الأمر في مصر ليس محتاجًا إلى هذا التفويض، إن كان سيقف في حدود الدستور والقانون، والأعراف التي استقر عليها العالم المتحضر بصفة عامة، والمجتمع المصري بعد ثورته المجيدة في الخامس والعشرين من يناير بصفة خاصة. أما إن كان يريد تفويضًا مفتوحًا بالقتل واستباحة الدماء تحت غطاء من الشرعية الشعبية المزعومة، فتلك دعوة إلى الاحتراب الداخلي، وجعل المصريين شيعًا، يعدو بعضهم على بعض، وتجدد ذكرى الفرعون الذي علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا، يستضعف طائفة منهم، يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم, وتلك خطيئة كبرى تعصف بمبدأِ المشروعية ومفهوم الدولة من الأساس.
هذا فضلًا عن المفهوم الغامض والمطَّاط لكلمة مقاومة الإرهاب، وما تحمله ضمنًا من طلب التفويض للقيام بإجراءات استثنائية لقمع الخصوم والتنكيل بهم.
والآن أُعيد النَّظَر في هذه المبادرة من حيث الجدولة والمرحلية مستفيدًا من مبادرات المتخصصين وجهودهم، وأقول:
إن الفكرة الأساسية في المبادرة أننا نتجاوز باعتبارنا دولةً منطقَ الفوضى، والدعوةَ إلى الاحتشاد والاحتراب، إلى منطق الآليات الدستورية، والديموقراطية، والشورية، التي اصطلح عليها العالمُ المتحضر أجمعَ. قد أفهم أن تلجأَ المعارضة إلى الاحتشاد لأنه لا تملك سوى ذلك، أما أن تنافسها الدولة وتنبذها في ذلك، وقد جمعت في يدها كل مقومات القوة، فأمر لا يكاد ينقضي منه العجب!
المرحلة الأولى: التهدئة، وتهيئة الأجواء للمصالحة الوطنية:
وتتمثل فيما يلي:
• الإيقاف الفوري للحملات الإعلامية المتبادلة بين القوى الوطنية.
• بقاء التظاهر في أماكنه المركزية، وإيقاف المسيرات التي تجوب الشوارع، لما يتترب عليها من تعطيل المصالح العامة للمواطنين والتضييق عليهم.
• الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين في هذه الأزمة الأخيرة، والإيقاف الفوري لحملات الاعتقالات والمداهمات.
• إعادة القنوات الدينية التي أُغلقت، والاتفاق مع الجميع على ميثاق شرف يلتزم بالثوابت الدينية والخلقية والوطنية.
• تشكيل لجنة تقصِّي الحقائق في المذبحة التي وقعت أمام الحرس الجمهوري وإعلان نتائجها بكل شفافية.
• تمكين لجنة من المؤيدين للشرعية لزيارة الرئيس مرسي، للاطمئنان عليه، وطمأنة سائر محبيه.
المرحلة الثانية: إعلان المبادئ وأسس المصالحة الوطنية.
وتتمثل فيما يلي:
• إعلاء المصلحة الوطنية والقوميَّة على المصالح الشخصية، والحزبية، والفئوية، والطائفية.
• الالتزام بالشرعية، واستعادة المسار الديموقراطي وآلياته في حلِّ هذه الأزمة، وذلك بالرجوع إلى الاستفتاءات الحرَّة النزيهة لحلِّ أي مشكلة، وليس إلى الشارع والاحتشادات الميدانية على النحو الذي يجري عليه العمل في الوقت الراهن.
المرحلة الثالثة: الاتفاق على خارطة الطريق:
وتتمثل فيما يلي:
• السعي إلى تحقيق مصالحة وطنية شاملة، لا تستبعد أحدًا، ولا تهمش أحدًا، فبالعدل قامت السموات والأرض، وذلك بالاتفاق مع الأطياف الوطنية جميعًا وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية على خارطة طريق، يلتقي فيها الجميع على مشترك من الخيرِ العام والمصلحة الوطنية العامة، يشاركون جميعًا في رسمها، ومن أبرز معالمها المطروحة للنقاش ما يلي:
– طي صفحة الانقلاب العسكري، بما شابها من احتقانات وجراحات، وإقالة عَثرة من تعثَّر فيها من كبار القادة، لما كانوا يتأوَّلونه، أو صور لهم من أن هذا من قبيل ارتكاب أخفِّ الضررين، وأنه يصب في مصلحة البلاد والعباد، مع الاحتفاظ بالحق في التعويض العادل لكل من تضرَّر فيها، وكان من ضحاياها.
– تفويض رئيس الجمهورية الشرعي (الدكتور محمد مرسي) سلطاته إلى وزارة وطنية مؤقتة تتولى تسيير الأعمال، تتكون ممن يجمعون بين الكفاية والوطنية، ولا يحسبون على التيارات الحزبية.
– الدعوة الفورية إلى انتخابات برلمانية مبكِّرة، لا تتجاوز تسعين يومًا من تاريخ الدعوة إليها.
– تشكيل الوزارة الدائمة التي تُباشرالسلطة التنفيذية في ضوء نتائج الانتخابات البرلمانية ووفقًا لما هو مقرر في القواعد الدستورية.
– للبرلمان بعد انتخابه ولايةُ النظر فيما يتعلق بمستقبل الرئيس بقاءً أو إعفاءً، فقد يصوِّت على استكماله لمدته، وقد يدعو إلى انتخابات برلمانية مبكرة وفقًا للقواعد الدستورية.
– البتُّ في الإجراءات المقترحة لتعديل الدستور بالتراضي وفقًا للآليات الدستورية.
هذا الذي بدا لنا، وأردنا أن ننصح به لأمتنا ولأطيافها المختلفة، حقنًا لدمائها، وتسكينًا لثائرتها.
وبقيت كلمة أخيرة إلى الفريق السيسي:
لا تُغامر بدينك وآخرتك من أجل عرضٍ زائل ومتاع قليل!

  • لا شيء مما ترى تبقى بشاشته
  • يبقى الإله ويفنى المال والولد(2)

 

أناشدك الله أن لا تتورط في قطرةِ دمٍ ظلمًا، فإن من فعل ذلك لقيَ الله وقد كتب بين عينيه: آيس من رحمة الله(3). «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى الله مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ»(4). و«لَنْ يَزَالَ الْـمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَـمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا»(5).
إلى حشودِ الغد من أبناء وطننا الجريح:
لا تستجيبوا لدواعي الفتنة، أوفوا بعهدِ الله، وعظموا حرمةَ الدماء، ولا يبغي بعضكم على بعض، فإن أبيتم إلا الخروج غدًا فعبروا عما تريدون في رقيٍّ وتحضُّرٍ، ومن قبل ذلك في مخافة من الله عز وجل ، وتجنَّبوا الاحتكاكَ بالآخرين، واعلموا أن المستفيدَ الأولَ من هذا الاحتراب الداخلي هو العدو الجاثم على الأبواب، الذي يتراقص على جراحاتنا، وأنَّات أيتامنا وأراملنا، فلا تُشمِتُوا بنا الأعداء.
وأخيرًا: اللهم إن هذا جهدُ المقل، أسهرت فيه ليلي، وقدمته على تلاوة كتابك في هذا الشهر المبارك، على مسيس حاجتي إلى تلاوة القرآن في شهر القرآن، فاشرح له يا رب صدورَ عبادك، وفيض له من ينقله إلي من ينتفعون به، وحقق فيه قولَك لخليك إبراهيم عليه السلام : إنما عليك الأذان وعلينا البلاغ(6).

  • فلقد دفعت بكل ما ملكت يدي
  • وتركت للجبار ما أعياني

 

والله من وراء القصد. والله تعالى أعلى وأعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر «تفسير الثعلبي» (3/283).
(2) هذا البيت لورقة بن نوفل وهو من بحر البسيط. انظر «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني (3/115).
(3) فقد أخرج ابن ماجه في كتاب «الديات» باب «التغليظ في قتل مسلم ظلمًا» حديث (2620) من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللهَ U مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ الله».
(4) ففي الحديث الذي أخرجه ابن ماجه في كتاب «الديات» باب «التغليظ في قتل مسلم ظلمًا» حديث (2619) من حديث البراء بن عازب ب: أن رسول الله ﷺ قال: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى الله مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ»، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/201) وقال: «رواه ابن ماجه بإسناد حسن».
(5) أخرجه البخاري في كتاب «الديات» باب «قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}» حديث (6862) من حديث ابن عمر ب.
(6) انظر «تفسير الثعلبي» (3/283).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend