هل يجوز نصح إنسان على الملأ لأنه يجهر بمعصيته على الملأ؟ أم يجب أن تكون سرًّا؟ وهل وردت أحاديث أو آثار في هذا الأمر؟ أفيدونا أفادكم الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن الأصل في النصيحة أن تكون سرًّا؛ فإن هذا أدعى لقبول الحقِّ والانقياد له، وأجدر في دَرْء المفاسد والفتن وتحقيق المصالح، ويتأكَّد ذلك في حق الولاة:
ففي الصحيحين من حديث أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قِيلَ لِأُسَامَةَ: لَوْ أَتَيْتَ فُلَانًا فَكَلَّمْتَهُ. قَالَ: إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ، إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أن أَفْتَحَ بَابًا لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ(1). والرجل المذكور هو عثمان رضي الله عنه .
قال القاضي عياض: مرادُ أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام؛ لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطَّف به وينصحه سرًّا، فذلك أجدر بالقبول.
وفي «المسند» من حديث عِيَاضِ بْنِ غَنْم: أنه سمع الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَرَادَ أن يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ»(2).
قال الحافظ ابن رجب: «كان السلف إذا أرادوا نصيحةَ أحدٍ وعظوه سرًّا، حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رءوس الناس فإنما وبَّخه. وقال الفضيل: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويُعيِّر. وسُئل ابن عباس ب عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر؟ فقال: إن كنت فاعلًا ولابُدَّ ففيما بينك وبينه»(3).
ولا بأس بالجهر بها عند المجاهرة بالمعصية وغلبة الظن أن الجهرَ بها سيكون أردع وأنفع، خاصةً في مثل أزماننا هذه التي لا يتيسَّر فيها الوصول إلى الولاة لنصحهم، وإنما نُصبت منابر للنصيحة كالصحف والمجلات والإذاعات والمساءلات البرلمانية ونحوها.
فقد يجتهد العالمُ في بعض الأحوال فيرى الإنكار على ولاة الأمر علانيةً، وذلك لظهور المصلحة مع أمن الفتنة، أو حدوث مفسدة أكبر، وربما كان ذلك بسبب خشية فوات الأمر، أو من أجل إظهار الحق، فقد يكون خافيًا على الناس. وقد أنكر عددٌ من الصحابة رضي الله عنهم على بعض الأمراء علانيةً، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
•إنكار عُبادة بن الصامت على معاوية ب، ففي «صحيح مسلم» من حديث أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، فَجَاءَ أَبُو الْأَشْعَثِ. قَالَ: قَالُوا: أَبُو الْأَشْعَثِ، أَبُو الْأَشْعَثِ! فَجَلَسَ، فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْ أَخَانَا حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. قَالَ: نَعَمْ، غَزَوْنَا غَزَاةً، وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ، فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا أن يَبِيعَهَا فِي أَعْطِيَاتِ النَّاسِ، فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه ، فَقَامَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ، إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ أو ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى. فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: أَلَا مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ! فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَعَادَ الْقِصَّةَ، ثُمَّ قَالَ: لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ الله ﷺ وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ- أو قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ- مَا أُبَالِي أَلَّا أَصْحَبَهُ فِي جُنْدِهِ لَيْلَةً سَوْدَاءَ(4).
• إنكار أبي شُريح خويلد بن عمرو الخزاعي على عمرو بن سعيد والي يزيد على المدينة، ففي الصحيحين من حديث أَبِي شُرَيْحٍ: أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إلى مَكَّةَ: ائذن لي أيها الأمير أُحدِّثك قولًا قام به النبيُّ صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعَتْه أُذُناي ووعاه قلبي وأبصرَتْه عيناي حين تكلَّم به، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا الله وَلَـمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً» الحديث(5).
قال الحافظ ابن حجر: «قوله: (ائذن لي) فيه حسن التلطف في الإنكار على أمراء الجور ليكون أَدْعى لقبولهم»(6).
• إنكار أبي سعيد الخُدْري على مروان بن الحكم حينما قدَّم الخطبة على الصلاة يوم العيد، ففي «صحيح البخاري»، من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المُصلَّى، فأول شيءٍ يبدأ به الصلاةُ، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوسٌ على صفوفهم، فيعظهم ويُوصيهم ويأمرهم، فإن كان يُريد أن يقطع بعثًا قطعه، أو يأمر بشيءٍ أمر به، ثم ينصرف.
قال أبو سعيدٍ: فلم يزلِ الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة، في أضحًى أو فِطرٍ، فلما أتينا المُصلَّى إذا منبرٌ بناه كَثِيرُ بن الصَّلْتِ، فإذا مروان يُريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجَبَذتُ بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيَّرتم والله. فقال: أبا سعيدٍ، قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم والله خيرٌ مما لا أعلم. فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة(7).
قال الحافظ ابن حجر: «وفي الحديث إنكارُ العلماء على الأمراء إذا صنعوا ما يُخالف السُّنة»(8).
وقال: «وفي الحديث إنكار العالِم على الحاكم ما يُغيِّره من أمر الدين والموعظة بلطف وتدرج»(9).
• إنكار أبي مسعود الأنصاري على المغيرة بن شعبة، فقد أخرج البخاري من حديث ابن شهاب: أن عمر بن عبد العزيز أخَّر الصلاة يومًا، فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يومًا وهو بالعراق، فدخل عليه أبو مسعودٍ الأنصاري فقال: ما هذا يا مغيرة… الحديث(10).
قال الحافظ ابن حجر: «وفي الحديث من الفوائد: دخول العلماء على الأمراء وإنكارهم عليهم ما يخالف السنة»(11).
• إنكار عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم – عَلَى عُبَيْدِ الله بْنِ زِيَادٍ، فقد روى مسلم في «صحيحه» أن عائذ بن عمرٍو- وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – دخل على عبيد الله بن زيادٍ فقال: أَيْ بُنَيَّ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْـحُطَمَةُ»، فَإِيَّاكَ أن تَكُونَ مِنْهُمْ. فقال له: اجلس، فإنما أنت من نُخالةِ أصحابِ محمدٍ. فقال: وهل كانت لهم نخالةٌ! إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم(12).
وفي جميع الأحوال ينبغي أن تُقدَّم النصيحة في أحسن حال، وأن تقبل على كل حال، والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في كتاب «بدء الخلق» باب «صفة النار» حديث (3267).
(2) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/403) حديث (15369)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/229) وقال: «رواه أحمد ورجاله ثقات».
(3) «جامع العلوم والحكم» لابن رجب (1/82).
(4) أخرجه مسلم في كتاب «المساقاة» باب «الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا» حديث (1587).
(5) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «العلم» باب «ليبلغ العلم الشاهد الغائب» حديث (104)، ومسلم في كتاب «الحج» باب «تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها» حديث (1354).
(6) «فتح الباري» (1/198).
(7) أخرجه البخاري في كتاب «الجمعة» باب «الخروج إلى المصلى بغير منبر» حديث (956).
(8) «فتح الباري» (2/450).
(9) «فتح الباري» (4/45).
(10) أخرجه البخاري في كتاب «مواقيت الصلاة» باب «مواقيت الصلاة وفضلها» حديث (522).
(11) «فتح الباري» (2/6).
(12) أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم» حديث (1830).