نحو ميثاق شرف للعمل الوطني

هل يمكن أن تتصالح الرموز الوطنية؛ الإسلامية والليبرالية والمسيحية وغيرها، والأحزاب السياسية، على اختلاف أيديولوجياتها- على ميثاق شرف؛ يجمعهم في خدمة هذا الوطن؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

فلقد ذكرنا من قبل أننا في حاجة إلى حراك لترتيب البيت الدعوي، ثم حراك آخر على التوازي لترتيب البيت الوطني الكبير، ثم حراك ثالث لتسكين ملف تطبيق الشريعة ووضعه في الإطار الصحيح تصورًا وتنفيذًا، وحراك رابع لاستشراف آفاق المستقبل، وقد فرغنا في الجزء الأول من الحديث عن ترتيب البيت الدعوي، ونخصص هذا اللقاء للحديث عن ترتيب البيت الوطني الكبير.

لا شكَّ أن الحاجةَ إلى ترتيبِ البيت الوطني الكبير حاجة ماسة، بل ضرورة مُلجئة، لاسيما في أوقات الفتن والاحتقانات، واللحظات الفارقة في تاريخ الأمم والشعوب، وذلك من خلال الالتقاء على عهدة وطنية، أو ميثاق شرف للعمل الوطني، يجسد هدي الإسلام في العلاقة بين أبناء الوطن الواحد، ويرسخ معالم التعايش، في ظل تعدُّدية دينية وسياسية وفكرية، ويحمي الحق في المحافظة على الخصوصيات والثوابت من جهة، ويرعى اللحمة الوطنية وتماسك النسيج الوطني للدولة والمجتمع من جهة أخرى، ويترجم هذا كله إلى مفردات سياسية وحقوقية واجتماعية وأخلاقية في واقعنا المعاصر. لهذه العهدة الوطنية أو ميثاق المواطنة مداخل أربعة:

• الأول: استراتيجية المشهد المصري وعمق تأثيره فيمن حوله: فمصر جزءٌ مفصليٌّ وحيويٌّ من هذا العالم يؤثر فيه ويتأثر به، وأصداء الثورة المصرية ستؤثر إيجابًا أو سلبًا على المنطقة بأسرها بحسب نجاحِها أو فشلِها، وقد طوَّفنا في الآفاق فوجدنا إجماعَ العالم على ذلك.

وإن حسن تعاملنا مع المشهد المصري سوف يسهم في حسم الصراعِ في كل دول الربيع العربي لصالح الحقِّ والعدل إن شاء الله.

• الثاني: الثورة ومكتسباتها ملك للجميع: فهي ثورة قد شارك في صناعتها كل أبناء هذا الوطن على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، وإن ثمراتها بطبيعة الحال ملك لهؤلاء جميعًا، ولا ينبغي إقصاء أي تيار أو طائفة من الاستفادة منها، أو إيفائها نصيبها العادل في هذا الحراك الوطني مغانم ومغارم.

ولهذا فإنه يتعين على الحركات الإصلاحية كافة بشتى اتجاهاتها الوطنية أن يتفقوا على مشترك من الصالح العام يضمن لشركاء الوطن جميعًا ما ينشدون من الحرية والكرامة، وما يتطلعون إليه من العدالة الاجتماعية والكفاية الاقتصادية.

• الثالث: شق اللحمة الوطنية جريمة في حق الدين والمجتمع: إن من طبيعة المرحلة الانتقالية بعد الثورات- والتي قد تمتد أحيانًا لسنوات- السيولة السياسية والاضطرابات الداخلية، ولذلك فإنها لا تحتمل زيادة على ذلك شقُّ اللحمة الوطنية، أو تعميق الانقسام والاستقطاب أو إثارة الوهن وتسعير الاختلاف في صفوف مريدي الإصلاح ممن يسعون جهدهم ويستفرغون وسعهم لتخفيف المظالم، وتقليل المفاسد من خلال هذه المواقف الدعوية أو السياسية.

• الرابع: مشروعية التعاون مع كل من دعا إلى شيء من الخير ولو قصر في غيره: فكل من التمس المعاونةَ على محبوب لله تعالى أُجيب إلى ذلك كائنًا من كان، ما لم يُعارض ذلك بمفسدة أكبر، وذلك لعموم الأدلة التي تأمُر بالتعاون على البر والتقوى وتنهى عن التعاون على الإثم والعدوان، بالإضافة إلى كون ذلك وسيلة من وسائل تماسك النسيج الاجتماعي للدولة، والحيلولة دون اختراقه من قبل خصومها.

مرتكزات هذه الوثيقة: ترتكز هذه الوثيقة على ستة أصول شرعية وميدانية، تمثل عقائد راسخة لدى المجتمعين عليها:

1. الرسوخ الإيماني والمخاوف المشروعة:

• لا ريب أن أصل الإيمان بالله ورسله مستقرٌّ في قلوب السواد الأعظم من أبناء هذا الوطن جميعًا، وأن الإسلام يمتلك حلولًا حضارية ربانية للأزمات المحلية والعالمية، وأن من الظُّلم للبشرية أن يُحجب عنها هذا النور الذي تستضيء به في ظلمة هذه المادية العاتية، وأن من يتخوَّفون من المشروع الإسلامي أو يجادلون في تطبيقه يخشون من سوء القراءة أو سوء التطبيق، وأقل القليل منهم هو الذي يضمر سوءًا للشريعة خاصة وللتدين عامة، وأن من الإنصاف الإصغاءُ لمخاوف المعارضين وهواجسهم، والتحاور معهم حولها، فإن كثيرًا منها مخاوف مشروعة، وقد كان لكثير منهم مع بعض تجارب الإسلاميين فتنة وذكريات أليمة.

ولاشك أن أول الطريق إلى الخروج من هذا الفصام النكد بين الضمير والواقع هو السعي الجادُّ لإزالة هذه التخوفات، والتوافق على آليات تمنع سوء الفهم أو سوء التطبيق.

2. إدارة الدول: أصول شرعية وتجارب بشرية:

• الإيمان بأن كثيرًا من مسائل إدارة الدولة هي مما تركته الشرائع السماوية عفوًا، وأحالت فيه إلى التجارب البشرية والحضارات الإنسانية، وهي تمتلك بدورها رؤى ونظريات واجتهادات بشرية لمواجهة كثير من التحديات السياسية المعاصرة، ومن ذلك ما هو مشترك إنساني عام، تُباركه الرسالات السماوية، وتتفق على أصوله الفطر البشرية، والفلسفات الوضعية، كرفض الظلم والعدوان، وانتهاك حقوق الإنسان، والتفكك الأسري، وإثارة الاحتقانات الطائفية، والإضرار بالبيئة البشرية… إلخ.

3. لا بديل من الحوار الجاد لتطويق الاحتقانات الطائفية والفكرية:

• الحوار الجاد- في إطار الإيمان بالله ورسله- لاكتشاف المشتركات الإنسانية واستثمارها، والتفاهم حول قضايا التباين الأخرى مقدمة حتميَّة لتطويق الاحتقانات الطائفية والفكرية بين شركاء الوطن الواحد، التي تنشئها القراءات المتعجلة والفهم المغلوط، وفي صحيفة المدينة التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم  مع جميع الطوائف في المدينة وما حولها مثال على ترسيخ قيمة المواطنة، وفي قوله صلى الله عليه وسلم  يوم الحديبية: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ الله إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا». مثالٌ على ترسيخ قيمة السعي للتعاون العام على الخير، والالتقاء على المشترك منه، وأن كلَّ من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مُرضٍ له أُجيب إلى ذلك كائنًا من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوضٌ لله أعظمُ منه.

4. سلمية الحوار المجتمعي بين كل تياراته وأطيافه:

• سلمية الحوار المجتمعي بين كل تياراته وأطيافه، وتجريم اللجوء إلى العنف أو حمل السلاح بأي شكل من الأشكال، وإذا تعدَّى أي تيار على سلطة الدولة فإن من حق السلطة الحاكمة أن تتعامل معه بما يقطع دابر الفتنة.

5. شمولية هذه الوثيقة وتواصلها مع أبناء الوطن جميعًا.

• انفتاح هذه الوثيقة وتواصلها مع أبناء الوطن جميعًا، على تنوع انتماءاتهم الدينية والسياسية، وشمولية هذا الانفتاح والتواصل لجميع الأصعدة: السياسية والاقتصادية والأمنية والإعلامية والبحثية وغيرها، بل لا تقصي حتى الجهات ذات المواقف العدائية والمسيئة إلى الإسلام والمسلمين، إيمانًا منها بأن الناس أعداء لما جهلوا، وأنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، وذلك لأن رسالة الإسلام إلى الناس كافة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]. فقد جعل الله الأرض مشتركًا بين عباده جميعًا، وجعل رزقها متاحًا لخلقه أجمعين، وفي مفتتح كتاب المسلمين: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2] وفي خاتمته ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس: 1]، وتقرأ من خلال المبدأ والختام عموم الربوبية وشمول مقتضياتها للخلق أجمعين، فأرض الله تُقلُّ عباده جميعًا، وسماواته تظلهم جميعًا، ورزقه يتسع لهم جميعًا ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: 20].

6. اللحمة الوطنية لا تعني التفريطَ في الثوابت الدينية:

• اللحمة الوطنية والتعاون على المشتركات الحضارية لا يعني التفريط في الثوابت الدينية، ولا التلفيق بين الملل والنحل؛ إذ لا يلزم للتعاون على المشتركات الحضارية أن يَكفر أحد الفريقين بثوابته ليلتقي مع الآخر، وإنما يعني التعاون على ما فيه خير الإنسان وحفظ كرامته وحماية حقوقه، ورفع الظلم ورد العدوان عنه، وحل مشكلاته، وتوفير العيش الكريم له، وهي مبادئ مشتركة جاءت بها الرسالات الإلهية، وأقرتها الدساتير الوضعية، وإعلانات حقوق الإنسان الدولية، فالتواصل يجري وفق القاعدة القرآنية: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6]. نص وثيقة المواطنة: الانتماء الوطني والقومي والديني.

• نحن جزء من أمة الإسلام الكبرى في باب الديانة، وجزء من الأمة العربية في باب النسب، وجزء من المجتمعات المعاصرة في باب المواطنة، وجزء من المجتمع الدولي في باب العلاقات الدولية والإنسانية، ولا نرى تناقضًا بين الانتماء الديني والقومي والوطني، ما دام الانتماء القومي لا ينزع إلى الاستعلاء والتعصُّب، وما دام عقد المواطنة لا يشتمل على تجريم للتدين، أو مصادرة للحق في ممارسة شعائر الدين، أو إقامة شرائعه، وما دامت العلاقات الدولية قائمة على الحق والعدل، ولا تنزع إلى بسط النفوذ والهيمنة.

• المواطنة رابطة للتعايش المشترك بين أبناء الوطن الواحد، مهما اختلفت مشاربهم أو تباينت عقائدهم، وهي تنشئ لحمة اجتماعية يترتب عليها واجبات وحقوق متبادلة، وتجعل أصلَ حرمة الدماء والأموال والأعراض والمرافق العامة مشتركًا بين الجميع، ولا مساس بشيء من ذلك إلا وفق ما تُحدِّدُه القوانين والنظم السارية.

• الولاء الديني وما يقتضيه من محبة دينية لأهل الدين، وإغاثتهم عند النوائب، لا يتنافى مع الانتماء الوطني، وما تنشئه المخالطة الوطنية والصلات الاجتماعية من مودة ومحبة جبلية، ولا يتنافى كذلك مع ما تُنشئه الأحلاف والمواثيق المشروعة بين البشر عامة من نصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، وإن كان من غير المسلمين، والضرب على يد الظالم ومنعه من الظلم، وإن كان من المسلمين؛ لعموم مبدأ التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.

• الإطار الشرعي الذي يحكم العلاقة بين أبناء الوطن الواحد عند اختلاف الملل والنحل هو ميثاق الأمان، أو العقد الاجتماعي الذي تُنشئه رابطة المواطنة، وهو ميثاق على البر والقسط والسلامة من الأذى، وإطاره المجمل هذه القاعدة الذهبية «لهم ما لنا وعليهم ما علينا». وهي الكلمة التي عبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم  عن حقوق اليهود في المدينة وواجباتهم. مقتضيات المواطنة:

1. الإقرار بسلطة الدولة:

• الإقرار بسلطة الدولة، والمحافظة على كيانها القانوني، والإقرار بما تلزم به من القوانين الآمرة، ما لم تحمل على فعل محرم أو ترك واجب، والإقرار بسلطة محاكمها، والتسليم لها في غير معصية، فالالتزام بالقانون هو المظهر الحضاري الذي يفرق بين المجتمعات المدنية ومجتمع الغاب، والوفاء بهذا الالتزام ضرورة شرعية ودعوية، وعند التعارض بين الضمير والواقع يكون الحوار حول البند الذي وقعت فيه المعارضة، ويسعى إلى إزالة هذا التناقض بالطرق القانونية، وآليات التغيير المشروعة، ما دام في المنظومة السياسية والقانونية الراهنة متسع لذلك.

• لا تتنافى المواطنة وما تقتضيه من الإقرار بسلطة الدولة مع التضامن لإنهاء العمل بالقوانين الاستثنائية، والتأكيد على حق الأحزاب السياسية والأقليات الدينية في الدفاع عن حقوقها، والتعبير عن آرائها ومواقفها أفرادًا ومجموعات، ولا مع التأكيد على حقها في إقامة مؤسساتها السياسية والدينية والتعليمية والاجتماعية الخاصة بها، وفي ممارسة شعائر دينها، وتطبيق مقتضياته في أمورهم الحياتية، مما هو متعلق بخصوصياتهم في الطعام والشراب ومسائل الأسرة ونحوه، أسوة بما هو مكفول لجميع المواطنين، وفي إطار مبدأ حماية الدولة للتعددية الدينية والسياسية.

2. الالتزام بالثوابت الوطنية:

• التزام جميع الكيانات الرسمية والشعبية بالثوابت الوطنية التي تؤكد على وحدة النسيج الاجتماعي لهذا الوطن، وتنأى في خطابها وفي سلوكها عن إثارة الاحتقانات الطائفية الدينية أو العِرقية، وكل خروج عن هذا المسار يعد فسادًا في الأرض، وإخلالا بالعهدة الوطنية، ويستوجب التصدي له بحزم شعبيًّا ورسميًّا، وقد جاء في الحديث النبوي: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِـمًا أَوْ مَظْلُومًا». فقال رجل: يا رسول الله أنصُره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا، كيف أنصره؟ قال: «تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ»(1). ويتأكد هذا المعنى في المؤسسات ذات الصبغة الدينية التي ينبغي أن ترعى هذه الوثيقة في خطابها وفي تصريحات رموزها، وأن تضرب على أيدي أصحاب الغُلو ممن ينتسبون إليها، فتنصح لهم، وتمنعهم من التَّخريب والفساد، وتُعلن براءتها منهم عند الإصرار على العناد والخروج على الشرعية.

3. الإقرار بالتعددية:

• الإقرار بالتعددية، ويتأكد ذلك في المجتمعات ذات التنوع الديني والسياسي، فالتنوع والاختلاف من سنن الله الكونية في هذا الوجود، والإسلام يتفهم حقيقة التنوع والاختلاف في حياة البشر، ولا يضيق بواقع التعددية القائم بينهم، بل يدعو إلى عموم التعاون على البر والتقوى، وينهى عن عموم التعاون على الإثم والعدوان، ويؤكد على أهمية التعارف والتكامل بين أبناء المجتمع الواحد.

4. المشاركة السياسية:

• بدءًا من الإدلاء بالتصويت في الانتخابات إلى التعاطي مع الهيئات السياسية، وأن المنهج الإسلامي، انطلاقًا من قيمة الشورى، واعتبارًا لما توصلت إليه التجربة الإنسانية من رصيد من الخبرة في المجال السياسي والتشريع الدستوري- يقرُّ في إطار منظومته القيمية آليات النظام الديمقراطي القائم على اعتبار الأمة مصدر السلطة، واحترام مبدأ التعدُّدية، والتداول السلمي على السلطة، وقد حسمت مجامعنا الفقهية الأمرَ في مشروعية هذه القضية، وفصلت القول في ضوابط ممارستها، وأصبحت جزءًا من المسلَّمات الفقهية الشائعة في هذه الأيام، وتجاوزت الجدل التاريخي حولها، والذي كان يتبناه فريق من المعارضين.

5. إدانة الإرهاب بكل صوره: إدانة الإرهاب بكل صوره، والدعوة إلى التكاتف لمقاومته حيثما وقع، وأيًّا كان المتلبس به، والتفريق بينه وبين حق الدفاع المشروع، والإرهاب هو العدوان الذي يُمارسه أفراد أو جماعات أو دول بغيًا على الإنسان في دينه، أو عقله، أو ماله، أو عرضه، وهو أقرب ما يكون لجرائم الحرابة التي رصدت لها الشريعة أغلظَ العقوبات، ومن صوره إخافة السبيل وقطع الطريق والأذى والتهديد والقتل بغير حق، وإلحاق الضرر بالبيئة، أو بأحد المرافق والأملاك العامة أو الخاصة، أو تعريض أحد الموارد الوطنية أو الطبيعية للخطر، وفي الجملة كل فعل من أفعال العنف أو التهديد يقع تنفيذًا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم أو أحوالهم للخطر، فكل هذا من صور الفساد في الأرض التي نهى الله عز وجل  المسلمين عنها، وشدد النكير على فاعلها، وتوعَّده بأشد العقوبات الدنيوية والأخروية.

6. المحافظة على الأمن الداخلي للوطن، وصيانة الحرمات الإنسانية: المحافظة على الأمن الداخلي للوطن، وصيانة الحرمات الإنسانية لجميع المواطنين، والتعاون على منع المساس بها، أيًّا كانت هوية الجهة التي تكون مصدرًا لهذا الإخلال، شعبية كانت أم حكومية، مع التأكيد على تجريمِ المشاركة في مداهمات قمعيَّة ظالمة على مستوى العلاقات الداخلية، تنتهك فيها هذه الحرمات، ولا يصلحُ أن يعتذر عن ذلك بإكراه؛ فإن الإكراهَ على القتل لا يحله، ولا يصلح عذرًا مانعًا من المسئولية عنه، سواء أكانت مسئولية دنيوية أم كانت مسئولية أخروية.

7. المحافظة على الأمن الخارجي للوطن وسلامة أراضيه:

• المشاركة في دفع الصيال على الوطن ودرء الحرابة عنه، وفي دعم المواقف العادلة للدولة، وبذل النصح لها في مواقفها الأخرى التي حادت فيها عن الحق والعدل، مع التأكيد على عدم مشروعية المشاركة في حروب ظالمة على مستوى العلاقات الخارجية، كما لا تحلُّ المشاركة في مداهمات قمعية ظالمة على مستوى العلاقات الداخلية؛ فإن الظلم قبيح في جميع الملل، ولم يحل في شريعة قط.

8. استفاضة البلاغ بالوسطية الإسلامية:

• استفاضة البلاغ بالوسطية الإسلامية، والتعريف بها على أوسع مدى ممكن، وإدانة مفاهيم الغلو، والنصح لأصحابها، والتعاون في ذلك مع جميع مؤسسات المجتمع المدني، ومن ثبت توجهه لعمل إرهابي بصورة يقينية، ولم تنجح الحجة في حمله على العدول عن باطله، فلا يحل إيواؤه أو التستُّر عليه؛ فقد لعن الله من أوى محدثًا(2).

بل يُحال أمره إلى الجهات الرسمية المعنية بمنع ذلك، والضرب على أيدي أصحابه.

9. الحرية الدينية لغير المسلمين:

• التأكيد على حق غير المسلمين تحديدًا في حرية ممارسة شعائرهم، وإقامة معابدهم على النحو الذي يُنظمه قانون دُور العبادة التي يتوافق عليه أبناءُ هذا الوطن، وعلى حقهم في الرجوع في مسائل الأسرة إلى شرائعهم الكنسية ومحاكمهم الملية، وقبل هذا كله حقهم في حرية التدين بما يشاءون، وفقًا لهذا المبدأ القرآني الخالد: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256]. 10. حرمة الكيانات الدينية:

• تتمتع الكيانات الدينية بما تتمتع به سائر الكيانات الوطنية من الحقوق، ومنها الحرية، واحترام الخصوصيات الدينية والثقافية، وتلتزم بما تلتزم به من الواجبات، وعلى رأسها الولاء للوطن، وعدم إيواء الخارجين عليه، أو إمدادهم بالوسائل والأدوات التي تُعين على هذا الخروج، أو حيازة شيء مما يجرِّم القانون استعماله أو حيازته، وقد لعن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم  من أوى محدثًا. والإحداث قد يكون ببدعة في الدين، أو بجريمة تستحق العقوبة من الدولة.

11. خضوعُ الكيانات الدينية لرقابة الدولة:

• خضوع الكيانات الدينية لرقابة الدولة، والتزامها بالإفصاح والشفافية في جميع أعمالها، شأنها شأن سائر الكيانات الوطنية الأخرى، باعتبارها جزءًا من النسيج الوطني الذي يتمتع بحماية الأجهزة الرقابية للدولة ماليًّا وأمنيًّا.

12. المشاركة في تحقيق الصالح العام:

• المشاركة في تحقيق الصالح العام لأبناء الوطن جميعًا، وألا يقلَّ الحرص على أداء الواجبات عن الحرص على المطالبة بالحقوق، والصالح العام هو مجموعة المصالح أو القيم ذات النفع الإنساني العام اللازمة لحُسن تسيير الحياة الإنسانية، بكفالة ضرورياتها التي لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، وحاجياتها التي لابد منها لكيلا يقع الناس في ضيق ومشقة، وتحسيناتها لكي تمضي أمور الناس بما يليق من محاسن العادات، ومكارم الأخلاق، على نحوٍ يُمكِّن الفردَ من تحقيق ذاته وغاية وجوده في هذه الحياة، وهي بلُغة أهل الدين: الكليات الخمسة التي جاءت لتحقيقها الشرائع السماوية، والتي تتمثل في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهي تتوزع على مختلف جوانب الحياة، فهناك الصالح العام الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والخلقي والفكري والبدني… هكذا.

ومن أمثلة الصالح العام الذي يتعيَّن السعيُ المشترك لدعمه في إطار هذه المواطنة ما يلي: من تطبيقات الصالح العام في واقعنا المعاصر:

• دعم القيم الدينية، والتواصي بالإيمان بالله، وعبادته وحده، والتماس هديه الذي أنزله على خاتم أنبيائه ورسله، باعتبار ذلك هو المخرج الوحيد للبشرية من عذاباتها النفسية، وكوارثها الاقتصادية والأمنية والاجتماعية في واقعنا المعاصر، فضلًا عما ينتظر المؤمنين بالله عز وجل  من الفوز بجنة الخلد ونعيم الأبد في الآخرة.

• الإقرار بمرجعية الشريعة في ظل توافق الأغلبية عليها، وتهيئة الأجواء لاستكمال تطبيقها، والاتفاق على آليات تفسير نصوصها عند التنازع.

• التواصي بترشيد المسار الإعلامي، وتوجيهه لأداء واجبه الفعَّال في إشاعة القيم وحراسة الفضيلة، وتأصيل ثقافة التعايش والتواصل الحضاري البناء مع مختلف الثقافات والأيديولوجيات، وكشف دعاوي المروجين لعداء التدين للحضارة المعاصرة؛ بهدف إثارة الفزع من الإسلام والمسلمين، وفرض ثقافة التغريب على المشهد السياسي برُمته، والتناهي عن توظيفه لإفساد القيم الأخلاقية، وإثارة الفتن وتأجيج الصراعات، والترويج للانحراف والرذيلة.

• منع الاحتقانات الطائفية، والسعي إلى تجفيف منابعها، وحل الإشكالات والمنازعات التي قد تقعُ بين أبناء الوطن الواحد، وتوفير المناخ الصالح للتعايش الاجتماعي والوطني؛ بلا غلو ولا جفاء.

• رفض الاستقواء بالأجنبي على حساب المصلحة الشرعية الوطنية في مثل هذه الظروف أو في غيرها، والتأكيد على أنه جريمة شرعية وخيانة قومية.

• التناهي عن الظلم والفساد، وتعقُّب رموزه وتجفيف منابعه، والتداعي إلى إشاعة السلام الاجتماعي، والتعاون مع الشرفاء في كل موقع لإيقاف مسلسل التخريب الاقتصادي واستنزاف مقدرات الوطن، لحساب قلة مترفةٍ، الأمر الذي يُهدد حاضر الوطن ومستقبله بالتشرذُّم والانهيار.

• مساندة القضايا العادلة المتعلقة بحقوق المعتقلين السياسيين، وضحايا إرهاب النظام السابق، والتأكيد على الكرامة الإنسانية، وعدم سقوط قضايا التعذيب بالتقادم، والتعاون مع منظمات المجتمع المدني التي تتبنَّى ذلك.

• دعم مشروع استقلال مؤسسة الأزهر، وعودة هيئة كبار العلماء، واعتبار الأزهر الشريف- بعد إعادة هيكلته وانتخاب شيوخه وهيئة كبار علمائه- هو الجهة القانونية المختصة التي ترجعُ إليها مؤسسات الدولة في شئون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة، مع عدم مصادرة حق أحد في إبداء الرأي وإسداء النصح متى تحققت فيه الشروط العلمية اللازمة، وبشرط الالتزام بآداب الحوار، واحترام ما توافق عليه علماء الأمة.

• مكافحة ظاهرة الجريمة، والمشاركة في استنقاذ المجرمين من براثن الجريمة ومن محارقها، بإعادة تأهيلهم إيمانيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا، من خلال برامج الدعوة والإرشاد الروحي داخل السجون، وبرامج إعادة التأهيل ومساعدة حديثي العهد بالسجون خارجها.

• استثمار رصيد الحضارة الإسلامية في معالجة ما تواجهه المؤسسات المصرفية الوطنية من اختناقات وأزمات، ومن ذلك السعيُ الجادُّ لإعادة النظر في الآليات الاقتصادية التي كانت وراء الأزمات المالية العالمية وما نتج عنها من انهيارات مروعة، وتفعيل آليات الاقتصاد الإسلامي وأدواته في إطفاء هذه الحرائق الكارثية، وتمتلك الحضارة الإسلامية من رصيد الخبرة في هذا المجال ما يمكن استدعاؤه وتوسيع رقعة نجاحاته لتسترشد به هذه المؤسسات، وتعالج أزماتها في ضوئه.

• التناهي عن دعوات التحلُّل الخُلقي والتفسخ الاجتماعي بدعوى الحرية الفردية، والتعاون على إشاعة القيم الفاضلة، وبناء منظومة وطنية للأخلاق، تتصدى لهجمة الانحلال الأخلاقي، وتحيي ما وهن من راوبط الرحم ووشائج القربى، والتأكيد بصفة خاصة على حقوق الجيرة والأقربين، وإغاثة المحتاجين من الفقراء والمرضى والمسنِّين، وينابيع الحضارة الإسلامية في ذلك فياضة لا ينبغي أن تحرم البشرية من ورودها.

• التداعي لحماية الأسرة، والتعاون لدفع ما يتهددها من أخطار معاصرة، وما يراد إلحاقه ببنيتها الأساسية ونظمها المستقرة في الزواج المشروع والتناسل من انهيارات وكوارث، وتوفير مقوماتها الأساسية وإعانتها ماديًّا ومعنويًّا على إعداد جيل صالح يعمر الأرض وفق الهداية الإلهية.

• النساء شقائق الرجال، وقد جعل الله لهن من الحقوق مثل الذي عليهن بالمعروف، وإقامة العلاقات الزوجية على التوادِّ والتراحم ورعاية الحقوق المتبادلة، والتأكيد على أن قوامةَ الرجال على النساء قوامةُ رعاية وكفالة ومسئولية، وليست قوامة قهرٍ وتسلُّط، والتناهي عن كل فكر أو سلوك ينتقص من المرأة أو يهضم حقوقها المشروعة، فقد كرَّم الإسلام المرأة أمًّا وبنتًا وأختًا وزوجة وذات رحم، وإنسانة لها الحق في الإنصاف والتكريم الذي كفلته الشرائع السماوية للبشرية جميعًا.

• السعي المشترك لعمارة الأرض وفق مشيئة خالقها الذي أنشأ الإنسان منها، وأناط به عمارتها وإصلاحها، والتداعي إلى مشروع إعمار شامل تستنفر له الخبرات الاقتصادية الوطنية في داخل البلاد وخارجها إنقاذًا للاقتصاد الوطني الذي بات على مشارف الانهيار.

• التناهي عن مظاهر العدوان على البيئة بكل مكوناتها، ومواجهة كل عدوان واقع أو متوقع عليها، محافظة على حق الأجيال القادمة في العيش في بيئة نقيَّة من التلوث بأنواعه المختلفة، وترشيد التقدم الصناعي والتقني؛ لتلافي المخاطر والكوارث التي تعمُّ الجنس البشري بشعوبه كافة: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56].

• ونختم بأن الوفاء بما جاء في هذه الوثيقة دين وقربة، وهي معروضة على رموز العمل الدعوي والوطني لمناقشتها وتدقيقها، ثم إقرارها وتبنيها، ليتعين الوفاء بها ديانةً وسياسة، ظاهرًا وباطنا، وقد قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34] ، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 10]، ولا مجال في العهود لتقيَّة أو لمعاريض، بل الوفاء والصدق، والوضوح والشفافية، وعلى ذلك ذمة الله ورسوله والمؤمنين. والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه البخاري في كتاب «الإكراه» باب «يمين الرجل لصاحبه: إنه أخوه» حديث (6952) من حديث أنس رضي الله عنه . (2) أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (1/254) من حديث علي رضي الله عنه .

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend