موقف المواطن المصري الشريف من الأزمة المصرية إزاء الانقلاب العسكري(2)

هل من جديد في مبادرة الخروج من الأزمة؟ وهل من دورٍ يتَّجه إلى عموم الناس يمكن أن نقوم به؟
إننا لسنا من العلماء ولا من الخبراء، ولكننا نحبُّ الله ورسوله، شأننا شأن غيرنا من ملايين المتظاهرين، فهل علينا دورٌ في إطفاء هذا الحريق؟ وفي الوصول بأمتنا إلى شاطئ الأمان؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد سبق أنه لابد من مواصلة الاحتشاد العام، والثبات في مواقع الرباط، والصبر على ما يُصيبنا في ذلك من ضرٍّ ومن بلاء، حسبةً لله تعالى، وابتغاءَ وجهه الكريم.
وإنني لأحتسب على الكريم المنان أن يَكتُب لهؤلاء ثوابَ المرابطين في سبيل الله، وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه : لأن أُرابط ليلةً في سبيل الله أحبُّ إليَّ من أن أقوم ليلةَ القدر عند الحجر الأسود(1).
وعلى التوازي مواصلةُ السعي السلمي للخروج من هذه الأزمة، التي لا سبيل إلى الخروج منها- فيما يراه الناس- إلا الحوارُ والحلُّ الدستوري السلمي، وقد ذكرتُ من قبل إن الاحتشادَ والتظاهر- على أهميته- ليس مقصودًا لذاته، وإنما باعتباره وسيلةً للتعبير عن رأي، وإظهار عاطفةٍ، وإنكار مظالم، ودعم مطالب مشروعة.
ولهذا يتعيَّن على عقلاء مصر وحكمائها من جميع الأطياف والرموز الدينية والسياسية والوطنية والقانونية والإعلامية التداعي إلى المخرج السلمي والدستوري لهذه الأزمة، وأرى أن من الضروري دعمَ هذا التوجه، بحِرَفيَّة ومهنية عالية، وذلك بصياغته صياغةً قانونية وسياسيةً دقيقةً، وحشد أكبر قدر ممكن من النخبة والرموز الوطنية حوله، وفي مقدمتهم قادة الأحزاب الدينية وشيوخها، وأساتذة القانون الدستوري وقادة التيار الليبرالي الوطني الذي يرفض العسكرة والقهر والانقلاب على قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان.
وأرى أن تُشكَّل لذلك خليةٌ سياسية لإدارة هذه الأزمة، وهناك رئيس الوزراء السابق وقد تمرَّس بالعمل السياسي، ومعه الوزراء السابقون، يضاف إليهم بعض رجال القانون ورجال القضاء والإعلام ونحوه، لصياغة هذه الملف صياغة دقيقة، وتسويقه على أوسع مدى، محليًّا وعالميًّا.
وأوصي في هذا الصدد بما يلي:
• الواقعية في صياغة سقفِ المطالب، حتى يمكن النظر في المبادرة والتجاوب معها، ولنعلم أن طولَ الأمد وكثرة الدماء سوف تشقُّ أخاديدَ وتحفر حفرًا لا تردمها الأيام والليالي، فكلما قصُر الأمدُ ووفرت الدماء كان هذا أعونَ على التئام الجراحات، والخروج من هذا النفق المظلم، إذا لابد لكل من يتولَّى الأمرَ في مصر أن تكون له صلة دائمة بالمؤسسة العسكرية، فلا يجمل أن تزرع هذه الألغام القاتلة في العلاقة بين الفريقين.
• أن تتضمن المبادرةُ خروجًا آمنًا لقادة الانقلاب، بطيِّ صفحته بما شابَها من احتقانات وجراحات، وإقالة عثرة من تعثَّر فيها من كبار القادة؛ لما كانوا يتأولونه أو صُوِّر لهم من أن هذا من قبيل ارتكاب أخفِّ الضررين، مع الاحتفاظ بالحق في التعويض العادل لكل من تضرَّر فيها، وكان من ضحاياها.
وإنني لأُدرِك مرارةَ هذا البند، ومشقته على النفوس بعد كل ما أريق من دماء وانتهك من محرمات، ولكن بدون هذا سوف نراوح في أماكننا، ولن يقبل أحد من هؤلاء القادة بأي طرحٍ، ولن يغامروا برءوسهم مهما بلغت فداحة الثمن، ولو احترقت مصر من أقصاها إلى أقصاها. وفي قواعد السياسة الشرعية متسع لمثل ذلك، والأمر متروكٌ لصياغة الفقهاء والخبراء، من رجال القانون والقضاء.
وأما الشهداء فإن الله لن يضلَّ أعمالهم، سيهديهم وسيصلح بالهم، ويدخلهم الجنة عرفها لهم(2)، ونرجو أن يكونوا الآن في حواصل طيرٍ خُضرٍ تسرح في الجنة، ترِدُ أنهارَ الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش(3).ولذويهم الحقُّ في التعويض العادل كما سبق.
• لابد من السعي لإقناع الرموز من مُختلف الأطياف على المستويين المحلِّي والدولي أننا أصحاب قضية عادلة، وأن تُرَتَّب لذلك الملفات والوثائق الداعمة لما نقدمه من معلومات أو مبادرات على أعلى درجات الحِرَفيَّة والمهنية، وأن تشكل لذلك الوفود وفرِقُ العمل على المستويين المحلي والدولي التي تسعى للتعريف بهذه القضية واستفاضة العلم بها والإقناع بها.
• لابد من إقناع الرموز من مختلف الأطياف على المستويين المحلي والدولي أننا مُنفتحون على الحوار، ومستعدُّون له في كل لحظة، وأننا حريصون على تجاوز هذه الأزمة بأقل قدر ممكنٍ من الخسائر، وأننا لسنا منغلقين ولا جامدين ولا متشنِّجِين، على النحو الذي يُحاول خصومنا تصويرنا به.
• وأؤكد في النهاية أن التظاهرَ والاحتشادَ العام إنما هو لإنجاحِ هذا السعي، وإقدار رموزِه على تحقيق نجاحات مُرضِية في هذا الصدد، بأقل قدرٍ ممكن من التنازلات والخسائر.
• التأكيد على ضرورةِ مراجعة التصريحات العنترية التي لا تعكس واقعًا من ناحية، وتستفز المراقبَ من ناحية أخرى، أو يستغلها الخصومُ في إثارة ريبته ومخاوفه على الأقل.
وعلى سبيل المثال عندما أعلن بعضُ وزراء الانقلاب رغبته في محاصرة المتظاهرين وقطع المؤن عنهم، لم يكن من المناسب أن يقال في الرد عليه: يوجد عندنا من المؤن ما ليس عند وزارتي التموين والصحة، وإذا احتاجت إحدى الوزارتين شيئًا فليُبلغونا لنرسل لهم إعانات. فإن هذا ليس بصحيح في ذاته من ناحية، ويأتي بعكس ما قُصد به لدى كثيرين من ناحية أخرى. وقد كان الأولى أن يقال مثلًا: إن الحقَّ في الحياة مكفول لكل المصريين معارضين كانوا أو مؤيدين، وهو من أبسط حقوق الإنسان التي اتفقت عليها المواثيق الدينية والدولية، وأن هذا المنطق لا يرتبط تاريخيًّا في الذاكرة الإسلامية إلا بكُفار قريشٍ الذين حاصروا بني هاشم في الشِّعب، حتى انتحى لهم بعضُ المشركين من قومهم لردِّهم عن ظلمهم، ولا يكاد يرتبط في الذاكرة المعاصرة إلا بدولة الكيان الصهيوني المجاورة. وكنت أرجو أن لا يقع في مثله شخصيةٌ مصرية، أيًّا كان انتماؤُها الديني أو السياسي. وأيًّا كان الأمر فإننا نثق في رحمة الله تعالى، فرِزقُنا بيده وحدَه، وليس بيد أحد من عباده، وهو القائل: ﴿وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ [العنكبوت: 60]، وإذا كان هؤلاء المتظاهرون قد خرجوا ابتغاءَ مرضاة الله فلن يُضيِّعَهم الله. أو نحوًا من هذا الكلام. وهذا مجرد مثال، وقِس عليه أشباهه ونظائره.
وفي النهاية ندعو الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يفتَح بيننا وبين قومنا بالحقِّ، وأن لا يأتي عيدُ الفطر إلا وقد جمعنا جميعًا على كلمة سواء، وما ذلك على الله بعزيز. والله تعالى أعلى وأعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (10/462) حديث (4603).
(2) قال تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيصْلِحُ بَالَهُمْ وَيدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد: 4- 6].
(3) ففي الحديث الذي أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «بيان أن أرواح الشهداء في الجنة» حديث (1887) عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)؟ قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: «أَرْوَاحُهُمْ في جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لـها قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ من الْـجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إلى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً فقال: هل تَشْتَهُونَ شيئًا؟ قالوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ من الْـجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟! فَفَعَلَ ذلك بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فلما رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا من أَنْ يُسْأَلُوا قالوا: يا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا في أَجْسَادِنَا حتى نُقْتَلَ في سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى. فلما رَأَى أَنْ ليس لهم حَاجَةٌ تُرِكُوا».

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend