ماذا علينا أن نفعل بعد فضِّ اعتصامي رابعة والنهضة لنصرة الشريعة والشرعية؟(1)

ما هي فريضةُ اللحظة الراهنة؟ لقد انفَضَّت ساحاتُ التظاهر بالقوة الغاشمة؟ فأين نذهب؟ وماذا نعمل لنُصرة الدين، والوفاء للشهداء، والمحافظة على الهوية؟ وماذا نفعل مع مشايخ الفتنة الذين يُفتون باستباحة المتظاهرين وقتلهم؟ ويصفون حملات البغي التي تقودها الداخلية مدعومة من الجيش بأنها دفعٌ للصائل وجهاد في سبيل الله؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن لله على عباده عبوديةً في جميع أطوار حياتهم، وأحوال معاشهم: في شبابهم وفي شيبتهم، في عسرهم وفي يسرهم، في منشطهم ومكرههم، في رخائهم وفي شدتهم، في بلائهم وفي عافيتهم.
ويُقاس الرشدُ والفوز بمدى قُدرة المسلم على القيام بعبودية الوقت فيما خُصِّص لها من الوقت، فقد تكون جهادًا سلميًّا، تظاهرًا أو غيره، وقد تكون تأمُّلَات ومراجعات منهجيَّة أو سياسية، وقد تكون جهادًا بالقلم في جريدة أو موقع إلكتروني، وقد تكون عملًا إغاثيًّا اجتماعيًّا في وقت تمسُّ الحاجة فيه إلى ذلك، ويمثل ضرورةً حياتيةً ملحَّةً، وقد تكون عملًا دعويًّا خالصًا في المساجد؛ ندوات ومحاضرات ونحوه، وقد تكون عبادة فردية بحتة: صيامًا أو قيامًا أو اعتكافًا أو ذِكرًا أو دعاء وضراعة واستغاثة، وقد تكون تعلُّمًا للعلم الشرعي واستزادةً منه، وتعليمه للناس.
والعمل السياسي مسارٌ من مسارات العمل الإسلامي، وسبيل من سبله لنصرة الدين، وهو ليس بديلًا من السعي على بقية المحاور، والمرابطة على بقية الثغور، وإذا ضاق شيءٌ من السبل ببعض الناس في وقت من الأوقات، ففي بقية السُّبل بدائل ومنادح، ولا ينفكُّ المسلم عن عبودية لله في لحظة من اللحظات، حتى في أوقات خلوته بأهله، ففي بضع أحدكم صدقة(1).
والمراجعات المنهجيَّة أو الفكريَّة لا تتعارض مع الإيمان بقدرِ الله عز وجل، واعتقاد المسلم الجازم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه(2). فإن قدرَ الله لا يحتجُّ به لتسويغ التقصير أو القصور، وإنما يتعزى به عند حلول فواجع المقدور.
من حقِّ جماعة المسلمين أن تُحاسب أئمتها، ومن حقِّ مجالس الشورى والجمعيات العموميَّة في الجماعات والأحزاب الإسلامية أن يحاسِبوا عند الاقتضاء رموزَهم وقياداتهم، مع اعتبار كافة الظروف والملابسات، بل وأن يضرِبُوا على أيديهم إن زاغوا عن القصد، أو مالوا عن العدل، فإما أن يعدلوا بهم من الجور إلى العدل، أو أن يعدلوا عنهم إلى غيرهم؛ كأنهم يقولون لهم: استقيموا يرحمكم الله، أو استقيلوا يرحمكم الله.
وإذا كنا نطالب بهذا الحق في مواجهة أئمة الجَوْر والظلم والفسق، فأولى أن يكون حقًّا بدهيًّا ثابتًا في مواجهة الأئمة العُدول.
سمعت قائلًا يقول: ما قضينا ساعة في عُرسه وقضينا العمر في مأتمه.
فقلت له وما أدراك أنك ستقضي العمر في مأتمه؟! أحسن الظنَّ بربك، فإن الدعاة إلى إقامة الدين وتحكيم الشريعة أكرمُ على الله من ذلك، وإن رحمةَ الله قريب من المحسنين(3).
ما بين غمضة عين وانتباهتها
يغيِّر الله من حال إلى حال(4)

إن خسارة معركة لا تعني نهايةَ العالم، ولا تعني توقف الحياة، لقد مرَّت بالإسلام وأهله من قبلُ أوقات عصيبة، لا تقارن بما نمرُّ به في الوقت الراهن، وكان يُظنُّ أن الإسلام قد صار أثرًا بعد عين، وأنه قد استصدرت له شهادة وفاة، ثم إن هي إلى سنة من الدهر، حتى استعادت الأمة عافيتَها، واستردت قوتها، وتبوأت مكانها في قيادة الموكب البشري من جديد.
سيكثُر الشامتون؛ وسيرقص بعضهم على أشلاء الضحايا وأنَّات الثكالى ودموع اليتامى، يطالب بالمزيد من التنكيل والتحريق، وقد يُظاهرهم على ذلك علماءُ سوء وأئمة مبطلون، وسيخوَّن الأمناء، ويؤتمن الخونة، ويصدق الكذبة، ويكذب الصادقون، ويتكلم الرويبضة، وسيمرج الدين، وتموج الفتن كموج البحر، ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120]. فالثبات الثبات، فإن النَّصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وإنَّ مع العسر يسرًا.
ومع هذا فقد يكون الفرجُ أقربَ من هذا كله، ورحمةُ الله أسرعَ من هذا كله.
إن الذي نعبده ونكدح لنصرة شريعته قد أحاط بالناس، وهو القائل: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ﴾ [الإسراء: 60]والقائل: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا﴾ [الإنسان: 28]. والقائل: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ [فاطر: 44].
أما مشايخ الفتنة فحسابُهم على الله؛ لا تشغل نفسك بتتبُّع سقطاتهم، ولا بالرد على مشتهرات أقوالهم، ولا تُطلق لسانك فيهم بالعيب والثلب، فإن أعفَّ الناس ألسنة أهل الإيمان، وإذا اقتضى موقف ردًّا فليكن بأعفِّ العبارات، وأحسن الكلمات، بلا تشنُّج ولا جلبة ولا ضجيج، فإن منهم من قد يكون معذورًا، ومنهم من قد يكون متأولًا تأويلًا سائغًا أو غير سائغ، ويوم القيامة تُبلى السرائر، وعند الله يجتمع الخصوم.
وسوف يبين الحقُّ يومًا لناظر *** وتنزُو بعوراءِ الحقودِ السَّرائر(5)

لا تستسلم لمشاعر القنوط واليأس، واعلم أنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون(6)، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون(7). وأن ربك عند ظن عبده به(8).
فلا تقنط وإن لاقَيْـ
ـتَ همًّا يقبض النفسا

فأقرب ما يكون المر *** ء من فرج إذا يئسا(9)

وتذكر قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف: 110].
اللهم احقن دماءَ أوليائك، واربط على قلوبهم، وأفرغ عليهم صبرًا، واجمع على الحق كلمتَهم، وألهمهم الرشد في القول والعمل، وخذ بنواصيهم إلى ما تحبُّ ربي وترضي. اللهم آمين. والله تعالى أعلى وأعلم.

________________________

(1) أخرج مسلم في كتاب «الزكاة» باب «بيان أن اسم الصدقة يقع » حديث (1006) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وفيه: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ». قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوتَه ويكون له فيها أجر؟ قال: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؛ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْـحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا».

(2) فقد أخرج أحمد في «مسنده» (5/ 189) حديث (21696)، وأبو داود في كتاب «السنة» باب «في القدر» حديث (4699)، وابن ماجه في «المقدمة» باب «في القدر» حديث (77)، وابن حبان في «صحيحه» (2/ 505 – 506) حديث (727)، عن ابن الديلمي قال: أتيت أبيَّ بن كعب فقلت له: وقع في نفسي شيء من القدر فحدِّثني بشيء لعله أن يذهب من قلبي فقال: «إِنَّ اللهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ غَيْرَ ظَالِـمٍ لَـهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَـهُمْ مِنْ أَعْمَالِـهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ فِي سَبِيلِ الله مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَـمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ».

(3) قال تعالى: «وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» [الأعراف: 56].

(4) البيت من بحر البسيط، ولم أقف على قائله.

(5) البيت لشاعر السيف والقلم: محمود سامي البارودي. وهو من بحر الطويل.

(6) قال تعالى: ﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 56].

(7) قال تعالى: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].

(8) ففي الحديث الذي أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 391) حديث (9065)، وابن حبان في «صحيحه» (2/ 405) حديث (639)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل قال: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي؛ إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ»، وذكره الألباني في «صحيح الجامع» حديث (4315).

(9) البيت للعكوك: علي بن جبلة الأبناوي. شاعر عراقي مجيد. ت: 213هـ. وهو من بحر: مجزوء الوافر.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend