قراءة في أوراق محنة مصر عقب الانقلاب العسكري

ما قراءتك للمحنة في مصر؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
مقدمة:
لا أدري إن كان توقيتُ هذه القراءة مناسبًا أم أنه تعجُّل للأمر قبل أوانه. ولا أدري إن كان سيُحسن الظن بها وبكاتبها أم ستتناوشه الهواجس والظنون. وأيًّا كان الأمرُ فإن التتابع المذهل والصادم للأحداث يقتضي في ظني هذا التعجيل، نصحًا لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وربطًا على قلوب تسرَّب إليها شوبٌ من سوء الظنِّ بقدَرِ الله عز وجل  أو كادت، وأوشكت أن تتهم قدرَ الله على حالها، بدلًا من أن تتهم حالها على قدر الله عز وجل .
بطبيعة الحال لا تتسنى قراءةٌ دقيقةٌ لمشهد من المشاهد إلا بقدرِ ما توافر لدى قارئه من معلومات دقيقة، وبقدر النقصِ في المعلومات يكون النقصُ في الدقة في القراءة، والعمق في التحليل والمعالجة، فأرجو أن يعذرني من تمسُّه هذه القراءة بدرجة أو بأخرى إن رأى في بعضها قصورًا في التصور، أو هشاشة في التحليل، بسبب نقص المعلومات الدقيقة التي يعسر الوقوف على كثير منها في هذا المشهد الدرامي الصادم والفاجع.
وعذري في ذلك أنَّ الميسور لا يسقط بالمعسور، وأن ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك جلُّه، ووالله الذي لا إله إلا هو ما أردت إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله.
لم أكن في يوم من الأيام خصمًا لفصيل من فصائل العمل الإسلامي، حتى هؤلاء الذين أطلقوا ألسنتهم في كاتب هذا السطور بالقدح، ودبَّجُوا في ذلك ما دبَّجوا من المقالات، ومنهم من طيَّر من ذلك ما طير عبر الفضائيات، وكنت أذكِّرُ نفسي دائمًا أنهم متأوِّلُون، وأن هناك من شوَّش عليهم بمعلومات غير دقيقة، فكانت مواقفهم صدًى لهذا التشويش، فلعلهم يُعذرون بذلك، أو بعضهم على الأقل، وهم في النهاية أهل ديانة وصيانة.
وإذا كنتُ لم أخاصم أحدًا من الكيانات الدعوية، فإنني لم أعطِ أحدًا منهم صفقة يدي وثمرةَ فؤادي؛ بل بقيت على مسافة متقاربة من الجميع، على منازلهم التي أنزلهم الله إياها، وعلى تناصح متبادلٍ مع الجميع، وقد كلفني ذلك في مشواري الدعوي ما كلفني، ولكن عزائي أنني رجوت ولا أزال أن يكون هذا هو الأرضى لله والأعبد له.
هذه القراءة سلسلة ممتدة؛ فأرجو أن لا يعجل القارئ إذا لم يجد ضالته في المقالة الأولى، ووصيتي له أن يصبر نفسه حتى يفرغ من قراءة هذه السلسلة، فلابد أن يجد فيها بإذن الله كثيرًا مما يبحث عنه. وبطبيعة الحال لن تستوعب هذه المشهد الدامي مقالةٌ أو مقالتان، فليصبر نفسه، ولا ينبغي أن يُصاب بخيبة أمل إن هو لم يجد ضالته في المقالة الأولى.
لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا:
لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، أو بلغة أكثر معاصرة: لو دارت عقارب الساعة إلى الوراء، ولو بدا لنا بالأمس ما أفقنا اليوم على فواجعه وفواقره- تُرى هل كنا سنسلك نفس المسار، ونُصِرُّ على نفس الاختيارات؟
سؤال لا حرج شرعًا في طرحه، فإن «لو» لا تفتح دائمًا عمل الشيطان، وإنما تكون كذلك إذا كانت تحسرًا على ما فات، أو اعتراضًا على شرع الله أو قدره، أو احتجاجًا بقدره على المعصية. أما عندما تكون تحليلًا لتجربة لكي لا تتكرَّر أخطاؤها، أو تأسفًا على ما فات من طاعة، أو دراسة لمحنة لكي لا يُستدام ضرامها، أو تمنيًا مشروعًا لخير يُؤجر عليه صاحبه، أو خبرًا محضًا- فإنها تكون مشروعة.
وفي نصوص الشريعة استخدامات كثيرة مشروعة لكلمة «لو»، ولنا أن نتأمل قولَ المعصوم صلى الله عليه وسلم : «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْـهَدْيَ»(1). واستشهد بها أهلُ الفقه على أن خيرَ الأنساك التمتُّع.
وقوله صلى الله عليه وسلم  في حديث: «إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ»: «لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ. فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ»(2). فلا حرج في تمنِّي الخير؛ ويؤجر صاحبه بهذا التمني.
واستدل به أهلُ العلم على أن الرجل قد يبلغ بنيَّتِه ما يبلغه العاملُ بعمله، وفي القرآن الكريم قولُ الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف: 188].
وقد نقل ابنُ حجر في «الفتح» عن القرطبي أنه قال في «المفهم»: «محل النهي عن إطلاقها- يعني لو- إنما هو فيما إذا أطلقت معارضةً للقدَرِ، مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور؛ لا ما إذا أُخبر بالمانع على جهة أن يتعلق به فائدةٌ في المستقبل، فإن مثل هذا لا يختلف في جواز إطلاقه، وليس فيه فتح لعمل الشيطان، ولا ما يُفضي إلى تحريم»(3).
وقال النووي في «شرح مسلم»: «أما من قالها تأسُّفًا على ما فات من طاعة الله تعالى، أو ما هو متعذَّر عليه من ذلك، ونحو هذا- فلا بأس به. وعليه يُحمل أكثرُ الاستعمال الموجود في الأحاديث. والله أعلم»(4) اهـ.
وسوف تكون البداءة في الحلقة القادمة بالحديث عن المشهد السلفي، ثم يعقب ذلك حديثٌ عن بقية المشاهد بإذن الله، والله من وراء القصد.

قراءة في أوراق المحنة(1)

لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا:
هذه الحلقة للحديث عن الدعوة السلفية وتباينات موقفها من هذه الأحداث، وما أثارته من جدل ورُدود أفعال جعلت الناس فيها فرقاء يختصمون.
بادئ ذي بَدء أؤكد أن منهج الدعوة السلفية إذا أُحسِن فهمُه وأحسن تطبيقه يُعَدُّ في الجملة أرضى المناهج لله U، وأعبدها له، وأولاها بالنجاة في خِضَم هذه التباينات المنهجية والفكرية التي تموجُ بها ساحةُ العمل الإسلامي المعاصر، رغم ما أصاب الدعوة السلفية نفسها من تشرذمات وتباينات في كثير من المواقف السياسية والدعوية.
والدعوة السلفية في تقديري ينبغي أن تظلَّ بمنأى عن التحوصلات الحزبية، لتكون نورًا يُشرق في جميع الكيانات الدعوية المعاصرة، وروحًا تسري في أوصالها جميعًا، فالدُّعاة ينبغي أن يكونوا سلفيين، والمحتسبون ينبغي أن يكونوا سلفيين، والمجاهدون ينبغي أن يكونوا سلفيين، والمشتغلون بالعمل السياسي ينبغي أن يكونوا سلفيين، وهكذا، فهي المشترك الدعوي الراشد الذي ينبغي أن يلتقي عليه أهلُ الدين قاطبةً، إذا كانوا في مقام التدين وتحريرِ المواقف العقدية والمنهجية.
هذا. ولم تعد الدعوة السلفية كما لا يخفى كيانًا واحدًا، بل صارت كيانات ومدارس، وكلها تدور في فلك منهج أهل السنة، وتتفاوت مواقفها واختياراتها العلمية كتفاوت المذاهب الفقهية داخل إطار أهل السنة.
وقد تفاوتت مواقفها من هذه الأحداث الصادمة:
من مُؤثِرٍ للتريُّثِ حتى ينقشع الغبار، ويبصر مآلات الأمور، فلم يأرز إلى الانقلابيين، ولم يأرز إلى المنتصرين للشرعية، بل كانوا في موقف المتأمل الذي يدعم الشرعية في الجملة، ولكنه لا يصفُّ مع مؤيديها لحسابات قدَّرَها، أو لتصلبات لدى بعض المؤيدين للشرعية رأى عدمَ مناسبتها.
ومن مُؤثرٍ للانحياز المبكر إلى الانقلابيين، إحسانًا للظن ببعضهم، ومتأولًا أن الواقع القائم مآله إلى السقوط لا محالة، ولا ينبغي أن يحجب العمل الإسلامي كله عن الشرعية، وأن يرميه خصومه عن قوس واحدة، فآثر الانحيازَ إلى الانقلابيين، ترجيحًا لهذه المصالح حقيقيةً كانت أو متوهمة، ليحصل من خلال ذلك ما يمكن تحصيلُه من الخير، ويدفع ما يمكن دفعه من الشر.
ونستهل الحديث بنفس السؤال: لو كنت مكان أحبابي صناع القرار في الدعوة السلفية ماذا كنت فاعلًا؟
أما الذين تريثوا فما كنتُ لأكتفي بمراقبة الأحداث عن قُرب أو عن بعد؛ بل كنت سأُوثر أن أكون في قلب المشهد، ناصحًا ومُصوِّبًا للأخطاء، ومبَصِّرًا بالعواقب والمآلات، إن لم أكن بشخصي، فبفكري وبلساني وقلمي، ونصحي لإخواني ودعائي وتثبيتي لهم، ولعلهم لو فعلوا ذلك لكان خيرًا لهم وأشدَّ تثبيتًا، ولكان أقومَ بمصالح الدعوة، وأعونَ لها على تجاوُز هذا المنعطف التاريخي الحرج، فإن حقَّ المسلم على أخيه أن ينصح له وأن لا يسلمه(5). ولكن حسب إخواننا هؤلاء أنهم لم يُعلنوا الانحياز إلى الانقلابيين، ولم يشايعوهم على انقلابهم بقول أو عمل.
أما الأحبَّة الذين آثروا الانحيازَ المبكر إلى الانقلابيين، فلو كنت مكانهم لكان لي بعضُ التأملات والمراجعات والتي أوجزها فيا يلي:
• كنت سأبدأ بتذكير نفسي بأمرٍ في غاية الأهمية والحيوية، وهو أنني عشت في خصومةٍ دعوية طويلة المدى مع الإخوان، وقدر الله جل وعلا أن ندخل المعترك السياسي متنافسين، الأمر الذي يزيد الفجوة عمقًا، والهوَّةَ اتساعًا، ومعنى ذلك أنني سأقول لنفسي دائمًا: إنني متهم فيما أتقلَّده من مواقف، أو أتبناه من آراء تجاه الإخوان، لو جاء من يسألني عن موقفٍ صدر عنهم أو حدثٍ نُسب إليهم، سأنبِّهُ محدثي إلى هذا البُعد، وسأذكره به، وسأقول له: لا تجعل تفسيري هذا موقفًا نهائيًّا، بل سل عنه غيري، فإنني أتهم نفسي في حديثي عنهم، والتقوى أن تنصف من نفسك.
• كنت سأطوي صفحة الماضي، وما حفلت به من موجات من الاحتقان والتأزم في علاقتي مع الآخرين؛ لأننا ببساطة أمامَ مشهد جديدٍ جدةً كاملة، فنحن نعمل في العراء، وخصوم الشريعة من حولنا يتضامُّون ويتداعون إلى موقف موحد، وهو شنُّ الغارة على التيار الإسلامي وشيطنته وإقصائه، يُظاهرهم على ذلك شياطين الإنس والجن محليًّا وعالميًّا، فلا تحتملُ ظروفٌ كهذه استمرارَ مسلسل التراشق بالتُّهم والتقاذف بالمناكر، ولا المغالبة على مواقعَ سياسية أو غير سياسية.
• كنت لن أسمح لخلافاتنا الدعوية والسياسية أن تتحول إلى قضية رأي عام، يتخوَّض فيها خصوم الشريعة والذين في قلوبهم مرض، وتُتَّخذ ذريعةً لشيطنة العمل الإسلامي، وتشويه رجالاته ومؤسساته، بل ما أمكن حلُّه من خلافات داخل البيت الإسلامي فذلك حسنٌ، وما عجزنا عنه كظمتُ فيه غيظي، وكتمت السهم في كبدي، وأعملت مع المخالف قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]. وما يتضمنه من أن تُعطِي مَن منعك، وأن تصلَ من قطعك، وأن تُحسن إلى من أساء إليك. وحملت نفسي ما استطعتُ على قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ ولَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: 34-35].
• كنت سأبذل لمخالفي من أهل الدين حقوقَ الإسلام، وأصل ما يربطُني به من رحم الدعوة، وأمتثل في علاقتي به قولَ النبي صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئ، وَلكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»(6).
• كنت لن أُظاهر عليهم أحدًا قطُّ ممن لا يحملون المشروع الإسلامي، ولم يُعرفوا في الأمة بتديُّنٍ، ولا بتعظيم لشعائر الله، فإن لم أُعنهم فلا أقل من كفِّ الأذى عنهم، وتفويض أمرهم إلى الله عز وجل .
• كنت سأبقى على الطاعة لهم في غير معصية، وإذا جاء من يسعى في نقض عهدهم قبضتُ يدي عنه، ولم أُشايعْه على ذلك بقول أو عملٍ، مهما توهمت أنه قد يكون أكفأَ وأقوم بالمصالح العامة؛ حتى لا يُسجَّل في صحيفتي أنني شاركت في غدر، أو أعنت عليه، فإذا ظهر هذا الخارجُ، وصار في حكم المتغلِّب،نظرت في أمره: فإن أعلن عن عزمِه على إقامة الدِّين وتحكيم شريعته، وصدقت أفعالُه أقوالَه- دعمته وأعلنت ولائي له، وإن كانت سيرته امتدادًا لسيرة من سبقه من الفراعنة والطواغيت قبضت يدي عنه، ولم أشايعه على باطله بقول أو عمل.
• كنت سأتشاور في مواقفي السياسية مع أهل التخصُّص، وأُكوِّن قراري فيها بالتشاوُّر مع رجالي، وأفرِّق بين فقه الدعوة وفقه الدولة، وأُدرك أن كوني مبرزًا في فقه الدعوة لا يعني أنني مبرزٌ في فقه الدولة وتدبير المصالح العامة.
وكنت سأضع نُصبَ عيني أنني عشتُ المرحلة السابقة على أحداث الربيع العربي؛ أدور في فلَكٍ شعائريٍّ بحتٍ في الجملة، وأن السياسة تخصُّصٌ تُنشَأُ لها الكُليَّاتُ والأكاديميات ومراكز الأبحاث الاستراتيجية، ويُستدعى لها الخبراءُ والقادة، ولا حرج في أن أجلس مجالس الطَّلَب مع المبتدئين بين يدي هؤلاء، لأضرب لرجالي مثلًا في أنَّ طلبَ العلم في شتى المجالات وعلى شتى المحاور مَنقبةٌ، وأنه لا يغضُّ من قيمة صاحبه بل هو شرفٌ له، فلا يكبر المرء على علم ولا على عالم.

  • الْعِلْمُ حَرْبٌ لِلْفَتَى الْـمُتَعَالِي
  • كَالسَّيْلِ حَرْبُ لِلْمَكَانِ الْعَالِي(7)

 

• وبعد فقد يكون كثيرٌ مما سبق حاصلًا مع أحبابنا في هذا الفريق، ويكون حديثي عنه وتنبيهي عليه مردُّه إلى نقص المعلومات، للغياب النسبي عن الساحة، ولعدم المخالطة المباشرة لكثير من قيادات الدعوة السلفية ورموزها بسبب الاغتراب، وليس المقصودُ في هذا المقام تسجيلَ مواقف، وإنما المقصود هو التناصُح والتشاور، ولا ينبغي أن يكون هَمُّ من يقرأ هذه الكليمات هو المبادرةَ إلى الرد، والمسارعة إلى التعقيب، فإن من يحمل مثل هذه النفسية قلَّ أن يستفيد من نصحٍ أو أن ينتفع بناصح.
• أما إخواننا الذين لهم موقف مبدئي من كلِّ أحداث الربيع العربي من البداية، والذين لا يرون شرعيةً لكل هذه الاحتجاجات من حيث المبدأ، ويتدينون بأن الوضع القائم وضع شرعي في الجملة، ينبغي مناصحةُ القائمين عليه سرًّا، وعدم الخروج عليهم، بدءًا من مبارك، ومرورًا بغيره من سائر الزعماء والقادة في عالمنا العربي أو الإسلامي، فهؤلاء لهم اجتهادهم الذي لا نهدر حرماتهم وحقوقهم بسببه، ونوكل سرائرهم إلى الله عز وجل ، وإن كان هذا لا يمنعنا من أن نعلن محالفتنا لهم في كثيرٍ مما يقولون أو يفعلون، لا سيما تهييجُهم على المخالف، وإعلان الحرب عليه بلا هوادة، وعدم اعتبار سابقة من سُنَّة أو جهاد أو بلاء في نصرة الدين، واعتبار إخوانهم الذين يرفعون لواءَ السنة أو لواء الشريعة أو كليهما أخطرَ على الإسلام من كثير من العلمانيين والذين في قلوبهم مرض، في صيال يذرُ الحليمَ حيران.
نعم ننكر عليهم ذلك، ولكن بكل ما عُرف من أدبِ الخلاف وأدبِ النصيحة في مواريثِ السلف، ونُخلص الدعاءَ لهم في السرِّ والعلنِ، ولا نُنكر بلاءَهم في نُصرة الدين والسنة على محاورَ أخرى، ولا يُبرر الخلافُ معهم في ذلك أن تُطلق الألسِنَة فيهم بالثَّلب أو الطعن، فمنهم أصحابُ ديانة وصيانة كرام، يُستسقى بوجوههم الغمامُ، ومنهم من هو دون ذلك، وحسابهم على الله عز وجل ، و«كُلُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»(8). وعند الله يجتمع الخصوم وتبلى السرائر(9). والله تعالى أعلى وأعلم.

قراءة في أوراق المحنة(2)

لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا:
لو استقبل العمل الإسلامي من أمرِه ما استدبر: هل كان سيصرُّ على هذا الحضور المكثف في المشهد السياسي على هذا النحو؟ ويزاحم على كرسي الرئاسة والوزارة معًا، في أول تجربة سياسية في أعقاب الثورة؟ ومن يرث هذه التركة إنما يرث أطنانًا من الخرائب، ويعالج جسدًا أثخنته الجراحات، فبات ينزف من جميع عروقه، وسيدفع القائم على ذلك من أرصدته التاريخية ثمنَ الفشل المحتوم الذي كان سيمنى به لا محالة من يغامر هذه المغامرة، ويجترئ على هذه المقامرة.
وهل كان الأولى بالعمل الإسلامي أن تكون مشاركتُه جزئية، فيركز على بعض الوزارات الخدمية، ويكثف برامجه الدعوية والتربوية، ثم يظلُّ يرقب المشهد عن كثب، ويرصد التجربة الجديدة في تأمل واعٍ مستبصر، يستوعب دروسها، ويستفيد من أخطائها وعثراتها، من غير أن يتحمَّل أوزارَها، وتنقض ظهره أثقالها؛ فيظل أملًا في الظل: ترنو إليه عيون، وتشرئب إليه أعناق، وتهفو إليه قلوب، وتأتلف حوله عواطفُ ومشاعر؟! تُرى كم خسرنا بهذه العجلة؟ وكم سُحِب من أرصدتنا بهذا التراكض اللاهث؟!
ومبلغ علمنا أن هذا كان هو المقرر ابتداءً، بل وكان موضع اتفاق بين قطبي العمل الإسلامي السياسي: الحرية والعدالة وحزب النور، ولكن مستجدات طرأت على الساحة هي التي أدت إلى تعديل هذا المسار، والخروج على هذا النهج.
وقد يقال: إنه كان من الأولى أن يستمسك أولو العزم بما اتفقوا عليه، وأن لا تستدرجهم إغراءاتُ قوَّة متوهمة، فتصرفهم عن القصد، وتنأى بهم عن الجادة.
وأحبابنا في الحركة الإسلامية تعودوا على العمل في الظلِّ، طوال فترات القهر الماضية، وكانوا دائمي الزهادةِ في تبوُّءِ موقع الرجل الأول، ولكن تغيَّرت حساباتهم هذه المرة، وقد كان من حولهم من ينصح لهم بالرويَّة وعدم المجازفة، ولكن لم يسمع له صوت، ثم مضت الأمور على ما جرى به القلم في الكتاب الأول، فكانت كل هذه الفواجع.
وليست توقُّعات الفشل في ظل تراكُم كمِّ الفساد طُوال سنوات المحنة هي السبب الأوحد الذي كان يَحمل على الزهادة في التصدُّر في هذه المرحلة العصيبة، فهناك التآمر الدولي: عربيًّا وعالميًّا، بكل أجنحته الظاهرة والخفية، وهناك التجارب التاريخية، والسعيد من وُعظ بغيره، وما تجربةُ الجزائر منا ببعيدة.
وهب أن ظروفًا خاصة هي التي حملت على المغالبة في المشهد السياسي على موقع الرئاسة، أما كان الأولى بعد أن تحقَّق هذا الرجاء، ودفع هذا المحذور، أن تستعيد ذاكرتنا الموقفَ الأول، وأن تكون مشاركتُنا بقدر، وأن يُشركوا كل ألوان الطيف السياسي ممن كانوا ينافسون مثلهم على كرسي الرئاسة في تحمل المسئولية، ومنهم من كان حظُّه في الأصوات تقارب أصوات أهل الدين، ليكون النجاح إنجازًا للجميع، ووسامًا على صدورهم، كما كانت الثورة عملًا جماهيريًّا صنعته سواعد الجميع، ولتكون إخفاقاتها مسئولية الجميع فلا يتلاومون، ولا يتقاذفون بالتُّهَم من مكان بعيد.
ترى هل يستشعر أحبابُنا الآن حرج هذه المرحلة؟ وأنه كان الأولى بهم أن يقفوا حيث قرروا في البداية، ويثبتوا على ما توافقوا مع إخوانهم عليه؟
لا شك أن هذه النهايات المخضَّبة بالدماء لا تسُرُّهم، وهذه الشيطنة للحركة الإسلامية بكل تجلياتها لا تسرُّهم، وهذا العداء المجنون لا يسرُّهم، وهذه الدماء التي خضبت أرض رابعة والمنصة والحرس الجمهوري لا تسرُّهم، ولكن صدق الله العظيم: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف: 188]. وصدق الله لعظيم: ﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ [يوسف: 81].
إنه لدرس مُوجِع باهظُ التكلفة والثمن، ورحم الله شهداءنا، وفرَّج لله كرب سجنائنا وأَسْرَانا، وأعاد أمتنا إلى رشدها.
وستعلم أمتُنا يومًا أن أبناء العمل الإسلامي، وإن أخطأت حساباتهم، ولم يحالفهم التوفيقُ في تقديراتهم، كانوا أصدقَ الناس في الحفاظ على مصالحها، وأنهم ما ركبوا الصعاب إلا حنانًا بها، وإشفاقًا عليها، وأن هؤلاء الذين يتراقصون على الدماء والأشلاء من حولها هم ألدُّ أعدائها، وستذكر أمتي ما نقول لها ونُفوِّض أمرنا إلى الله، والله بصير بالعباد. والله تعالى أعلى وأعلم.

قراءة في أوراق المحنة(3)

لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا:
لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، وكنت مكان الرئيس مرسي ماذا كنت فاعلًا؟
سؤال قد تبدو عليه عبثية ومراهقة سياسية، فأنَّى لرجل من أغمار الناس، ولا صلة له بعالم السياسة والساسة، أن يقترح على المسئول الأول، أو أن يراجع قراراته وسياساته، وهو الذي قد اجتمعت لديه من مصادر المعلومات، ومصادر دعم القرار، ومن المستشارين السياسيين وغير السياسيين ما يجتمع لمثله ممن يكون في سُدَّة الحكم، ويتسنم هرمَ السلطة العليا والعامة في بلد من البلاد.
ومع معقولية هذا التساؤل، إلا أن النهايات الصادمة والفاجعة تؤكِّد أن خللًا ما قد حدث، وأن هذا الخلل لابد أنه كان جسيمًا، وأنه قد تكون هذه المصادر نفسها من أسباب الكارثة، وأن هناك من الأسباب الشرعية والسياسية والقانونية والأخلاقية والدعوية ما يقتضي المراجعةَ والتدبُّرَ والتحليلَ، وأن هذا التحليل مفتوحةٌ أبوابه لمن شاء.
ألم يقف نبينَا صلى الله عليه وسلم  يوم بدر ليقول: «أشيروا علي أيها الناس؟» وظلَّ يكرر ليستوعب المهاجرين والأنصار جميعًا(10)؟! ألم يستشر الناسَ جميعًا يوم أحُد؟!
ورغم أن تسلسل الأحداث ونهايتها الأسيفة قد يُفضي إلى شيءٍ من التحفُّظ في التعويل على الشورى بعدما حدث ما حدث، ولكن القرآن الكريم الذي تنزل تعقيبًا على هذا الأحداث أكد على استدامة الشورى فقال: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» [آل عمران: 159].
ألم يستوعب الخطابُ النبويُّ الناسَ جميعًا عندما بيَّن أن جماع الدين النصيحة، وأنها تكون لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم(11)؟!
وقبل أن أستطرد في هذا العرض أرى أن من الوفاء والنُّبل أن أقضيَ حق هذا الرئيس المظلوم، بكلمة تقدير وعرفان، على وفائه ونبله، لقد ذهب ضحيةَ وقوفه لرسالته، وانتصارِه لدعوته، أخطأ أم أصاب، وقد كان له لو أراد الحياة الدنيا وزينتها، وأن ينعم بملك مصر كما نعم الفراعنة من قبله، كانت له منادح واسعة، ومسالك كثيرة، ولكنه آثرَ ربَّه وآخرته ودعوته وجماعته ورسالته، وَفق ما أداه إليه اجتهاده، وسيذكره التاريخ يومًا فيُنصِفه. وقبل ذلك فإني أرجو أن يذكره الله في الملأِ الأعلى عنده، فإن ذلك كلُّه في كتاب، لا يضلُّ ربي ولا ينسى(12). فلك التحية أيها الرمز المظلوم، ولك الدعاءُ الخالص من الأعماق، أن يردَّك الله إلى أهلك راضيًا مرضيًّا، وأن يردك إليه راضيًا مرضيًّا، لتدخل بإذن الله في عباده وفي جنته.
ثم نرجع إلى سؤالنا:
لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، وكنت مكان الرئيس مرسي ماذا كنت فاعلًا؟
كنت سأقدم بين يدي رسمي لسياستي في قيادة المسيرة بهذه المقدمات:
أولهما: أن هذا التغيير الكبير الذي جدَّ في المشهد المصري لم يكن حراكًا إسلاميًّا خالصًا، وإنما شاركت في صناعته مختلف القوى السياسية الوطنية، وأنها ستشعر أنه ملك لها جميعًا غُرمًا وغُنمًا، آلامًا وآمالًا، وأنها كما عصفت بالنظام البائد، يمكن أن تعصف بمن يتجاهلها أو يهمِّش دورَها ويقزمه، وإن لم تفعل ذلك بنفسها فقد تُدفع إلى ذلك من قِبَل أئمة الفتنة، الذين يقبعون وراء الستار، يوجهون المسار، ويقطفون الثمار.
ثانيًا: أن من يرث هذه التركة في هذه الأجواء إنما يرث أطلالًا وخرائب، وأن حجمَ الدمار الذي خلَّفه النظام البائد أكبرُ من أن تصفُه كلمات، أو أن تُتَرجمه عبارات، وأن هذه التركة ما لم تتوافر جميعُ الهمم على استصلاحها ماديًّا ومعنويًّا، فإن الفشلَ الذريع هو النتيجةُ المحتومة التي تُواجه كلَّ من ينفرد بالإبحار بهذه السفينة وَفق خارطته الخاصة، فلابد من التوافُق على مشترك من الصالح العام، تتوافر الهمم جميعًا على إقامته وإنجازه.
ثالثًا: أن لا يغيب عن ذاكرتي أن المغالبةَ على موقع الرئاسة كان قرارًا استثنائيًّا اقتضه ظروفٌ خاصة، وأن القرار المدروس الذي توافق عليه السواد الأعظم يومئذ هو عدمُ الدخول في هذا المعترك، والاكتفاء بمشاركة جزئية في إطار خدمي ودعوي وتربوي، وأن هذه الدواعي لا تزال قائمةً، وأن الرشد يقتضي الوقوف مع هذه الموقف، والتعامل مع المشهد برُمَّته من هذه الرؤية؛ إدارة حوار معهم حول خارطة طريق إسلامية.
رابعًا: أن لا يتملَّكُني شعورٌ موهومٌ بالقوة، يصرفني عن الروية والأناة في خطوات الإصلاح وبرامجه، فإن بلوغَ العمل الإسلامي إلى سُدَّة الحكم لا يعني إمساكَه بأزمة الأمور، ولا يعني أن الدولةَ بأكملها قد دانت له.
إن سقوط وزير الداخلية لا يعني سقوطَ أباطرة الداخلية وأجهزتها العميقة، وإن تسليمَ الجيش للقيادة لا يعني أن هذا الوضع قد بات موضع رضًا وقبولٍ من سائر القيادات العسكرية، وقُل مثلَ هذا في بقية الوزارات والمؤسسات العامة.
ومرة أخرى سأستصحب أن المشاركةَ الجزئية كانت هي الخيار الأول والأرشد، والذي تمَّت دراسته بعمق وروية، من قِبَل أهلِ الحلِّ والعقد في العمل الإسلامي، وأن الخروجَ عن ذلك كان قرارًا استثنائيًّا تعاملًا مع مقتضيات خاصة.
بعد استصحاب هذه المقدمات كنت سأستهلُّ مباشرتي لأمور القيادة بخطوتين رئيستين:
الأولى:
دعوة رموز العمل الإسلامي من مُختلف التوجهات للحوار حول خارطة طريق إسلامية، للاتفاق معهم على طبيعة المرحلة الراهنة ومقتضياتها، والتأكيد على أن الاستراتيجية الملائمة هي التوافق على خطوات إصلاح جزئية، والتعاون على برامج خدمية ودعوية وتربوية، تنشُد في الجملة تهيئة الأجواء لاستكمال تطبيق الشريعة، وتتألف قلوبَ الناس على العملِ الإسلامي رجالًا ومؤسسات وأفكارًا ومفاهيم، وأن أحقق مشاركتهم في هذا القدر مشاركةً عملية جادة، يستشعرون معها أنهم ليسوا مجردَ ديكور جيء به لاستكمال مسرحية الشورى الإسلامية، كما كان يُجاء بأحزاب المعارضة أيامَ النظام البائد لاستكمال مسرحية الديموقراطية العلمانية، وكنت سأتفق معهم على سياسة لإقناع المتعجِّلِين الذين يرون الإصلاحَ طفرةً، ولا يُطيقون التدرُّجَ والرويَّة، لإقناعهم وكف شُذوذاتهم عن المشهد الدعوي، وتشويهاتهم لرسالته في حسِّ العامة وأشباهِ العامة، وشغلهم ببرامج إصلاحية يستشعرون من خلالها مدى ضخامة الجهود التي ينبغي أن تُبذل لتوطين الإصلاح، ودعم الاستقرار المنشود.
وكنت سأسعى لإقناع حزبي ورجال دعوتي بأهمية هذه المشاركة من اليوم الأول، وأن القرار يجب أن يُدرس في هذا الإطار المشترك، وأن يُتَّخذ في هذا الإطار المشترك، وأن يستشعر هؤلاء جميعًا جديةَ مشاركتهم، وحيوية مناقشاتهم، وأنهم في هذا القدر الإسلامي المتفق على إنجازه شركاءُ حقيقيون، وصناع حقيقيون للسياسات والقرارات، وبهذا تتحقق اللُّحمة الإسلامية المنشودة.
الخطوة الثانية:
دعوة رموز العمل السياسي الوطني من مختلف التوجهات للحوار حول خارطة طريق وطنية، والاتفاق معهم على مشترك وطني عامٍّ يتلخص في إعادة الإعمار: إعمار الإنسان، وإعمار الوطن، والتصدي للفساد، وتوفير الأمن والكفاية لجميع شركاء الوطن.
كنت سأعلن بمِلء صوتي أن معركةَ الانتخابات قد انتهت، وبدأت معركة البناء، وهي مسئولية الجميع. كنت سأقول لهم بملء فمي: إن الحياةَ لبناءِ الوطن أشقُّ من الموت في سبيل تحريره، وإن فصيلًا واحدًا مهما اتسعت قواعدُه وتنوعت كوادرُه لا يتسنى له أن ينفردَ بقافلةِ الإصلاح، لأنَّ الأمر أكبر من أن يقوم بتبعاته حزبٌ أو كيان سياسي، بل لابد من تكاتُف عقول الجميع، وسواعد الجميع.
كنت سأفسح المجال لكل ذوي الكفايات ممن لم يتلوث بجرائم فساد كبرى، أو يتحمل مسئوليةَ قتل أو تعذيب- في المشاركة في بناء الوطن، خاصة من أثبتت الانتخابات أنه كان لهم حضورٌ جماهيري، وتتبعهم كتلٌ بشرية كبيرة، كنت لن أستعدِيَ «شفيق» مثلًا، وأُلجِأَه إلى الاستمساك بالبقاء خارج الوطن، بوضعه على قوائم الوصول والترقُّب، ليقود من مهجَرِه معركةَ البغي والعدوان، تدعمه مليارات القوم ونفوسهم الحاقنة.
كنت سأوجه له رسائل مستمرَّة، بأن وطنه يفتح ذراعيه لاستقباله، والمشاركة في بنائه، وأُعلن هذا في كل مناسبة، مهما تمنَّع أو أدبر، لأفوت على الحاقدين مآربهم، ولأوقفه أمام محكمة ضميره، وقُلْ مثلَ هذا في أمثال شفيق، وهم كثير.
كنت سأستقبل القيادات الدينية الرسمية: شيخ الأزهر وبابا الكنيسة، لأُعلن لهم أنهم شركاء في قيادة مسيرة التعمير، وأكفُّ عنهم بأسَ الذين يطالبون بمحاكمتهم أو استبدالهم، وأتَّفق معهم على أجندة إصلاح، يشاركون بها في بناء الوطن، ويتجاوبون من خلالها ولو جزئيًّا مع مطالب الإصلاحيين التي تُطالب بمحاكمتهم أو استبدالهم، فإن خَلْفَهم من الكتل البشرية التي لابد من إجادة خطابها، وكسب ولائها.
وفي خلال هذا كله كنت سأمتنع عن الارتجالية في الخطاب، وسأعهد لفريق من كبار الكتاب بصياغة خطاباتي صياغةً خاصَّةً، تخاطب العقول والعواطف معًا، وتتحول كلماتها ومضامينها إلى شعارات وأناشيد وطنية، يتداولها الناسُ في مجالسهم ومنتدياتهم ودواوين وظائفهم، ويرددها الطلابُ في جامعاتهم ومدارسهم، وتصبح أنشودةً عذبة على ألسنة الجميع.
كنت سأحرص على الحيوية السياسية، وأن أكون دائمًا مع الحدث، وأن لا تتأخر ردودُ أفعالي على نحوٍ يُثِير الريبة والدهشة لدى السواد الأعظم ممن حولي، من المؤيدين أو من المعارضين، فإن الصمتَ في المواقف الملتبسة من المسئول الأول يثير حنق كثيرين، ويستفز مشاعرَ كثيرين، ويجعل سبيلًا إلى عرضه، لاسيما في الأجواء الثورية الملتهبة والعاصفة، ولا شيءَ أقطعُ لدابر الفتن من التواصُلِ المباشر مع أطرافها، أو الحديث الصريح عن ملابساتها، وما يتعين اتخاذُه تجاهها، فلا يترك الناس في عماية، كالقافلة المكروبة تتخبط في مجاهل الأرض وخوادع السُّبل، لا تتبين نسمًا لطريق، ولا تتعرف وجهًا لغاية.
كنت سأعطي ملفَ العلاقة مع إيران، ومن وراء ذلك العلاقة مع الشيعة والتشيع- عنايةً أكبر، وأعطيه فرصةً أكبر للنضج من خلال تقليبه من مختلف أوجهه مع الساسة والخبراء، لتشابك المصالح والمفاسد في هذا الملف بصورة بالغة التعقيد.
أنا لا أشك في وفاء مرسي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفضه للمنهج الذي يتبنَّى تأبيدَ عداوتهم، وتصدير هذه العداوة إلى الأمة كلها على مدار القرون، ولا أُنازع في التفريق بين الموقف السياسي والموقف العقدي، في هذه القضية، وأنَّ لكل منهما فلكًا يدور فيه، ولكن بناء الموقف السياسي في ظل هذه الأمواج المتلاطمة كان يحتاج إلى رويَّةٍ أكثر، وإلى إنضاجٍ أكبر، وقد كان هذا الملف من بين الملفات التي استثارت عليه عداوةُ كثير من أهل الدين، بل ومن أهل الدنيا، داخليًّا وخارجيًّا. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
كنت سأكون أكثرَ تحفُّظًا في إعلان التقارُب مع التيارات الجهادية، التي لا تزال أرصدتُها الجهادية أو التكفيرية عالقةً في أذهان الأمة، ومختزنة في ذاكرتها، كنت سأتردَّد طويلًا قبل أن أعهد إلى بعضهم بحقائب وزارية، أو حقائب إدارية عُليا كالمحافظين مثلًا، لأننا في أجواء تتربص بنا، وتُحصي علينا حركاتِنا وسكناتنا، ولابد أن نُخاطب النَّاس في حدود الشرعية التي يعقلونها، وليس في حدود الشرعية التي لا يعقلها إلا قليلٌ منهم، حتى لا نكون لهم أو لبعضهم فتنةً، مع كامل التقدير لكل صاحب فضلٍ أو سابقة، ومع اليقين التامِّ بأن «التَّائِب مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ»(13). وأن التوبة تجبُّ ما قبلها(14).
لو كنت مكان مرسي إبان اشتعال الأزمة الأخيرة:
كنت سأُنَوِّعَ مصادر التقارير، ولا أعتمد على جهة واحدة تُصوِّر لي الأمور كما تهوى أن تكون، لا كما هي كائنة.
وكنت سأتعامل بمنطق الاحتياطِ وسدِّ الذرائع.
كنت لن أقبلَ بالتنويم المغناطيسي الذي يسيطر على بعض الناس عندما نبهتهم بعض الأزمات والكوارث؛ فيهربون من عالم الواقع إلى عالم المثال والخيال.
كنت سأبادر إلى اتخاذ بعض التدابير التي تخفِّف من الاحتقان، وتتجاوب مع بعض مطالب الثائرين في إبانها؛ لأن تأخير ذلك وصدوره بعد فوات الأوان يصبح كالعدم أو كإعلان الهزيمة.
وبهذا المناسبة أؤكد أنني كنت سأحرص على أن لا تأتي ردودُ أفعالي متأخرةً، بل أكون دائمًا مع الحدث وفي قلبه منذ اللحظة الأولى، فإنَّ أصحابَ البصائر يُبصرون الفتنَ عند إقبالها فيتوقونها، أما غيرهم فلا يُبصرونها إلا بعد إدبارها حيث تكون قد أحالتهم إلى أشلاء وشظايا.
وعندما بلغت الأزمةُ ذروتَها، وكانت المطالبة بتغيير الوزارة، وانضم إلى هذه المطالب فريق من الإسلاميين، وبات واضحًا للعيان أن مؤسسة الرئاسة باتت تفقِدُ ولاءَ الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، والدولةِ العميقة وكثيرٍ من الناس- كنت سأتجاوب مع مطلب تشكيل وزارة جديدة، وسأعهد بتشكيلها إلى رجلٍ يمثل اختياره قرارًا استراتيجيًّا لتهدئة هذه الأزمة، ونزع فتِيلها.
كنت سأعهد إلى الفريق السيسي نفسه مثلًا بتشكيل الوزارة، وقد كان حتى هذه اللحظة موضعَ ثقة مؤسسة الرئاسة وتقديرها، ولو فعل لنزع فتيل الأزمة، وفوَّت الفرصةَ على المتآمرين، وأبطلَ السحر، وقلبه على الساحر.
ولهذا نظير في الفقه، فإن الماوردي في «الأحكام السلطانية» يُقابل بين الأعلم والأشجع في عقد الولاية، فيقول: «إن كلًّا منهما يُقدم في وقته الذي يناسبه، ويمثل تفعيلًا لقدراته، فعند اشتعال الفتن والصيال يُقدَّم الأشجع، وعند انتشار البدع والمحدثات يقدم الأعلَم»(15).
كنت سأتخفف من ربقة التنظيم الذي لا يرى ما أرى، ولا يُكابد ما أُكابد؛ لا سيما وقد تحلَّلت منها من قبلُ شرعًا بالتقايل من البيعة، وأقلب الأمور مع المستشارين المتخصصين في شئون الدولة وقضايا الشأن العام، لنَصِلَ من خلال هذا التشاور إلى مرفَإ تستوي عليه سفينة الوطن المأزوم.
ولو كنت مكانَ الرئيس مرسي عندما اجتمعَ الاتحادُ العالمي لعلماء المسلمين في مصر لدعم الثورة السورية، وانتهوا إلى إعلانِ الجهاد، وتخللت ذلك تصريحاتٌ عنترية، حول تشكيل ألوية باسم اتحاد العلماء المسلمين للجهاد لتحرير سوريا وغيرها، كنت سأكون أكثر حذرًا واحتياطًا، وكنت سأناقش تصريحاتي كرئيس دولة مع فريق الأمن القومي في بلدي، وأصوغ الصياغة المناسبة التي يستوعبها الزمان والمكان، ولا يشعر رجالي في القوات المسلحة بالافتيات عليهم، وهم حدثاء عهد بتولي رجل مدني مقاليدَ الأمر فيهم، فإن هذا كلَّه كان على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وفي ظني أن هذا الاجتماع وما تخلله من تصريحات كان من بين الأسباب التي أجهضت الحلمَ الإسلامي في مصر.
وأخيرًا لو كنت مكانَ الرئيس مرسي بعد أن وصلَت الأزمةُ إلى الذروة، ووصلت مؤسسةُ الرئاسة فيها إلى طريقٍ مسدود، وأُمهِلَت المهلةَ الأخيرة التي بدا أنه لا رجعة عنها، كنت سأخرج على الناس بقرارٍ يستنقذ البقيةَ الباقية من الأمل المحترق والحلم الممزق، كنت سأُعِدُّ خطابًا تاريخيًّا، تُنتقى كلُّ كلمة فيه بعناية فائقة، لكي يمسَّ شغافَ قلوب هذه الأمة الحيرى؛ لأعلن لهم أنني لن أقبل أن تُراقَ بسببي قطرةُ دمٍ واحدة، ولن أقبل انقسامَ الوطن، ولن أستديم قيادتي لدولة تُعلن مؤسساتها عدمَ وفائها ببيعتها، وتقعد عن القيام بواجباتها الوطنية والدستورية، وتواجه قائدَها بمثل هذه التعنتات؛ ولهذا فإنني سأقبل الاحتكامَ إلى صناديق الانتخاب مرةً أخرى، وسأُجري انتخابات مبكرة، أو سأجري استفتاءً على ذلك، وسأقدم التحية والولاء لكلِّ من تفرزه هذه الانتخابات.
قد لا يكون هذا الاختيار هو الاختيار الأرشد، ولكنه في ظل هذه الأزمة كان سيكون أخفَّ الضررين، وأهون المفسدتين.
كنت سأسجِّل بهذا موقفًا تاريخيًّا لا تنساه الأجيال، كنت سأستعيد جزءًا كبيرًا من شعبية حزبي ودعوتي التي شيطنها الإعلام، واستطال في عرضها بكلِّ فجور وتوقح.
كنت سأحقن الدماء التي سالت فيما بعد أنهارًا.
كنت سأُبقِي على شرعية جماعتي ودعوتي، ولا حرج في أن تبدأ المشوار من جديد.
كنت سأُوفِّر على العمل الإسلامي ومؤسساته وأحزابه ودعوته هذه المطاردات التي تسوقها الآن إلى المحارق، وقد بات رجالها ما بين شهيدٍ وجريح وطريد. وإعلام الفتنة ورموزه يتغامزون ويضحكون!
وأذكر بما بدأت به؛ من أن دقةَ التحليلات والوصفات العلاجية إنما تكون بقدر دقَّة المعلومات المتاحة وشمولها، وقد يكون جميع ما ذكرته قد جرى مثله وأضعافه في الخفاء، ولم يُستجب له، لأن قرار الانقلاب كان قَد بُيِّت بليل، ويكون مرسى قد استفرغ وُسعه وبذل جهده، ولكن جرى عليه قدرُ الله، ومضت فيه سنتُه في ابتلاء أصحاب الدعوات وحملة الرسالات، ولكنها نفثاتٌ من صدر مكلوم، وقلب جريح، تكاثرت عليه النصال فمزقت أديمه،ولكنه لم يرَ بُدًّا من أن ينثر كنانته لأمته، لعلها تجد فيها شيئًا نافعًا، وهي تجيل العقل في هذا المشهد الدامي، وتستنطقه بما ذخر به من الدروس والعبر، وإن لم تستفد منه في هذا المشهد فقد تستفيدُ به في موقع آخر، فقد جمعتنا وحدةُ الجراحات ووحدة العذابات ووحدة التطلعات.
وبقيت كلمةٌ أخيرة أذكرها لله عز وجل  ثم للتاريخ:
بعيدًا عن كل ما سبق من التحليلات، وبعيدًا عن معايير خطأ الاجتهادات وصوابها: لقد ذهب مرسي ضحيَّةً لوفائه، وقربانًا لمبادئه، وما أندر أن يوجد مثل هذا الإخلاص! كما أنه ما أندر أن يجتمع الإخلاصُ والصَّوابُ!
ولو أراد مرسي الدنيا والحكم والجاه، لكانت أمامه منادح واسعة، للإبقاء على ذلك كله، فلو أدار ظهره لمبادئه، وغسل يده من حزبه ورجاله، ووضع يده في يد الانقلابيين، لانقلبت الأمور بالنسبة له رأسا على عقب؛ ولكنه آثرَ الوفاء والنبل فذهبَ ضحية له. وسيذكره التاريخ فيُنصفه يومًا من الدهر، وإن تنكَّر له في هذه الفترة العصيبة من تَنكَّر. والله غالب على أمره ولكن أكثرَ الناس لا يعلمون. والله تعالى أعلى وأعلم.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend