ضوابط جهاز أمن الدولة

ماذا يعادل جهاز أمن الدولة من الناحية الشرعية؟ وما ضوابطه؟ وجزاكم الله خيرًا.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن توزيع السلطات بين مؤسسات الدولة مِن مسائل السياسة الشرعية، وكل ما كان مِن هذا القبيل فإنه يدور في فَلَكِ الموازنة بين المصالح والمفاسد، وليس في ذلك حدٌّ معلومٌ لا يُزَاد عليه ولا يُنقَص منه، إن المحافظة على أمن الدولةِ مِن حركاتِ التمرُّدِ المسلَّحة والمحافظة على دين الأمةِ مِن تياراتِ الغلوِّ والزندقةِ- مِن المقاصدِ الجليةِ في بابِ السياسةِ الشرعية، التي لا ينبغي أن يُختَلَف فيها، ولا أن يُختَلَف عليها، ويَبقى النظرُ بعدَ ذلك في آليات تحقيقِ هذه الغايةِ بما لا يتضمَّن جَورًا على البلاد والعباد.
وإن الثوابت التي لا يجوزُ تجاوزُها حرمةُ الدماءِ والأموالِ والأعراض؛ فلا يجوزُ انتهاكُ حرمةِ الدماءِ أو الأموالِ أو الأعراض بدعوى المحافظةِ على الأمن؛ فإن دمَ المسلم أو المعاهَد حِمًى لله ورسوله، وقُلْ مثلَ ذلك في العِرض وفي المال؛ فلا يحلُّ شيءٌ مِن ذلك إلا بالحقِّ الذي شَرَعه الله ورسوله، وغنيٌّ عن الذِّكر أن العدل هو المقصودُ الكليُّ الذي مِن أجلِه أرسل الله رُسُلَه وأنزل كتبه، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25].
وينبني على ذلك تحريمُ التجسس؛ فإن الأصلَ في المسلمين البراءة، ولا يجوز للمسلم أن يتتبع عورات إخوانه لكشفِها وفضحِها، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ولَا تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات: 12].
وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ! فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْـحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ الله إِخْوَانًا»(1).
وعن ابن عمر رضي الله عنه  قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم  المنبر، فنادى بصوت رفيع فقال: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا الْـمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِـهِمْ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْـمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ، وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ»(2).
وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «الْـمُسْلِمُ أَخُو الْـمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(3).

ولا يُستثنَى مِن ذلك إلا إذا تعيَّن التجسسُ طريقًا إلى إنقاذِ نفسٍ مِن الهَلَكَةِ، أو عِرضٍ مِن الانتهاك، أو مصلحةٍ عليا من الخطر، كما لو قَوِيَت القرائنُ حولَ شخصٍ بعينه أنه يُفسِد على الناس دِينَهم وأخلاقَهم، كمَن يَستدرج النساءَ للفاحشة، أو مَن يحتال على الناس لانتهاب أموالهم، أو مَن يتخابر مع جهةٍ أجنبية يفشي إليها بعورات بلده، فهنا يشرع تتبعه؛ لتبرئته مما يُنسَب إليه إن كان بريئًا، أو لاستتابته مِن فعلِه وتحذيرِه منه قبل أن يستغرِق فيه إن كان في بادئ تورُّطه، أو لتقديمه إلى المحاكمة العادلة إن كان قد أتى بما يستوجِب ذلك وَفقَ القوانين الشرعية وما استُنبِطَ منها مِن النُّظُمِ المرعيَّةِ.
قال الحافظ ابن حجر: «ويستثنى من النهي عن التجسس: ما لو تعيَّن طريقًا إلى إنقاذِ نفسٍ من الهلاك مثلًا، كأن يُخبِر ثقةٌ بأنَّ فلانًا خلا بشخصٍ ليقتله ظُلمًا، أو بامرأةٍ ليزني بها؛ فيُشرَع في هذه الصورةِ التجسس والبحث عن ذلك؛ حذرًا مِن فواتِ استدراكه»(4).
وقال الإمام النووي: «وقال الماوردي: ليس للمحتسِب أن يبحث عما لم يَظهر مِن المحرَّمات، فإن غلب على الظن استسرارُ قومٍ بها لأمارةٍ وآثارٍ ظهرت فذلك ضربان:
أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاكِ حرمةٍ يفوت استدراكُها، مثلَ أن يخبرَه مَن يثق بصدقِه أن رجلًا خَلَا برجلٍ ليقتله، أو بامرأةٍ ليزني بها؛ فيجوز له في مثلِ هذا الحال أن يتجسس، ويُقدِم على الكشف والبحث؛ حذرًا مِن فواتِ ما لا يُستَدرَك، وكذا لو عرف ذلك غيرُ المحتسب مِن المتطوعة: جاز لهم الإقدامُ على الكشف والإنكار.
الضرب الثاني: ما قصُر عن هذه الرتبة، فلا يجوز التجسسُ عليه، ولا كشفُ الأستار عنه، فإن سَمِعَ أصواتَ الملاهي المنكَرَة مِن دارٍ أنكرها خارجَ الدار: لم يهجم عليها بالدخول؛ لأن المنكَر ظاهر، وليس عليه أن يكشف عن الباطن»(5).
ولا يخفى أنه ينبغي اللجوءُ إلى جهةٍ قضائيةٍ تقدِّر هذه الأمارات ومدى كفايتها لوضعِ هذا الشخص تحت المراقبة، فإن صدر الإذنُ القضائي بذلك أُجيز مِن المراقبة ما تندفع به الحاجة، فإنَّ ما أُبيح لحاجةٍ على خلافِ الأصل ينبغي أن يقدَّر بقدرها.
ومما ينبغي التأكيدُ عليه أنه ليس للحاكم مِن سبيلٍ إلى أحدٍ مِن الناس لمجرَّدِ اعتقادِه السياسي، اللهم إلا إذا بَلَغَ به اعتقادُه مبلغَ الرِّدَّة عن الإسلام، وإنما تُوكَل مهمة مجادلة المخالِف للسنة مِن أهلِ الزيغ والغلو إلى العلماء والحكماء، وقد قال علي بن أبي طالب للخوارج: «لكم علينا ثلاث: ألَّا نمنَعَكُم مساجدَ الله أن تذكروا فيها اسم الله، وألا نمنَعَكُم مِن الغنيمةِ والفيءِ ما دامت أيديكم مَعَنَا، وألا نبدأكم بقتالٍ ما لم تقطعوا السبيلَ وتسفكوا الدمَ الحرام»(6).
وقد ثبت بما لا يدع مجالًا للشك بشاعةُ المظالم التي تورَّط فيها هذا الجهازُ في ظِلِّ الأنظمةِ القمعيةِ المتعاقِبَةِ؛ فعلى عقلاءِ الأمةِ مِن ذَوِي الديانةِ والكفاية أن يعيدوا ترتيب أوراق هذا الجهاز، بما يمنع استطالته وطغيانه، وبما يُبقِيه في إطار المهمة التي أُنشئ مِن أجلِها، وهي المحافظة على الأمن العام، ومنع ما يؤدي إلى الإخلالِ به من الناحية السياسية، وذلك بتتبع الوقائع التي تمثِّل جرائمَ ماديةً، مما يمسُّ بأمن الدولة، وتقديم أصحابها إلى المحاكمة العادلة، أما إدارة الحوار الفكري والمنهجي مع هؤلاء فتتولاه هيئةُ الحِسبة، وهي هيئةٌ مستقلة، تتكون من فقهاءِ الأمة وحكمائها، ووسيلتها في أداء مهمتها هو الحوارُ والمجادلة بالحسنى، وما دامت القضيةُ لم تَعْدُ الدائرةَ الفكريةَ فلا علاقةَ للشرطة بها، وإنما هي قضيةُ جدلٍ وحوارٍ يُديرُه الفقهاءُ والحكماء والمثقَّفون، فإن خرجت عن هذا الإطار إلى أعمال ماديةٍ مخلَّة بالأمنِ فهنا يأتي دورُ هذا الجهاز أو غيره مِن أجهزةِ الشرطة المعنية بالأمن السياسي، فلا يأخذ العالِمُ دورَ الشرطي، ولا الشرطيُّ دورَ العالم.
وإنني على يقينٍ مِن أنه إذا اتجهت همةُ العلماءِ والخبراء إلى إعادةِ هيكلةِ هذه المؤسسة بما يحفظ العدلَ والأمنَ معًا سوف تتفتق قرائحهم عن صيغٍ وأساليبَ تَفِي بالغاية وتحقِّق الهدفَ المقصود إن شاء الله. والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل. والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــ

(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ حديث (6066)، ومسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها» حديث (2563).

(2) أخرجه الترمذي في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في تعظيم المؤمن» حديث (2032)، وذكره الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» حديث (2339) وقال: «حسن صحيح».

(3) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «المظالم والغصب» باب «لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه» حديث (2442)، ومسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «تحريم الظلم» حديث (2580).

(4) «فتح الباري» (10/482).

(5) «شرح النووي على صحيح مسلم» (2/26).

(6) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/562) حديث (37930)، والبيهقي في «الكبرى» (8/184) حديث (16540).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend