رسالة مفتوحة إلى الأحزاب الإسلامية

الواقع المرير الذي تشهده الساحة المصرية من هذا الاحتقان والتراشق بين معظم الأحزاب الإسلامية، والتي كنا نرجو باجتماعهما أن يشتَدَّ ساعدُ العمل الإسلامي ويصلب عوده؟ هل من كلمة ناصحة؟ أو محاولة جادة لرأب الصدع، وجمع الكلمة، وإصلاح ذات البين؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فهذه رسالة مفتوحة إلى الأحزاب الإسلامية التي تُشارك في العملية السياسية، وتشارك أهل الدِّين جميعًا أشواق المشروع الإسلامي، وتحمل معهم جميعًا هَمَّ السعي إلى تحكيم الشريعة وإقامة الدين.

ورسالتي إليها في هذا المقام باعتبار ما قدَّره الله لبعضها من وجودها في موقع المعارضة، ولو اختلف الأمر وكان أحدها في موقع السلطة لكان توجُّهي بنفس الرسالة إلى من سيكون يومئذ في المعارضة، أيًّا كانت اجتهاداته  المنهجية أو الفكرية.

والباعث إلى هذه الرسالة هو النصح للأمة، والقلق المشبوب على مستقبل العمل الإسلامي، في ظل هذا التجيُّش على أهل الدين، والتداعي لإسقاطهم وتشويههم، وفي ظل الاحتقانات الموجِعة بين كثير من الأحزاب الإسلامية التي تتقاسم  ثقة الناس وولاءهم، وبهم تناط الآمال بعد فضل الله عز وجل  في تحقيق الحلم الإسلامي الكبير، الذي تشوَّف إليه العمل الإسلامي عقودًا متطاولة من الزمن، ودفع في سبيل تحقيقه أرتالًا من الضحايا والشهداء، وقد واتت الفرصة لتحقيقه، وأبى الشيطانُ إلا أن يَجلِب بخَيلِه ورجله، تحريشًا بين المؤمنين، وتقطيعًا لأواصرهم، لكي يحرق هذا الأمل، ويبدد هذا الرجاء، ليُصبح مجردَ ذكرى موجعة وماض أسيف.

لا يخفى على المتابع للمشهد المصري حالةَ الاستقطاب الحادَّة التي تُسيطر على المشهد السياسي، حتى أوشك أن ينحازَ الناس فيه إلى فسطاطين: فسطاط للشريعة، وفسطاط للعلمانية، وقد كان هذا المعنى ملحوظًا من قبل، وقد سطرته أقلامُ غلاة العلمانيين مرارًا منذ الثمانينات، إلا أنه قد بلغ أشُدَّه وأوفى على الغاية عندما وصل فصيلٌ من الإسلاميين إلى سُدَّة الحكم، وبات غلاة العلمانية يُدافعون عن وجودهم، ويخوضون مع التيار الإسلامي معركةَ وجودٍ، ويشتبكون معه في حرب ضروس، يجلبون فيها بخيلهم

ورجلهم، ويدفعون فيها بكُل ما أوتوا من عتاد وعدة. وحسبك هذا التداعي إلى التمرُّد في نهاية هذا الشهر (شهر يونيو 2013 ) لإسقاط الرئاسة وتقويض الشرعية القائمة، وهي دعوة سبقتها دعوات مماثلة كثيرة، وفي كل مرة كان الله لهم بالمرصاد، وكان سبحانه وتعالى هو الذي يتولَّى نُصرة أوليائه، وقد انحاز إلى هذه الدعوة البائسة في هذه المرة السوادُ الأعظم من العلمانيين من جبهة الإنقاذ وغيرها، بل وكثير من منتسبي الطرق الصوفية، والله المستعان!

ويذكرني موقفهم هذا بما قصَّه الله جل وعلا من قصة نبيه صالح عليه السلام ، عندما تقاسم المفسدون في المدينة على تبييته وأهله، وكيف مكر الله بهم، وكانت العاقبة للتقوى ، كما قال تعالى في سورة النمل: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ولَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل: 48- 53]. ولله في خلقه شئون.

ولقد كان كثيرٌ من أهل الدِّين يظنُّون أن معركتهم الكبرى مع الطواغيت المتنفذين، والذين يملكون السيطرةَ على مقدرات القوة العسكرية والشرطية للأمة، ويسومون من خلالها أهل الدين سوء العذاب، وأن من سواهم لا يعبأُ بهم، فما هم إلا أتباع لمن غلب، ثم بدا لهم بعد ذلك أن هؤلاء ما كانوا إلا الذراع الباطشة لواقع بغيضٍ تجذر في عالم النُخبة، وتحول من خلالهم إلى فكر وثقافة، تشيد له مؤسسات، وتنتصر له أقلام، وترتفع له منابر، ويسوقه إعلام كاشح، ويدعمه خصوم الأمة في الداخل والخارج.

وتوصيف الواقع على هذا النحو لا يعني القبولَ به، كما لا يعني إقرار غلاة العلمانيين على ما يريدون أن يَجرُّوا الأمة إليه، فلم يزل هنالك عقلاء يتنادون إلى وحدة موقف، وإلى مشتركٍ وطني عامٍّ يلتقي عليه أبناءُ الوطن الواحد، على اختلاف أطيافهم، وعلى تنوع انتماءاتهم، ولنا في صحيفة المدينة(1) أسوة، وفي حلف الفضول(2) مثلٌ يُقتدى، وسابقة تُختذى.

ولا يخفى أن من حُسنِ التدبير في هذا الواقع النَّكِد أن يرتب أهل الدين أوراقهم، وأن لا يسمحوا لعارض من فتنة، أو طارئ من تنافس تنظيميٍّ أو حزبي أن يدمر وشائج الأخوة الإيمانية، أو أن يلبسهم شيعًا ويذيق بعضهم بأس بعض، فيشمتوا بهم أعداءهم، ويشفوا بهم صدور الشانئين والمتربصين. 

لا نريد أن تحترق الآمال، وتضيع الفرصة، ونبكي بعدها على الأطلال، ويصك أسماعنا ما صكَّ أسماع آخر ملوك بني الأحمر في الأندلس عندما أفلت عنها شمس الإسلام. وسمع في لحظات الغروب في وقت رحيله أمه عائشة الحرَّة وهي تقول له:

  • ابكِ مثلَ النِّسَاءِ ملكًا مُضاعًا
  • لم تحافظ عليه مثلَ الرجال

 

اسمحوا لي أن أقترب أكثر من مضمون هذه الرسالة ولبها، وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يشرح صدوركم لها، وأن تقع في نفوسكم موقعًا حسنًا، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وأنا أعلم أنه ليس لمثلي أن ينصح مثلكم، فأنتم أعلم وأحكم، ولكن رُبَّ كلمة تأتي من نكرة من النكرات يفتح الله بها أبوابًا من الخير، وإن ربي لطيف لما يشاء.

لقد أُجريت الانتخابات في مصر، وأفرزت نتائجها نجاحَ فصيل من فصائل العمل الإسلامي، وفوزه برئاسة الدولة وقيادة البلاد، ولغلاة لعلمانيين أن يتمرَّدُوا على هذا الاختيار كما يشاءون، وأن يجحدوا وجوده كما يريدون، فإن من تنكَّر لربه واستطال على حقه في التشريع والتحليل والتحريم لا يبعد عليه ولا يستكثر منه أن يستطيل على عباده، ومن تنكَّر لأمته فاستعدى عليها أمريكا والاتحاد الأوربي لا تستبعد منه أيَّ استطالة بعد ذلك، والشيء من معدنه لا يُستغرب! ولكن ماذا عن حملة الشريعة وحراسها؟ ماذا عن

أهل الدين، ورفقاء الجهاد والمعاناة الطويلة؟
الأصل البدهي أن يكون هناك التنسيقُ والتلاحم والتعاضد والتكامل، وأن نقدم معًا تجربة إسلامية موفقة، يتعلم الناس من خلالها في كل زمان ومكان أدبَ الدنيا والدين، ونتركها سيرةً باقية في عقبنا، يرى الناس من خلالها كيف تكون السياسة عندما يمارسها أهلُ الإيمان، ويقوم عليها الرُّكع السجود، ونبطل من خلالها ما يتداوله العلمانيون عن الميكافيلية والميكافيليين، والنفعية والنفعيين.

الأصل أن تكون السُّلطَة مضرب الأمثال في إرساء قيمة الشورى، والتخلي عن الأثرة، واستيعاب الآخرين والصبر عليهم، وتثمين جهود القاصي والداني، والكبير والصغير, وأن تكون المعارضة بدورها مضرب الأمثال في النصح للأمة وللأئمة، وفي الاستبسال عند الكريهة، والتعفف عند المغانم، وفي إحسان الظَّنِّ بتصرفات القيادة، والاستفصال عما أشكل عليها من مواقفها، وبذل النصيحة لها في ذلك، هكذا يعلم الإسلام أبناءه، حكامًا ومحكومين، حكومة ومعارضة.

فماذا كان؟! لقد تنزَّل بعض الناس من فضاءات الدعوة وعليائها، إلى لُجج السياسة وأوحالها، وكانت التجرِبة البرلمانية الأولى والتي تقابل فيها أهل الدين، وتقطعوا أمرهم بينهم زبرًا، وتترس كل فريق في خندقه، يرشق من خلاله الآخرين بما رآه أو توهمه من التهم والمناكر، وتسرب ذلك إلى عوامِّهم وأتباعهم، فتقطَّعت وشائج، وتمزَّقت أواصر، وتشرذمت كيانات دعوية ظلت عقودًا من الزمن مؤتلفة، تجمعها رفقة الطريق، ووحدة المعاناة، لم تمزقها فتنة الضراء، ولكن مزقتها للأسف فتنة السراء، فلله أرحام قطعت! ووشائج تمزقت!

وأخوة هتكت! وعلائق تلاشت واحترقت! وطفا على السطح عدد من القضايا الخلافية التي استثمرت في أتون هذه الفتنة، فأغرت بالمزيد من العداوة والبغضاء، وكان منها على سبيل المثال: قضية الاستحواذ والأثرة، أو ما عبر عنه بالأخونة،

وقضية الانفتاح على إيران، وقضية قرض البنك الدولي، وقضية التواصل مع جبهة الإنقاذ، وقضية الانفلات السياسي والأمني، وقضية المستشار خالد علم الدين ونحوه.

ثم واكب ذلك حديثٌ من بعضهم عن طبيعة ولاية رئاسة الدولة، وأنها ليست ولاية شرعية، وتشبيه العلاقة مع رئاسة الدولة المعاصرة بالعلاقة مع الرئاسة السابقة، وتصريحات نسبت إلى بعض القيادات السلفية عن ندمها على التصويت للرئيس مرسي، وأنها لو استقبلت من أمرها ما استدبرت لصوتت للفريق شفيق.

بطبيعة الحال ليس مطلوبًا من الأحزاب الإسلامية ولا من غيرها أن تؤمِّن على كل تصرفات الرئاسة، ولا أن تُنشد قصائد المديح والغزل في نهجها السياسي، فوظيفتها السياسية تقتضي النقد البناء الذي يبني ولا يهدم، ويصلح ولا يفسد، التي تقول للمسيء أسأت كما تقول للمحسن أحسنت، وواجبها الديني يحتِّم عليها أن تمارس الحسبة بضوابطها الشرعية، التي تنشد استصلاح أحوال البلاد والعباد بما لا يؤدي إلى مفسدة أعظم، ورحم الله الفاروق القائل: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها، على ما في إسناد هذه القصة من المقال.

ولكن الذي نتحدث عنه من الاحتساب والنقد البناء والنصح الواجب لا يلغي أبدًا حقيقة الخندق الواحد، والجسد الواحد، والأمة الواحدة، ولا يعني أبدًا أن ننزع يدًا من طاعة، ولا يتضمن أبدًا في مفرداته المشروعة أن يراغم كل منا الآخر، مضارة له وتشتيتًا لسعيه، أو أن يستبدل تنسيقه مع بعض القوى العلمانية أو تقاربه مع بعضهم بتنسيقه أو تقاربه مع إخوانه وشركاء طريقه، فإن مثل هذا لا ينبغي أن يكون إلا عن رِضًا وتشاور مع جماعة المسلمين، ونحن بهذا لا ندعو إلى فرض وصاية على أحد، ولا

نمنع من التفاهم والتنسيق مع أي أحد، ممن يرجى من وراء التنسيق معه الخير للأمة كائنًا من كان، بل ندعو إليه ونؤكد عليه، ولكن على أن يكون ذلك عن تراضٍ من المؤمنين وتشاورٍ بينهم.

إن لرئاسة الدولة القائمة نصيبًا من الولاية الشرعية لا محالة، وإن إلغاء ولايتها الشرعية بالكلية انتحار سياسي، وخطيئة شرعية، وغدًا سيرفع نفس السلاح في وجوه من يرفعونه اليوم، والأيام دول. 

ومن ظنَّ أن له في غير شركاء دربه ورفقاء مسيرته بدائلَ فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقد عاند الشرعَ والواقع والتاريخ، فما هش هؤلاء الغلاة لفريق منا إلا نكاية في بقية خصومهم من أهل الدين، وليتخذوا منهم ورقةَ توت يسترون بها عورتهم، ويجملون بها قُبحَهم، حتى إذا قضوا وطرهم، وردت لهم الكرة على خصومهم، فلن يرقبوا في أحدٍ من أهل الدين إلًّا ولا ذمة، ومن وعى درسَ التاريخ والحاضر يدرك هذا المعنى، ورحم الله المعتمد بن عباد القائل: إن رعي الجمال خيرٌ من رعي الخنازير(3).

أي أن يكون مأكولًا ليوسف بن تاشفين أسيرًا يرعى جِمَاله في الصحراء، خير من كونه ممزَّقًا للألفونسو أسيرًا له يرعى خنازيره في قشتالة. وما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه(4).

فقه الفتن:

لقد وقعت بقدر الله أحداثٌ مريرة من الفتن بين أكرم جيل مشى على أرض الله عز وجل ، بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما مضت هذه الأحداث الأسيفة في قدر الله لكي تكون مجردَ تاريخ، ولا لتكون مجرد أحاديث يسمر بها السامرون، بل ليكون فيها وإلى الأبد دروس وعظات لكل من يتبعون رسول الله في المشارق والمغارب، ولقد فقه علماء السنة عبر القرون دروس هذه الفتن، وضمنونها في عقائدهم، وأصبحت أصولًا منهجية تتوارث عبر التاريخ، ويرويها الخلف عن السلف، وأحبابنا في هذه الأحزاب كانوا من أسبق الناس إلى إشاعتها، وموعظة الناس بها، ودروسهم فيها على الشبكة العنكبوتية لا يكادُ يحصيها العدُّ، فما بالنا إذا وُضعِنا على المحَكِّ، وجاءت اللحظة التاريخية الفارقة التي كان ينبغي أن تعصِمنا هذه الأصول فيها من الزلل؟! تضطرب منا الخُطى، وتتخبط المواقف، وتتباين التصريحات.

أما كان لنا في هذه الفتن فقهٌ نستوعبه، وعِبَر نَعِيها، ونتمثلها خُلقًا وسلوكًا، وواقعًا معيشًا، حتى لا نقع فيما كنا ننهى الناس عنه، و نحذرهم منه، ولا تخذلنا بدائع العِبَر التي كنا نُمتِّع أسماع العامة بها ونحن الآن أحوج ما نكون إليها.

ألم يك يُؤخذ على كثير من الأحزاب الإسلامية بمختلف تجلياتها إلى عهد غير بعيد تشدُّدَهم في عدم الخروج على الحاكم درءًا للفتنة؟! وينسبون من خالف ذلك المنهج إلى الخوارج أو المعتزلة، فما بالنا اليوم نتابع تصرفات بعضنا على مراغمة السلطان القائم على الأمر، على الرغم من حمله للمشروع الإسلامي، وعلى ما احتفَّ بتوليته من ظروف نكِدة، وأرض محروقة، وآبار مسممة، تقتضي مزيدًا من المؤازرة والنصرة، وهذه المراغمة إن لم يكن بالخروج عليه مباشرة فربما بالعون على ذلك، من حيث لا يقصدون أو لا يعلمون،  فهل تأخذ مساحة الحرية المتاحة بالألباب؟! وتحرفنا عن جادة الصواب؟!

ألسنا نعلم جميعًا أن القوة في الاعتصام بحبل الله جميعًا وعدم التفرق؟! وأن  الفشل وذهاب الريح في التنازع وفساد ذات البين؟! ألسنا نُدرك جميعًا أن ذلك سنة من سنن الله الجارية في هذا الكون، وأنه كما قال تعالى: (﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر: 43]؟!

أنظن أن الله سيبدل سننه ويحولها من أجلنا؟!
أنظنُّ أننا أكرم على الله من أصحاب نبيه الذين عاجلتهم سنته الماضية يوم أُحُد بسبب فشلهم وتنازعهم في الأمر ومعصيتهم للرسول من بعد ما أراهم الله ما يحبون؟! كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152].

  • ماذا التقاطع في الإسلام بينكم
  • وأنـتـم يـا عـباد الله إخـوان؟!

 

  • ألم يأتنا نبأُ القرون الأولى؟
  • ألم يأتنا نبأ من أهل أندلس

 

فقد مضى بحديث القوم ركبان؟!(5)

لماذا لم يع قومي دروس التاريخ؟! وقد مضت سنة الأولين، وقد خلت من قبلهم المثلات؟! أليس السعيدُ من وُعِظ بغيره لا من وعظ بنفسه؟!

والآن تعالوا بنا نُلقي نظرة سريعة على مواضع الخصومة لنرى ما إذا كان شيء منها يصلح لهذا التدابر والتباغض، والسير في هذا الطريق المفقر الموحش الكئيب.

أولًا: رئاسة الدولة والولاية الشرعية:
لا يزعم أحدٌ أن الولاية الراهنة في مصر هي ولاية الخلافة، ولا أن القائم عليها هو خليفة المسلمين، فلا زعم ذلك لنفسه، ولا زعمه له أحد من شيعته وحزبه، فلا وجه لاستدعاء أحكام الإمامة العظمي والمقارنة بينها وبين هذه الولاية، وإظهار تقاصر إحداهما عن الأخرى.

ولهذا فإنه لا يصلح شرعًا ولا يجمل سياسة نزع جميع أحكام الإمارة الشرعية عن هذه الولاية، والتسوية بين مبدأ العلاقة بها والعلاقة بولاية سائر طواغيت الأرض على شعوبهم، سواء أكانوا من المسلمين أم من غير المسلمين، وإنما العدلُ في هذا أن يقال: هذه ولاية شرعية قطرية أو جزئية، تُنشئ للقائم عليها حقَّ الطاعة والنصرة، فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة، أي في حدود الضوابط الشرعية التي رسمتها الشريعة في باب الولاية، وفي حدود العقد الذي بويع على أساسه من ناحية أخرى.

وليس في تأصيل كونِها ولايةً شرعية خطَرٌ على معارض، أو انتقاص من حُرِّية، أو تكريسٌ لقهر أو استبداد، فقد بُويع على دستور أتاحَ لعموم الناس الحقُّ في الاحتساب، والتجمُّع، وتكوين الجمعيات، وتأسيس الأحزاب، والتظاهرات السِّلمية التي تنأى عن التخريب والعنف. فما الذي نتطلَّع إلى الحرص على تأمينه من الحقوق أكثر مما نُصَّ عليه؟! وما الذي نحذره من المعوقات حتى نُبادر إلى الاحتياط لدفعه من خلال إثارة هذه القضية؟!

إن المحذور الأكبر في ظلِّ الولاية الراهنة هو التآمر والخيانة، والانقلاب على الشرعية بالبلطجة والتشبيح، وهو أمر لا تُقِرُّه شريعة سماوية، ولا دساتير وضعية، وقد برَّأ الله أهل الدِّين جميعا من ذلك، فلا يتصوَّر منهم شيء من ذلك، بل لا يخطر ابتداء على قلوبهم، ولا يستبيح هذا إلا من لا خَلاقَ له من الفلول والبلطجية والشبيحة.

أما تسويةُ بعضنا بين عقد مرسي وعقد مبارك فهو مما يحتاج إلى مراجعة جذرية، فولاية مبارك كانت ولايةً منعدمة، فقد عقدت على تحكيم القوانين الوضعية، والفصل بين الدين والدولة، وولاية مرسي عقدت على تحكيم الشريعة، ونصرة المشروع الإسلامي، الذي حمله برنامجه الانتخابي واختير على أساسه، فافترق العقدان، وتباين السبيلان.

ثم ماذا يُراد بإثارة هذا كله، وهو لا يُفضي إلا إلى إضعاف علاقة أهل الدين بقيادتهم السياسية، في الوقت الذي تكثُر فيه السهام على مؤسسة الرئاسة، ويتداعى إلى حربها كثيرون، ممن لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة.

ثانيًا: الأثرة أو الأخونة:
والأثرة هي استئثار صاحب الشيء به عليك، وحوزِه لنفسه دونك، وما كان ينبغي للرئاسة- إن صح هذا الأمر- أن تفعل ذلك، وقد كان الأنجح لسعيها، والأرضَى لربها أن تُشرك الأكْفَاء من إخوانها وغيرهم في قيادة المسيرة إشراكًا حقيقيًّا، وليس مجردَ مناورات سياسية ذُرًا للرماد في العيون، فإن هذا هو السبيل إلى استلالِ السَّخائِم، وذهاب الإِحَن، وترسيخ التراحم والتعاضُدِ، لا ينبغي أن يختلف في ذلك، ولا أن يختلف عليه.

ولقد كتبنا في هذا المعنى من قبل، وذكرنا أن الأحزاب الإسلامية والفصائل الدعوية تتدين في الجملة بعدم شرعيَّةِ الانقلاب على أولي الأمر من المسلمين، ممن يُعلنون التزامهم بالإسلام، وإيمانهم بمرجعية الشريعة، وكل ما يرى منها من تجاذبات ومدافعات فهو في إطار النصيحة، والحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا جدَّ الجِدُّ وحُزِّب الأمر سيكونون حول الرئاسة جنودًا بواسل، وسيقولون جميعًا لمؤسسة الرئاسة ما قاله أبو طلحة للنبي ﷺ يوم أحد: نحري دون نحرك(6). فهم العدة في الـمُلمَّات، وهم الردء إذا خان الحلفاء، وتنكر الأخلاء.

ومن وعى درس الحاضر يُدرك هذه الحقيقة، لقد خرجت جموعُ الفلول والغاضبين والثائرين وتقاسموا على هدف واحد، وهو إسقاط الشرعية واقتحام مقرِّ الرئاسة، إن مثل هذا لم يكن ولن يكون أبدًا إن شاء الله من قِبَلِ أحدٍ من أهل الدين، بل على النقيض من ذلك، كانوا يقولون: الدم الدم والهدم الهدم. وما خبر حازم أبو إسماعيل يوم مدينة الإعلام ببعيد!

وإذا كان ذلك كذلك فينبغي أن يكون لهم من الصبر عليهم وخصوصية الصلة بهم ما ليس لغيرهم، وأن لا تسمح مؤسسة الرئاسة لموقف عابر أو لوشاية مغرضة أن تزلزل رصيد الثقة ووشيجة القربى التي تربطها بهؤلاء، وقد تمهَّد أنه يغتفر لذوي الهيئات ما ليس لغيرهم، وأن من الناس من يُوهَب نقصه لفضلِه، وقد جاء في الحديث: «لَعَلَّ اللهَ عز و جل  اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»(7).

وأكدنا أننا لا نتحدث عن مجرد ترضيات سياسية، بل نتحدث عن مشاركة حقيقية، والأحزاب الإسلامية لديها من الفطنة ما يكفي للتفريقِ بين المشاركة الحقيقية، والترضية السياسية. 

إن الترضيةَ قد تصلُح مع بعض المخالفين من لا أرب لهم في سعيهم إلا الحظوظُ العاجلة والمغانم القريبة، أما حملة الرسالات وأهل الدين الحق، فإنهم ينتظرون أن يكونوا أكثرَ خصوصية من ذلك، وأولى بمزيد من الولاء والقرب والثقة من ذلك.

إن هذه المشاركة هي التي تبني رصيدَ الثقة، وتردم الفجوةَ المفتعلة بينهم وبين إخوانهم ورفقاء دربهم وشركاء جهادهم، وتعبُر بالعلاقة بهم أزمات نفسية تراكمت عبر مراحل بائسة من التنافس والاحتقانات السياسية.

إن قضية المشاركة ينبغي أن تكون قرارًا تعزم عليه مؤسسة الرئاسة، وقد تجدُ عُسرًا في إقناع بعض شباب الحزب أو بعض قياداته الشابة به، ولكنها ينبغي أن تصرَّ عليه، وأن تقنع به، وأن تلتمس من يعينها على ذلك من داخل الحزب وخارجه، ثم أن تلزم به في نهاية المطاف.

لابد أن تقول لشبابها: إن إدارة دولة يختلف عن إدارة تنظيم ظلَّ محجوبًا عن الشرعية طوال سنوات القهر العجاف، مهما بلغت امتداداته وتنوعت كفاءاته، وإن ميراث الفساد الذي خلَّفه النظام الغابر أكبر من أن يقوم له فصيلٌ واحد من الأمة، وإن من الأمانة أن نُعلن ذلك، وأن لا تحملنا العزَّة بالإثم على إخفائه، وأن نُشرك كل من يريد وجه الله عز و جل  ويؤمن بالمشروع الإسلامي في هذا المعترك، معترك الحياة في سبيل الله، وهو أشقُّ من معترك الموت في سبيل الله، لا تبرأ الذمة إلا بذلك، ولا ينجح السعي إلا بذلك.

إن خيار المشاركة خيارٌ محتوم، ولا بديل منه شرعًا وقدرًا إلا الفشل وذهاب الريح، وصدق الله العظيم: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا﴾ [الأنفال: 46].

وقد يكون من المناسب أن تنشأ هيئةٌ تابعة لمؤسسة الرئاسة، ترعى هذا الملف وتقوم عليه، وينتدب لعضويتها بعض المقدمين في هذه الأحزاب، وذلك لتنسيق الشراكة، ومنع أي احتقان عارضٍ قد تُنشئه بعض شوارد الأقوال أو الأفعال أو المواقف، ويكون صمامَ أمان يحُول دون الانتكاسات المفاجئة، وقد بلغنا أن هذه الهيئة كانت موجودة من قبل، ولكن تضاءل دورها وتراجع، حتى أصبح أثرًا بعد عَيْن. وقد كان ذلك سببًا من أسباب الاحتقان لما أُشيع يومها من أن الاهتمام بها كان في زمن حاجة الإخوان إليها، فلما فاز مرشحهم في الانتخابات الرئاسية، تجاهلوا شركاء الأمس وقطعوا خطوط التواصل معهم.

وأيًّا كانت الحقيقة أو الدعوى في ذلك فينبغي أن تستعيد هذه الهيئة عافيتَها، وأن تكون مَوْئلًا عند تشابك الأمور وتداخلها.

ولكنَّ ضعفَ هذا الأمر، أو حتى غيابه، لا يعني التحلُّل من واجب الالتزام بالجماعة، والمحافظة على الشرعية، فقد بايع النبي ﷺ أصحابه على مثل هذه الأثرة، والأثرة كما سبق هي استئثار صاحب الشيء به عليك، وحوزه لنفسه دونك، ففي حديث عبادة بن الصامت t قال : بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة، في عسرنا، ويسرنا، ومنشطِنا، ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله(8).

فالسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره: لهم معه ومع الأئمة بعده، والأثرة: عدم منازعة الأمر مع الأئمة بعده خاصة، فإنه ﷺ لم يستأثر عليهم، والأثرة يُحمد عليها المستأثر عليه إذا كانت طوعًا، مثل أن يقدر على منازعته ومجاذبته، فلا يفعل، ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه : أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا». قالوا: يا رسول الله، فما تأمرُنا؟ قال: «تُؤَدُّونَ الْـحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ». وفي «صحيح مسلم» عن وائل بن حُجْر رضي الله عنه  قال: سأل سلمةً بن يزيد الجُعْفيُّ رسول الله  فقال: يا رسول الله إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم، ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله، فأعرض، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث ابن قيس فقال رسول الله : «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ»(9).

لن تبلغ الولاية القائمة مبلغَ ولاية أئمة الجَوْر، وقد علمنا موقف العلماء الأثبات من مثل هذه الولاية، وكيف نقلوا حديثهم عن ذلك من باب الفقه إلى باب العقائد، وكيف حموا بذلك الأمة من غوائل الفتن على مدار القرون، وقد تمهَّد في قواعد الشريعة أنه يجاهد مع المقصِّر من هو أشد منه تقصيرًا، ومع المبتدع من هو أشدُّ منه ابتداعًا، ومع الظالم من هو أشدُّ منه ظلمًا.

أيظن أحبابي أنهم إذا تحالفوا مع بعض الفلول وغلاة العلمانيين، واتخذوا منهم بطانة من دون المؤمنين الصادقين، أنهم سيكونون أوفَى لهم من القيادة الإسلامية الراهنة؟! أو أحفظ لعهدهم منها؟! إن لم يقرأوا القرآن، ألم يقرأوا التاريخ، ويعتبروا بدروسه؟!

ثالثا: أزمة الانفلات السياسي والأمني والإعلامي:
لا يخفى على كل متابعٍ للشأن المصري أزمة الانفلات السياسي والأمني والإعلامي، التي يكاد يغرق الشارع المصري في فيضاناتها، ولعلَّ من التسطيح للأمور أن يقال: لم لا يستأسد الرئيس مرسي ويضرب بيد من حديد؟! فإن الله يزعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن(10)؟! ومن لم تجذبه لطائفُ الإحسان قادته سلاسلُ الفتنة والامتحان، فإن من يقول مثل ذلك القول قد يكون غافلًا عن تعقيدات المشهد المصري، وما جدَّ فيه من روح ثورية، ومن تكتُّلات سياسية وغير سياسية، تجعل اللجوء إلى مثل هذا النوع من العلاج مجازفة كبرى، تحتاج إلى حسابات في غاية العمق والدقة والتعقيد، ينبغي أن تترك لأهلها ممن تتوافر لديهم المعلومات الكافية للتعامل مع مثل هذا القرار. 

ولكن الذي لا يحتاج إلى كل هذه الحسابات والدراسات هو الحيوية الإعلامية من جانب مؤسسة الرئاسة، وإعطاء المشهد الإعلامي حقَّه من المتابعة والمبادرة لمواجهة الشبهة بالحجة، والشائعة بالبرهان والدليل الذي يدحضها، ويكشف بهتان أصحابها.

إننا نتفهم سياسة الصبر، ولكننا لا نتفهم سياسة الصمت، الذي تخلو فيه الساحة للمنافقين والذين في قلوبهم ومرض والمرجفين في المدينة.

إن من يرجع إلى سير أنبياء الله يجدهم يردُّونَ أحاديث الإفك التي يروِّج لها الأفاكون، أو يتولى الله  عز و جل  الدفعَ عنهم فيما أنزله عليهم من كتاب، ولا يترك الناس نهبًا لأراجيف الـمُبطِلين وأكاذيب الفاتنين.

إن الذي يتقاول به دعاة الضلالة في أبواق الفضائيات تجاوز مرحلة الكذب والبهتان، إلى مرحلة الفجور والبلطجة والتشبيح، فلماذا الصمتُ المريب الذي يجعلهم يفتكون بالعقول والمشاعر؟! ويغتالون مسلَّمات الحق والقسط؟!

لقد دعا نبي الله نوح قومه إلى عبادة الله وحدَه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 59]. فرَمَوْه بالضلالِ المبين، ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [الأعراف: 60]، فلم يستفزَّه هذا التطاول، ولم يُخرجه عن صبره وحلمه، لكنه ردَّ التهمة عن نفسه بهدوء، ﴿قَالَ يَا قَوْم لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 61- 62].

ولقد دعا نبيُّ الله هود قومَه إلى عبادة الله وحده وإلى تقواه ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ [الأعراف: 65]، فرموه بالسفاهة، واتهموه بالكذب، ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [الأعراف: 66]، فلم يستفزه هذا التَّطاوُل، ولم يُخرجه عن صبره وحلمه، لكنه ردَّ التهمة عن نفسه بهدوء، ﴿قَالَ يَا قَوْم لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) [الأعراف: 67-68].

وعندما اتَّهم المشركون نبيَّ الله صالحًا بالكذب فقالوا: ﴿أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ [القمر: 25]، تولى الله جل وعلا ردَّ هذه الفِرية، فقال تعالى: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ﴾ [القمر:26].

وعندما اتهم المشركون النبي صلى الله عليه سلم بالجنون، تولى الله جل وعلا الردَّ عليهم، فقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ [المؤمنون: 70].

إن شعبنا عاطفي بطبعه، تأسِرُه الكلمة، وتُغيِّر اتجاهَه إذا أُحسِن توظيفُها. وإن حُسنَ صياغة الكلمة وإجادةَ انتقائها وتوظيفها كان وراء الكاريزيما الهائلة التي تمتَّع بها عبد الناصر، ومن وراء ذلك «هِيكل» كما هو معلوم، فسارت الأمة خلفَه بلا عقول. ونحن لا نريد أن تُستخدم الكلمة في تغييب الوعي أو تزييفه، معاذ الله! بل في فتح مغاليقِ القلوب للحق، وتألُّفها على طاعة الله عز و جل ، وفي دحضِ شبهات خصوم الشريعة وأباطيلهم، كما كانت بلاغةُ القرآن وجهًا من وجوه إعجازه، وآيةً على عصمته وكونه منزلًا من

عند الله، وسبيلًا إلى فتح مغاليق القلوب لبياناتِه ومواعظه.
وعلى هذا فإنه ينبغي أن يكونَ لمؤسسة الرئاسة فريقٌ من المتخصصين في صياغة الخطاب الإعلامي المناسب، الذي يتَّسمُ بالهدوء والعُمق والشفافية، وهي تملك من الأدوات والمعلومات والرجالات ما يُعينها

على أداء هذه المهمة بكفاءة عالية، إن لديها أصحاب أقلام سيَّالة، نذكر منهم الأساتذة: محمد عمارة، ومحمد سليم العوا، وفهمي هويدي، مع التحفظ على ما عُرِف به بعضهم من ميول سياسية شيعية، وغيرهم كثير، ممن يمكن استثمار طاقاتهم ألسنةً وأقلامًا في هذا الصدد، بما يقطع دابرَ الشبهات، أو على الأقل يُحدِث توازنًا في الخطاب الإعلامي، فلا تترك الأمة نهبًا لهذا الخطاب الإعلامي الأثيم، سيما في ظل هذه الأجواء المشحونة بالاحتقانات ضدَّ الدين والمتدينين، وفي ظلِّ تنمر غلاة العلمانية وبقايا الفلول، وقد

تقاسموا ليبيتنه وأهله.
وأحسب أن هذا الأمرَ قد بدأ في التحسُّن، ونحن من جانبنا نحيِّي ذلك ونطالب بالمزيد.

رابعا: تساؤلات حول التأخر في ردود الأفعال والتردد في صناعة القرار:
ينتظر الناس من مؤسسة الرئاسة مزيدًا من المبادرة والحيوية في التعامل مع المشهد السياسي، ويسوءهم في كثير من الأحيان التأخُّر في ردود الأفعال والتردُّد في صناعة القرار، الأمر الذي ينال من هيبة الرئاسة ويجعل سبيلًا إلى عِرض القائمين عليها، ورحم الله القائل:

  • إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
  •  فإن فسادَ الرأي أن تترَدَّدا(11)

 

إن تأخُّر التعامل مع بعض المواقف، وكثرة الرجوع عن بعض القرارات بعد إصدارها تعكس في حسِّ المتابع خللًا في الآلية، وضعفًا في المهنِيَّة، وفوضى في الأداء، وما نحبُّ لمؤسسة الرئاسة في هذا الوقت العصيب أن تظهر بهذا المظهر، ومؤسسة الرئاسة وحدها هي التي تعرف كيف تعالج هذا القصور، باستكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء، فيما يفوض إليهم من الأعمال، ويوكل إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة، وكيف تكون عند ظن المحبين لها والغيورين على أدائها

وعرضها؟!
ومهما كثر القول أو العتب في هذا الجانب، فهو لا يدعو إلَّا إلى مزيد من التقارب والتلاحم، لإسداء النصح ورتق الفتق، ورأب الصدع، والإعانة على الكريهة، وليس التباعد والمجافاة، وتعجبني هذه الكلمات، وهي لشاعر غير مسلم، ولكن الحكمة ضالة المسلم.

إني إذا نزل البلاء بصاحبي

  • دافعت عنه بناجذي وبمِخْلَبي
  • وشددت ساعدَه الضعيف بساعدي

 

 

 

  • وسترت منكبَه العرِيَّ بمنكبي
  • وأرى مساوِءَه كأني لا أرى
  • وأرى محاسنه وإن لم تُكتَبِ
  • وألوم نفسي قبله إن أخطَأَت

 

 

وإذا أساء إليَّ لم أتعتَّبِ(12)

رابعًا: الانفتاح على إيران:
ينبغي التفريقُ عند الحديث عن العلاقة مع إيران الشيعية بين الإطار الديني أو الدعوي لهذه العلاقة، والإطار الدنيوي أو السياسي لها، فلكلٍّ منهما قواعد تحكمه، وآليات تضبطه، ومقالات لأهل العلم تتنزَّل عليه، وقد يؤدي الخلط بينهما إلى ضبابية في الرؤية، وعُسر في تفهُّم كثير من البدهيات والأبجديات.

أولًا: حول الإطار الديني:
تحكم العلاقة في هذا الإطار جملة من القواعد نسوقها فيما يلي:
الأولى: حول عقائد الشيعة، وكونهم أبعد فرق أهل القبلة عن الحق:
الشيعة ليسوا سواء، فهم فِرَق كثيرة، ولكن غالب الشيعة اليوم وأكثرهم وجودًا وتأثيرًا في واقعنا المعاصر هم الشيعة الإمامية الإثنا عشرية، ويطلق عليهم الرافضة، وقد سموا بذلك لأنهم رفضوا أبا بكر وعمر، ونازعوا في ولايتهم، وأحقيتهم بالخلافة، أو لأنهم رفضوا زيد بن علي زين العابدين، عندما دعا إلى الخروج على الدولة الأموية، وامتحنه أصحابه وقالوا له: لا نتبعك إلا إذا كفرت أبا بكر وعمر. فقال: كيف أكفرهما وهما وزيرا جدي؟! فقالوا لزيد بن علي: إذًا نرفضك، فقال: رفضتموني؟!(13) فسموا

الرافضة.
وهذه الفرقة هم من أكثر فرق أهل القبلة بُعدًا عن الحق، وأضلهم معتقدًا ومنهجًا، ففي منهجهم من التناقض والاضطراب، وفي تاريخهم من العداوة لأهل الملة، ومظاهرة أعدائهم عليهم ما يتحيَّر معه الناظر ويدهش له المتأمِّل، وما ابتلي المسلمون بعدوٍّ كافرٍ إلا كانوا معه على المسلمين. ولا تنسى ذاكرةُ الأيام والليالي ما جرى لجنكيزخان ملك التتار، فإن الرافضة أعانته على المسلمين، وأما إعانتهم لهولاكو ابن ابنه لـمَّا جاء إلى خراسان والعراق والشام فهذا أظهر وأشهر من أن يخفَى على أحد، فكانوا بالعراق وخراسان من أعظم أنصارِه ظاهرًا وباطنًا، وكان وزير الخليفة ببغداد الذي يقال له: ابن العلقمي منهم، فلم يزل يمكُر بالخليفة والمسلمين، ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم، وينهى العامة عن قتالهم، ويكيد أنواعًا من الكيد، حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان. 

ودروس الحاضر في العراق والشام من أوضح الأدلة على ذلك كذلك.
الثانية: حول تكفير الشيعة والقول بأن اليهود والنصارى خير منهم:
الشيعة- كما سبق-  ليسوا سواء، فهم أنواع، فمنهم نوع كافر بالإجماع، ومن هؤلاء: الشيعة الإسماعيلية، والنصيرية، والقرامطة، والغلاة في علي t الـمُؤلِّـهين له. ومنهم نوع ثان غير كافر بالإجماع، ومن هؤلاء: الشيعة المفضِّلة، وهم الذين يفضلون عليًّا على عثمان، أو حتى على الشيخين. وقسم وقع فيه خلاف بين أهل العلم، ومنهم الرافضة، الذين سبقت الإشارة إليهم.

يقول شيخ الإسلام في حكم هذه الطائفة: «وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضًا للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد، والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية، والرافضة ونحوهم، والصحيح: 

أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفرٌ، وكذلك أفعالهم التي هي من جنسِ أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضًا، وقد ذُكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع, لكن تكفير الواحد المعين منهم، والحكم بتخليده في النار، موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نُطلق القول بنصوص الوعد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعيَّن بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له»(14).

والمنتسبون إلى هذه الطائفة كذلك ليسوا سواء، فمنهم الرءوس والأئمة، ومنهم العامة وأشباه العامة، وبين هؤلاء وأولئك مراتب، فمنهم من يكون أقرب إلى الأولين، ومنهم من يكون أقرب إلى الآخرين، وينبغي أن يُعامل كل فريق بما يستحِقُّ، وعوامُّهم الذين ليس لهم من الأمر إلا الانتماء التاريخي ينبغي الرفقُ بهم والحجب عليهم وعدم التسوية بينهم وبين من أضلَّه الله على علم من رءوسهم وأئمتهم. 

وقد غلط من أطلق القول بتكفيرهم، وزعم إجماع الأمة على ذلك، بل من قال: إن السواد الأعظم من الأمة على خلاف ذلك- لم يكن قد أبعدَ النُّجْعة. فحيثُما طوفت في مشرق أو مغرب فإن عقائدَ أهل الإسلام جميعًا على أن إيران دولة إسلامية شيعية، ليست كبريطانيا وفرنسا، وليست كتايلاند أو الفليبين أو الصين, وإن كان عندها من الظلم والبغي والضلال ما لا تُحصيه الكلمات.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend