حول وثيقة الأزهر

ما رأيكم في وثيقة الأزهر؟ ومدى إمكانية اجتماع المشهد المصري عليها؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن لهذه الوثيقة التي أصدرها الأزهر الشريف أهميةً خاصة باعتبار رمزية الجهة التي أصدرتها، وحياديتها في المعترك السياسي، فالأزهر لم يكن طرفًا في هذا المعترك الصاخب الذي تشهده الساحة السياسية المصرية هذه الأيام، فهو ليس حزبًا سياسيًّا، وليس لرجاله طموحٌ في الحكم، ولا تطلُّعٌ إلى تشكيل وزارة، على خلاف سائر الأحزاب المتنافسة على الساحة السياسية.
كما تبرز أهميتها كذلك في كون الأزهر مرشحًا لأن يُعتبر مرجعية شرعية يمكن أن تتمتع بالقبول العام من المشهد المصري برمته: إسلاميين ولبراليين، حزبيين ومستقلين، حكامًا ومحكومين، دع عنك حديث العالمية في هذه المرحلة، فلكلِّ حادثٍ حديث.
ولا شكَّ أن مما يرشحه لذلك بقوة بعد تاريخه العريق الضارب بجذوره في أعماق ماضٍ عريق، ما دعت إليه الوثيقة نفسها في بندها العاشر من تأييد مشروع استقلال مؤسسة الأزهر، وعودة هيئة كبار العلماء واختصاصها بترشيح واختيار شيخ الأزهر، والعمل على تجديد مناهج التعليم الأزهري؛ ليسترد دوره الفكري الأصيل، وتأثيره العالمي في مختلف الأنحاء.
لقد حفظنا عن آبائنا مقولة: «من لم يكن له كبيرٌ فَلْيَشْتَرِ له كبيرًا»، وإن فتَّشْتَ في الساحة المصرية فلن تجد مَن تصدق عليه هذه المقولة من جميع الأطراف المتفاعلة على الساحة، تعاونًا أو تشاكسًا إلا هذه المؤسسة، الأزهر.
ولقد شاهدتُ حوارًا بين الإسلاميين واللبراليين ذهب فيه اللبراليون إلى القول بأنهم لا يُنازعون في مرجعية الشريعة بحلالها وحرامها، ولكنهم يخشون من الغلوِّ وسوء التفسير والشَّطَط في الفهم، ووجدتهم جميعًا يتفقون على وسطية الأزهر، ولا يُنازعون في مرجعيته، فقلت لنفسي: فأين تكمن المشكلة إذًا؟ فيمَ يختلفون؟ وعمَّ يتساءلون؟ علام التوجُّس من سوء التفسير ولدينا مؤسسة قد اتفق الناس على وسطيَّتها، وقَبِل الناس بمرجعيتها؟ والسياسة في عالمنا لم تَعُد إلهامات أفراد، ولكنها جهد جماعي تقوم به مراكز ومؤسسات.
وبقي بعد هذا بعض الملاحظات التفصيلية على هذه الوثيقة، وهي ملاحظات تأتي من داخل البيت، البيت الأزهري أولًا، والبيت المصري ثانيًا، حيث يُقدِّمها من أمضى سحابةَ عمرِه في هذه المؤسسة، مُتدرِّجًا في معاهدها العلمية، حافظًا لوُدِّها وواصلًا لرحمها، يُحِب لها الخير حيثما كان، ويبادلها وفاءً بوفاء، ومودة بمودة:
أولًا: ما جاء في البند الأول من الوثيقة مِن دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، والتأكيد على ذلك بجملة من المفردات جاء من بينها أن تكون سلطة التشريع فيها لنوَّاب الشعب، واحتياطه في ذلك بقوله: «شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس للتشريع».
ووجه التعقيب هنا أن كلمة المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية لا تتضمن الاحتياط للشريعة، ولا تعني التقيد بأحكامها، وإنما تعني فقط التقيد بالمبادئ الكلية، وهذه المبادئ قد تشترك فيها الملل جميعًا، بل وقد تشترك في كثيرٍ منها بعضُ النظم الوضعية المعاصرة، ذلك أن الإسلام لا يصطدم مع عقلاء البشر في وجوب جلب المصالح ودفع المفاسد، وإنما النزاع في تحرير المصالح وكيفية جلبها، وتحرير المفاسد وكيفية دفعها.
فالزنى مثلًا يمكن أن يكون جريمةً عند الإسلاميين والعلمانيين، ولكن تحرير مفهومه وتحديد العقوبة عليه مما يختلف فيه النظام الإسلامي عن الأنظمة الوضعية المعاصرة.
إن مبدأ حفظ المال والتأكيد على سلامة تداوله وشرعيته مبدأ متفق عليه بين الإسلاميين والعلمانيين، ولكن آليات تطبيق ذلك وقواعده التفصيلية يختلف فيه النظام الإسلامي عن التشريعات العلمانية، فالنظام الإسلام يمنع الربا والغرر والميسر والاستثمار في الخبائث، وكل ذلك مشروع على الصعيد العلماني، وقُلْ مثل ذلك في جُلِّ القضايا المدنية والجنائية.
إن غموض هذه الكلمة لا يجعل منها ضمانةً كافية لتحكيم الشريعة في هذه اللحظات التاريخية الفارقة التي تتقرَّر فيها هوية البلاد والعباد، وقد علَّمَنا الأزهرُ الدقة في المصطلحات وتحرير محلِّ النزاع في جميع المحاورات.
لقد عرَّفَتْها المحكمة الدستورية العليا في أحكامها بأنها «الأحكام الشرعية قطعية الثبوت والدلالة»، ويَعْرف دعاةُ العلمانية أن هذا القيد لا يعني بالنسبة لهم شيئًا.
وعلى سبيل المثال: لقد قال الدكتور يحيى الجمل في لقائه مع الإعلامي عمرو الليثي على قناة «التحرير»: «حكم المحكمة الدستورية العليا رائع، قال عن المادة الثانية: مبادئ الشريعة الإسلامية قطعية الثبوت قطعية الدلالة. وهذه قضية طويلة وعريضة، وأنا أقول لإخواني الفقهاء: نريد أن نجلس مع بعضنا، ونبحث عن المبادئ قطعية الثبوت والدلالة، وهي محدودة جدًّا في كل الشرائع الإنسانية من أيام حمورابي وجوستنيان وإلى ما نحن فيه».
وعرَّفها السنهوري بقوله: كلياتها التي هي ليست محل خلاف بين الفقهاء، ومبادئ الشريعة على قول السنهوري هي مثل: لا ضرر ولا ضرار، والمشقة تجلب التيسير، ودرء المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، والحكم يدور مع العلَّة وجودًا وعدمًا، والضرورات تبيح المحظورات… وغير ذلك من قواعد الفقه الكلية. وبهذا فإنه يمكن أن تشترك فيها كثير من القوانين الوضعيَّة مع الشريعة الإسلاميَّة، ومع ذلك تختلف معها في الأحكام.
ويؤكد القضاة على غموض هذا المصطلح، وأنه لا يُغني شيئًا في معترك التطبيق، وقد تنبَّه لهذا العجز والقصور في هذا التعبير القاضي عبدُ الغفَّارِ محمَّد في حكمه في أكبر قضيَّة في تاريخ القضاء المصريِّ، وأكثرها شهرة، وهي قضيَّة الجهاد الكبرى، حيث ذكر في حيثيَّات حكمه: «من نص المادة الثانية بالدستور المصري:… ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع»، فما هي هذه المبادئ؟
بالتأكيد هناك معنى لكلمة مبادئ، اسمحوا لي أن أُثير هذا السؤال؛ لأني لا أعرف له إجابة، درست الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق، وعندي مكتبة إسلامية منذ كنت في السنة الأولى من المرحلة الإعدادية، وقد بلغتُ الخمسين عامًا ولا أعرف معنى محددًا لجملةٍ تأخذ نصف مساحة المادة الثانية من دستور بلدي، ألا ترون معي غرابةً ذلك الشيء، المصدر الرئيسي للتشريع في بلدٍ ما، يجب أن يكون محددًا، معروفًا، مدروسًا، فما المراجع التي يمكننا الاعتماد عليها لشرح وتحديد مبادئ الشريعة الإسلامية؟ هل يوجد في مصر، أو في أي مكان بالعالم كتاب عنوانه مبادئ الشريعة الإسلامية بحيث نُقلِّب صفحاته فنجده يقول: المبدأ الأول كذا، والثاني كذا… إلخ؟ كم شهادة ماجستير في جامعات القاهرة والإسكندرية والأزهر، مُنحت لدارسين تخصَّصوا في حَصْر وشرح وتبويب مبادئ الشريعة الإسلامية؟ كم رسالة دكتوراه؟ كم قسمٍ في كليات الحقوق والشريعة تَخَصَّص في مبادئ الشريعة، التي هي المصدر الرئيسي للتشريع؟ حتى المحكمة الدستورية العليا لم تجد تعريفًا محددًا غير: الأصول الكلية للشريعة الإسلامية ومبادئها المقطوع بثبوتها ودلالاتها، فسَّر الماء بالماء، وفسَّر المبادئ بالمبادئ، فهل يتفضَّل فقهاء المحكمة الدستورية ويُعطوننا أمثلة حصرية لتلك الأصول الكلية مقطوعة الثبوت والدلالة؟
أرجو أن يتفضَّل فرد أو جهة، بإجابة محددة لها بداية ونهاية: ما هي مبادئ الشريعة؟
ثانيًا: لقد احتاطت الوثيقة في بندها الأول كذلك لدفع أحد طرفي الغلو، عندما أكدت على عدم كهنوتية النظام الإسلامي، فقالت: «حيث لم يعرف الإسلام لا في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يُعرف في الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية التي تسلَّطت على الناس، وعانت منها البشرية في بعض مراحل التاريخ ، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم».
فكان من المناسب أن تحتاط لرد الغلو المقابل في الجانب الآخر، وأن تُؤكِّد وبنفس القدر على الأقل على عدم علمانية الدولة، وعلى الإقرار بمرجعية الشريعة لها، من خلال النص الصريح على التقيد بأحكام الشريعة، وليس بمجرد المبادئ الكلية فيها، والكهنوتية التي احتاطت ضدها ونصَّت على نقيضها ليس لها في تاريخنا سابقة، ولكن العلمانية التي يتخوَّف منها أهلُ الدين وتتجرَّع الأمة غُصَصَها واقعٌ مَعِيشٌ في طول بلاد العالم الإسلامي وعرضه، فأي الخطرين أولى بالاحتياط: خطرٌ مُتوهَّم ليس له وجود إلا في أوهام فريق من بني جلدتنا ومن ظاهرهم؟ أم خطر حقيقي يُمثِّل واقعًا مَعِيشًا في أغلب ديار الإسلام منذ أن أُقصِيَتِ الشريعة عن المرجعية في بلاد الإسلام إلى يوم الناس هذا، أي منذ قرابة قرن ونصف من الزمان؟
ثالثًا: لقد احتاطت الوثيقة في بندها الأول كذلك لغير المسلمين عندما نصَّت على حقِّهم في الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية بقولها: «وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية».
رغم أن النص على مرجعية الشريعة يكفي ضمانةً لهؤلاء؛ لأن من المبادئ الكلية للشريعة إقرارهم وما يدينون، فكان ينبغي على الأقل أن يحتاط لتحكيم الشريعة ولأهل الإسلام بنفس القدر، أما أن يحتاط للعلمانيين ويحتاط لغير المسلمين ويجازف بالشريعة فهو أمر يحتاج إلى مراجعة.
رابعًا: أكدت الوثيقة في بندها الثاني على اعتماد النظام الديمقراطي، القائم على الانتخاب الحر المباشر، رغم أنه قد سبق النص على ذلك في البند الأول، فناسب ذلك أن يُعاد كذلك التأكيد على التقيد بمرجعية الشريعة؛ لأن الديمقراطية والعلمانية في الثقافة الغربية متلازمان، فحَسُنَ في هذا الموضع أن يقال: «اعتماد النظام الديمقراطي، القائم على الانتخاب الحر المباشر، الذي هو الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية التي تقوم على جعل السلطة للأمة في إطار مرجعية الشريعة».
خامسًا: أكَّدت الوثيقة في بندها الثالث على الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل. ولا يخفى على أحدٍ ما تضمَّنته بعضُ المواثيق الدولية المُقرِّرة لهذه الحريات من تجاوزات وانتهاكات صارخة للموروث الديني اتفقَتْ على رفضها أتباعُ الملل السماوية، وتعاوَنَ في شَجْبِها الأزهر والكنيسة، وما خبر مؤتمرات السكان ومقرراتها ببعيد! فناسب في هذا المقام أن يؤكد على مرجعية الشريعة، كأن يقال: «الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل كما بينتها الشريعة الإسلامية».
سادسًا: أكدت الوثيقة على مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار المواطنة مناطَ المسئولية في المجتمع. وكان الأَوْلى أن يُنَصَّ على حماية الأديان السماوية؛ لأن الحماية تعني تصرفًا إيجابيًّا يكفل درء الحرابة عليها، ولا يُكتَفى بمجرد مشاعر التقدير والامتنان لها، فضلًا عن كون هذا التعبير أضبط عقديًّا، ويرفع الحرج عن الشعور الديني لكل الأطراف.
سابعًا: نصَّت الوثيقة في بندها الرابع على «الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين»، وهذا حسن، وأحسن منه أن يقال: «وضرورة تجنُّب التخوين والغلو في التكفير… إلخ»، فقد عانى المشهد الإسلامي في جُلِّ بلاد الإسلام من الغلو في التكفير، وما ترتب عليه وتلاه من تفجيرات وأعمال عنف فادحة، أما مبدأ التكفير في ذاته فقد جاءت به جميع الملل السماوية، أليس من الطبيعي أن يقال على عبدة الشيطان: إنهم ليسوا مؤمنين؟ أليس من الطبيعي أن يقال على من يسبُّون الرسل على الفضائيات ويستفزون مشاعر الملايين من المسلمين: إنهم ليسوا مؤمنين؟
ثامنًا: نصَّت الوثيقة في بندها الخامس على «تأكيد الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية، والتمسك بالمُنجَزات الحضارية في العلاقات الإنسانية»، وكان ينبغي أن يعاد التأكيد هنا على التقيد بمرجعية الشريعة، كأن يقال: «خامسًا: تأكيد الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية، والتمسُّك بالمنجزات الحضارية في العلاقات الإنسانية، المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية»؛ لنحافظ على خصوصياتنا العَقَدية والحضارية، وحتى لا تسلخنا مؤتمرات السكان وما دار في فلكها من المقررات الدولية من هويتنا وحضارتنا وخصوصياتنا الملية.
تاسعًا: نصَّت الوثيقة في بندها الثامن على ضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية دون أية مُعوِّقات، واحترام جميع مظاهر العبادة بمختلف أشكالها، دون تسفيهٍ لثقافة الشعب أو تشويهٍ لتقاليده الأصيلة، وكان ينبغي أن يكون النص على «حماية جميع مظاهر العبادة بمختلف أشكالها لأتباع الديانات السماوية الثلاث، دون تسفيهٍ لثقافة الشعب أو تشويهٍ لتقاليده الأصيلة»، فالنص على الحماية أبلغ في تحصيل المراد كما سبق، وتقييد ذلك بالأديان السماوية الثلاث حتى لا يستغل عبدة الشيطان مثل هذه النصوص لتلويث البيئة المصرية وسرطنتها.
ويبقى أن للوثيقة قيمتها الكبرى باعتبار رمزية الجهة التي أصدرتها، وقابلية المشهد السياسي للاجتماع عليها، وما هذه الكلمات إلا مشاركة في مزيد من الإثراء والتسديد، ووفاءً لبعض الحق لهذه المؤسسة العريقة، والله من وراء القصد. والله تعالى أعلى وأعلم.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend