ما تعليقكم على ما ورد من ردود البعض حول فتوى موقف حزب النور؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلقد تابعتُ تفاعلات المشهد الدعوي حول فتوى: «موقف حزب النور من البغي على الرئيس» وتأملتها جميعًا ما بين مستبشر بها، أو مقرٍّ لها على شيء من الإغماض أو التحفظ، أو عاتبٍ قد استوعب الصدمةَ فجاء عتابُه على استحياءٍ، أو مجروح لمَّا يتعافَ بعدُ من جراحاته من هذا الموقف بعد، وما بين كاظمٍ لغيظه،أو مطلق له العنان، وما بين مجاملٍ لي في تحفُّظه، أو مطلق لقلمه العنان، يكتب في عفوية واسترسال.
ولكل هؤلاء مني الحبُّ والتقدير، والثناء والدعاء، وأودُّ أن أُسجِّل هذه المتابعات والتي أرجو أن تكونَ بإذن الله نافعةً، كما أرجو أن لا تكون في بعضها صادمةً، وآملُ من أحبائي الصبرَ على قراءتها، ولهم كامل الحق في التعامل معها بعد ذلك كما يحبون: قبولًا، أو رفضًا، أو تعديلًا بحذف أو إضافة.
أولًا: حزبُ النور ومنتسبوه ٌجزء من جماعة المسلمين، بل جزء من صفوتهم وخيارهم، عاشوا ينصرون السنةَ مع من ينصرونها، ويجددون الدين مع من يجددونه: إحياءً للعقائد الصحيحة، وإشاعةً للسنن، وإماتةً للبدع، ولهم هديٌ وسمت لا ينكره إلا مكابرٌ، وآثارهم تدلُّ عليهم، ومن ثمارِهم تعرفونهم، وأرجو أن لا تحمِلَنا الخصومات السياسية على إنكار هذه الحقائق التي هي أشدُّ وضوحًا من وجود الأهرامات بالجيزة، أو نهر النيل في مصر.
إن المقارنة بين ياسر برهامي والباقوري أيامَ عبد الناصر، والتسويةَ بينهما مقارنةٌ ظالمةٌ، وتسوية أظلم، فياسر برهامي لا يزال على ولائه لدينه وشريعة ربه، لا يزال الراكع الساجد المدافع عن الشريعة، والموالي لأتباعها، أما الباقوري- عفا الله عنه- فقد قفز من معسكر الإخوان، وخلع رداءهم ومنهاجهم بالكلية، وظاهر على إخوانه، وهو المتمثل بقول القائل:
|
وهو الذي تمثل يوم مسرحية المنشية بقول القائل:
|
ثانيًا: حزب النور من أرشدِ التيارات السلفية في الموقف من الولاة ومن الجماعات الإسلامية، فلم يُطلقوا القولَ بتبديعها على النحو الذي فعلته قطاعات سلفيَّة أخرى، ولم يتبتلوا في محرابِ وليِّ الأمر كما تبتَّل آخرون ممن حتى جعلوا من القذافي إمامَ المسلمين في ليبيا، ومن الأسد إمامَ المسلمين في سوريا، وأفتوا بالتعبُّد بطاعة هؤلاء وأمثالهم ظاهرًا وباطنًا في العسر واليسر والمنشط والمكره، وسوَّوا بين العلمانية والانحرافات الجُزئية في تطبيق الشريعة، على النحو الذي يفضي إلى أن يصبح معه أتاتورك مثل الخليفة العباسي في جنس انحرافاته، وفي وجوب التعبُّد بطاعته ظاهرًا وباطنًا في غير معصية.
ثالثًا: جل اشتغال حزب النور فيما مضى كان يدور في فلك عقديٍّ أو شعائري، ولـمَّا يرتدِ آفاقَ السياسة الشرعية، وآية ذلك النظر إلى أدبياتهم، فجلها في أصول العقائد أو في فروع الفقه، وليس لهم عطاء ظاهر في باب السياسة الشرعية: قضاءً أو اقتصادًا أو نُظُمًا دستوريةً أو علاقاتٍ دولية ونحوه، فلا حرج أن يقال: إنهم حُدثاء عهد بالتجربة السياسية على مستوى التنظير أو مستوى التطبيق.
وقد كان مقتضى التوفيق أن ينتظم شملُ العمل الإسلامي في ائتلاف جامعٍ، يتولى حزبُ النور مع غيره ممن هُم على شاكلته من بقية إخوانه ملَفَّ الدعوة والتربية والتعليم، ويتولى غيرهم ملف الشأن العام ممن هم أكثرُ تخصصًا فيه وأكثر اعتناءً به، ويكون للشيوخ الأجلاء دور الرقابة والنصح والتسديد، وحراسة المنهج والمسيرة، ولكن جرى القلم بما هو كائن.
رابعًا: موقف حزب النور من البغي على الرئيس لا يمكن بحال تصنيفُه على أنه خيانةٌ لله ورسوله والمؤمنين، وإنما يصنف في دائرة الخطأ الشرعي والسياسي، الذي نُنكره على أصحابه، مع بقاء عصمتهم وأخوَّتِهم في الدين، وتلك هي القضية التي اشتَدَّ النكير عليها في الفتوى السابقة، وما لم نر الأمور على هذا النحو، فثمَّةَ خلل خطير في الرؤية وفي المنهج يجب أن يراجع على الفور، ولو كان كل ما اختلف أهل الإسلام في قضية من القضايا تبادلَا التخوين والإقصاء لم تبق بين المؤمنين عصمةٌ ولا أخوَّة قطُّ، ولا يجمل أن تجمعنا الدعوةُ ثم تفرِّق بيننا الخصومات السياسية.
يقول أحبابنا في حزب النور في الدفاع عن موقفهم: إن اختيارَ رئيسٍ لبرالي أو قومي كان موضع اتفاق من البداية من الإخوان وغيرهم على أساس أن ظروف البلد لا تحتمل رئيسًا إسلاميًّا في هذه المرحلة، فلماذا لم يُعَد ذلك خيانة في البداية، ثم يُعد موافقة حزب النور على ذلك في إبان الانقلاب خيانة؟!
ثم يضيفون فيقولون: من زعم أن الأوضاع قد اختلفت بالاتفاق على رئيس إسلامي ثبتت ولايته، وسلمت له مقاليد البلاد، فإنهم يجيبون عن ذلك بأنه لم يكن ممكَّنًا، ولم يدعمه أهل الشوكة كالجيش والشرطة والمخابرات والإعلام والقضاء، بالإضافة إلى موقف دول الجوار والموقف الدولي.
ثم يزيدون فيقولون: نحن لم نشارك في الانقلاب، وإنما تعاملنا مع واقع مفروض كان موجودًا قبل ذلك للناظرين بعينِ الحقيقة، وأصبح معلنًا بالبيان الذي تمَّ فيه عزلُ الرئيس بعد أن سيطر الجيشُ على مقاليد البلاد خلال المهلة تحت سمع وبصر الجميع، وسيطر على وسائل الإعلام ووضع الرئيس تحت الإقامة الجبرية.
وما ساقوه في هذا المقام قابل للمناقشة والتخطئة، ولكنه ليس قابلًا لأن يكون مسوغًا للتخوين والإقصاء بحال.
وأودُّ قبل الدخول في مناقشة هذه التحليلات أن أؤكد أن ما سنثبته الآن هو نفس ما كنا سنثبته لو كان ياسر برهامي، أو أبو الفتوح، أو العوا، محلَّ مرسي. فالقضية ليست قضية شخص وإنما هو مسار وتيار واتجاه.
فالاتفاق على رئيس لبيرالي من البداية، وكون ذلك على رضا، وسواء بين المؤمنين أو جمهورهم وسوادهم الأعظم لاقتضاء المصلحة ذلك- أمر لا غبار عليه، فهو يدور في فلك السياسة الشرعية، وتتقرر شرعيته وعدمها في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، ولكن إذا تغيَّر المسار، وأفرزت الأحداث فيما بعد قيادةً إسلامية، فالواجب هو الالتفافُ حولها ودعمها، ونصرتها ظالمة كانت أو مظلومة بالمفهوم الشرعي للنصرة، وإقدارُها على القيام برسالتها، ومناصحتها فيما تُخطئ فيه عند الاقتضاء، والإنكار عليها عند الزلل بما لا يُؤدِّي إلى مفسدة أعظم، والصبر على ما يكون منها من أثرةٍ؛ حسبةً لله تعالى، وترفعًا عن المآرب الشخصية، والعلائق الحزبية والتنظيمية.
مهما كانت التصورات المبدئية قبل ذلك، ومفارقتها إلى غيرها هو موضع العتب والتثريب، فالقياس هنا مع الفارق.
وأودُّ أن الإشارة إلى أنه قبل تفاقُم الأحداث ضدَّ الرئيس المظلوم كانت هناك بوادرُ من رموز في حزب النور إلى إضعاف ولاية الرئيس مرسي ونزع صفة الولاية الشرعية عنها، وتشبيه التعاون معه بالتعاون مع مبارك في أي مشترك من الخير، وتصريحات نسبت إلى بعض القيادات السلفية عن ندمها على التصويت للرئيس مرسي، وأنها لو استقبلت من أمرها ما استدبرت لصوتت للفريق شفيق.
وأخرى شنت الغارة على الإخوان، حتى نسب لبعض قياداتهم قوله: «إن فشل 30 يونيو سيحول جماعة الإخوان المسلمين لوحش كبير لا يمكن إيقافه». وقد علقنا على ذلك في حينها، ونصحنا إخوتنا بما نعتقدُه في إبانها، وقلنا:
إنه لا يجمُل سياسَةً ولا يصلح شرعًا نزعُ جميع أحكام الإمارة الشرعية عن هذه الولاية، والتسوية بين مبدأ العلاقة بها والعلاقة بولاية سائر طواغيت الأرض على شعوبهم؛ سواء أكانوا من المسلمين أم من غير المسلمين، وإنما العدلُ في هذا أن يقال:
هذه ولاية شرعية قُطرِيَّة أو جزئية، تنشئ للقائمِ عليها حقَّ الطاعة والنصرة، فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة، أي في حدود الضوابط الشرعية التي رسمتها الشريعة في باب الولاية، وفي حدود العقد الذي بُويع على أساسه من ناحية أخرى، وإن إلغاء ولايتها الشرعية بالكلية انتحارٌ سياسي، وخطيئةٌ شرعية، وغدًا سيرفع نفس السلاح في وجوه من يرفعونه اليوم، والأيام دُوَل. لكن لم يطف بخيالنا تخوينٌ ولا تكفيرٌ ولا تفسيق ولا إقصاء.
وأكدنا أن من ظنَّ أن له في غير شركاءِ دربه ورفقاء مسيرته بدائلَ فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقد عاندَ الشرعَ والواقع والتاريخ، فما هشَّ هؤلاء الغلاةُ لفريق منا إلا نكايةً في بقيَّةِ خصومهم من أهل الدين، وليتخذوا منهم ورقة توت يسترون بها عورتهم، ويجمِّلُون بها قُبحَهم، حتى إذا قضَوا وطرهم، ورُدَّت لهم الكرة على خصومهم، فلن يرقبوا في أحد من أهل الدِّين إلًّا ولا ذمةً. ومن وعى درس التاريخ والحاضر يدرك هذا المعنى.
ورحم الله المعتمد بن عباد القائل: «إن رَعْيَ الجمال خيرٌ من رعي الخنازير»(1). أي أن يكون مأكولًا ليوسف بن تاشفين أسيرًا يرعى جماله في الصحراء، خير من كونه ممزَّقًا للألفونسو أسيرًا له يرعى خنازيره في قشتالة.
مع اعتبار الفارق بين المقامين، وأن تكفيرَ المعاندين لم يطُف بخيالنا طرفةَ عين، لأن جُلَّهم ما بين متأوِّلٍ أو جاهل.
أما القولُ بأنه لم يكن ممكَّنًا: فإن جوابه أنه قد سُلِّمت له مقاليد الأمور من الناحية الرسمية، فسلمت له القيادة من الجيش، وكانت له خطوات جريئة كإقصاء طنطاوي وعنان والترتيب لقيادة مدنية للبلاد، ولم يكن الأمر في البداية بهذا السوء، ولعله لو وجد من جميع إخوانِه الدعمَ والمؤازرةَ لتغيَّرت الأمور، ولكن منطق المعارضة حمَّل كثيرًا من إخوانه على تتبع عثراته، والتقاط أخطائه، والمظاهرة عليه، والمشاركة بوجه أو بآخر في تطيير ذلك وإشاعته وفض الناس عنه.
نعم لقد كان من أخطائِه- عفا الله عنه- أنه استمع لبعض من حوله ممن حاولوا باجتهاد أو بآخر الاستئثارَ والاستحواذ، فأثاروا حفيظةَ المخلصين ممن يُعدُّون فريقَه وشيعته إذا خان الحلفاء، وتنكر الأصدقاء، كما كانت له- عفا الله عنه- أخطاء أخرى، وللحديث عنها مقام آخر، وليس من المروءة بسطُ القول فيها، والرجل ورهطه بين فكَّي الرحى، تنوشهم رماحُ الخصوم وسيوفهم.
ولقد كتبنا في هذا المعنى من قبل، ونصحنا فيه لمؤسسة الرئاسة، وذكرنا أن الأحزابَ الإسلامية والفصائل الدعويَّة تتديَّن في الجملة بعدم شرعية الانقلاب على أُولي الأمر من المسلمين، ممن يعلنون التزامهم بالإسلام، وإيمانهم بمرجعية الشريعة، وكل ما يرى منها من تجاذبات ومدافعات فهو في إطار النصيحة، والحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا جدَّ الجِدُّ وحُزِّب الأمر سيكونون حول الرئاسة جنودًا بواسل، وسيقولون جميعًا لمؤسسة الرئاسة ما قاله أبو طلحة للنبي ﷺ يوم أحد: «نحري دون نحرك»(2). فهم العدة في الملمات، وهم الردءُ إذا خان الحلفاء، وتنكر الأخِلَّاء.
وإذا كان ذلك كذلك فينبغي أن يكون لهم من الصبرِ عليهم وخصوصية الصلة بهم ما ليس لغيرهم، وأن لا تسمح مؤسسة الرئاسة لموقف عابرٍ أو لوشاية مغرضة أن تزلزل رصيد الثقة ووشيجة القربى التي تربطها بهؤلاء.
وأكدنا أننا لا نتحدَّث عن مجرَّد ترضيات سياسية، بل نتحدث عن مشاركة حقيقية، وأن هذه المشاركة هي التي تبني رصيدَ الثقة، وتردم الفجوة المفتعلة بينهم وبين إخوانهم ورفقاء دربهم وشركاء جهادهم، وتعبُر بالعلاقة بهم أزماتٍ نفسية تراكمت عبر مراحل بائسةٍ من التنافس والاحتقانات السياسية.
وختمنا نصيحتنا لهم بقولنا: إن خيارَ المشاركة خيارٌ محتوم، ولا بديل منه شرعًا وقدرًا إلا الفشل وذهاب الريح، وصدق الله العظيم: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46].
إن المعارضةَ الشرعيَّة في الإطار الإسلامي لا تعدُو أن تكون أسلوبًا من أساليب الاحتساب لتقويم الحاكم ونصحه وردِّه إلى الجادة، ولكن إذا جد الجد وحُزب الأمر كان الجميع في سفينة واحدة، حتى تستوي هذه السفينة على الجودي.
أما القول بأننا لم نشارك في الانقلاب، وإنما تعاملنا مع واقع مفروضٍ كان موجودًا قبل ذلك للناظرين بعين الحقيقة، وأصبح معلنًا بالبيان الذي تمَّ فيه عزل الرئيس- فهو موضع نظر، بل قد يقول قائل: لقد اتخذ منكم الانقلابيون ظهرًا إسلاميًّا سوَّقُوا به بَغيهم، وأخرجهم من عزلتهم الإسلامية، وحشدوكم في ساعة إعلان بغيهم مع الأزهر والكنيسة، في مشهد استفزَّ أهلَ الدين قاطبةً، وترك في نفوسهم جراحات غائرة، وما قدمه الانقلابيُّون من التزامات نقضوه في لحظة وجملة واحدة، فها هي الموادُّ الدستورية مكاسب الفترة الماضية وحصادها يعصف بها، وها هو مجلس الشورى يُلغى، وها هي الحكومة الانتقالية تتشكل من فريق اللبراليين وفلول مبارك، فماذا بقي أيها الأحباب؟!
إن المتأمِّل في كل ما سبق يجدُ أنه أمام خصومةٍ سياسيَّة لعبت دورها في صياغة هذه الكارثة، وفي أن تَئُول الأمور إلى هذا النحو، وأيًّا كان الأمر فلا ينبغي أن نُكثر البكاء على اللبن المسكوب، ولا بديل من أن نستشرف آفاقَ المستقبل، وأن يأرز أهل الدين إلى خندق واحدٍ للتدبير والتشاور، كما أرز غيرهم إلى خندق واحد، وذلك للخروج بخارطة طريق، تستلهم صحيفةَ المدينة للتعامل فيما بينهم، ثم للتعامل مع الآخرين، وذلك في إطار مشتركٍ من الخير العام يتفقون عليه في هذه المرحلة، ويقنعون به إلى أن يتعافي المجتمعُ من آثار الحقبة الماضية، ويصبح أكثرَ تأهلًا لاستقبال أحكام الشريعة، وإحسان الظنِّ بدُعاتها وحملتها. والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر «تاريخ الإسلام» (32/25).
(2) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «مناقب أبي طلحة رضي الله عنه » حديث (3811)، ومسلم في كتاب «الجهاد والسير» باب «غزوة النساء مع الرجال» حديث (1810)، من حديث أنس رضي الله عنه .