أريد منكم جوابًا لهذا السؤال، ولك أن تُسمِّيه طلبَ شهادة على واقع جماعة الإخوان في مصر.
هل فعلًا لو قامت للإخوان دولة في مصر هل كانوا سيقومون بمحاربة الدعوة السلفية؟
قد يبدو لكم هذا السؤال ساذجًا أو مضحكًا، ولكنه واقع نعيشه؛ فأنا شاب لست من جماعة الإخوان ولكني أرى ظلمًا كبيرًا قد وقع عليهم، ثم إنني قد كنت أسمع خطابًا من بعض المشايخ السلفيين بالإسكندرية يقوله لطلبته ويحذرهم من هذا الأمر تحذيرًا شديدًا. وإذا تمت معارضته في ذلك كان الجواب: أنت لا تعرف حقيقة الجماعة.
وأنا منذ فترة وأنا أقرأ لكم وأرى شمول رؤيتكم لواقع الجماعات الدعوية خاصةً في مصر؛ فأرجو منكم- وفَّقكم الله- بسطَ هذا الجواب أو هذه الشهادة بما تدين به لله تعالى.
ولو كان رأيك أن هذا لن يحدث فمن أين نشأت الشُّبهة عند هؤلاء المشايخ الذين نحسبهم ناصحين. وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلست على متابعة دقيقة للمشهد المصري عن كثب، ولست متأكدًا مما تقول، بل لا أكتمك القول إني لأستبعد وقوعه على النحو الذي تصفه، فقد تكون مبالغًا، أو متشائمًا، فإن النقل والعقل جميعًا يقولون أن أهل الدين بعضهم أولى ببعض، وأنهم يد على من سواهم(1). مهما وقع بينهم من الفتن والتشققات، وإن رعي الإبل عند صاحب الدين أولى من رعي الخنزير عند من يشاق الله ورسوله(2).
ومن الغرائب والعجائب أن يظنَّ فريقٌ منهم أن العلمانيين والليبراليين أرفق بهم، وأولى بالحدب عليهم، ممن يعملون لنصرة الدين، ولا يكفرون بمرجعية شريعته!
قد تقع خلافات داخل البيت المسلم، بل وقد يتقاتل الناس عن جهالة أو سوء تأويل، ولكن يبقى أن هذه الخلافات لا تهدم صرحَ الموالاة الإيمانية، ولا تسوِّغ الاستعانة بمعسكر الضلالة لينصر بعضنا على بعض، أو ليفسد علاقات بعضنا ببعض، وإن جراحات ملوك الطوائف في الأندلس لا تزال نازفة وغائرة، ومن وعى درس التاريخ يُدرك حقيقةَ ما أقول.
إنني لَـحَسَنُ الظن بأهل الدين من الفريقين، رغم أنني لم أكن يومًا إخوانيًّا، وقد أقسمت بالله في إحدى مقالاتي على ذلك، وإنني وإن كنت سلفيَّ المشرب والمعتقد، ولكنني لم أكن يومًا سلفيًّا بالمعنى الحزبي أو التنظيمي إن صحَّ التعبير، وقد عشت على محبة للجميع، وموالاة للجميع، وعلى مسافة متقاربة من الجميع، من دعاني إلى برٍّ أو تقوى من أي مشرب لبَّيْتُه، إن كانت لدي القدرة على ذلك، ومن دعاني إلى ما أعتقده إثمًا أو عدوانًا كففت يدي، ونصحت له بما أقدر، وكتاباتي على مدى ربع قرن شاهد على ما أقول.
لا أظنُّ أبدًا أن الإخوان أعداءٌ للدعوة السلفية بالمعنى الذي تذكره، وأنهم إذا قامت لهم دولة سيحاربون الدعوة السلفية، وسينكلون برجالها، وسيفعلون بهم من جنس ما يفعل الطواغيت بأهل الدين؛ حيث تُنصب المشانق، وتفتح أبواب السجون والمعتقلات، أو على الأقل تكون المطاردات الإعلامية، والاغتيالات الأدبية والمعنوية، ولا يروج لهذا، ولا يشيعه بين رجاله وقواعده إلا مُغيَّبٌ أو مفتون، ولا يستفيدُ من هذه المقاربة إلا خصومُ الأمة وأعداء الملة، وسائر الصم البكم الذين لا يعقلون، ولن يقبل عاقل بهذا المنطق وإن روَّجت له أهواء حزبية، أو أوهام دعوية، ولو صح هذا الذي تقول، فلا أجد جوابًا له إلا قول المعري:
فيا موت زر إن الحياة ذميمة
ويا نفس جدي إن دهرك هازل
مع التحفظ على كلمة الدهر، لما ورد من النهي عن سبِّ الدهر(3).
ولا أظنُّ أبدًا أن السلفيين أعداءٌ للإخوان بالمعنى الذي نتوهَّمُه، ففي القوم ديانةٌ وصيانة، وصاحب الدين يردُّه دينه، مهما استفزته الخصومات، وسولت لها الفتن والدعايات.
وإن وجدت شِرَّةً من التهارُج في الوقت الراهن، فسوف تسكن ثائرتُها، وتنكسر حدَّتُها؛ المهمُّ أن يلين أحدُ الفريقين بيد الآخر، بمنطق: إذا عز أخوك فهن.
إن المحنةَ التي نعيشها لم تُفرِّق بين متدينٍ وآخر، بل هَدمت البيت الدعوي على رءوس ساكنيه جميعًا؛ أُغلِقت جميع القنوات الفضائية، فلم تفرق بين قناة إخوانية وقناة سلفية، وإن إطلاقَ البلطجيَّة على أهل الدين في الشوارع، لم يفرق بين متدين سلفي ومتدين إخواني، وإن الشماتةَ والعداوة التي تُخرج لنا لسانَها كلَّ يوم من الفضائيات لم تفرق بين متدين إخواني أو متدينٍ سلفي، بل استهدفت الدين جِنسَ الدين، والتديُّنَ جِنسَ التدين.
أما عن تفسير الاشتباكِ الراهن فترجع جذورُه الحديثة جدًّا- فيما أعلم- إلى الموقف من الانقلابِ العسكري، حيث بدأ التقاذفُ بالتُّهم والمناكر من الجانبين، فكان التراشقُ بالتخوينِ والعمالة من جانب، والتراشقُ بالفشل والبلهِ السياسي ونزع الشرعيَّة من الجانب الآخر، والفتن في مثل هذه الأجواء ككُرةِ الثلج لا تزدادُ مع مرور الوقت إلا كبرًا واتساعًا، وتمترس(4) كل فريق في خندقِه، وتجاوزَ الأمرُ حدودَ الدفع إلى الهجوم وتتبُّع العورات، واستدعاء الرصيد التاريخي في العلاقة بين الفريقين، فكانت هذه الجلبةُ وهذا الضجيج.
والـمَخرج المؤقت فيما أظنُّه أن يُبادر أحدُ الفريقين بالصمت على استفزازات الطرف الآخر، وسوف ينتج هذا بعد حين صمتًا مقابلًا، وتخمد بعده نيران الفتنة.
أما الـمَخرج الاستراتيجي والدائم، فهو أن يسعى العقلاءُ والحكماء للإصلاح بين الفريقين، ولن يعدِم كلُّ طرف صفوةً من صلحائه وحكمائه تُرجِّح صوت العقل والدين وتستجيب لداعية الشرع والعقل. ألم يقل الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } [الحجرات: 9]. ويومها يفرح المؤمنون بنصر الله.
وأخيرًا ندعو بهذه الدعاء:
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اللهم اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. والله تعالى أعلى وأعلم.
____________________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب «الجهاد» باب «في السرية ترد على أهل العسكر» حديث (2751) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ب، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2751).
(2) انظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (32/25).
(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «تفسير القرآن» باب «{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ … } الآية» حديث (4826)، ومسلم في كتاب «الألفاظ من الأدب وغيرها» باب «النهي عن سب الدهر» حديث (2246)، من حديث أبي هريرة .
(4) امترس الخطباء: تلاجوا. ويقال: امترست الألسُن في الخصومات: أخذ بعضُها بعضًا، وبالشيء: احتَكَّ به. «المعجم الوسيط» (مرس).