حول مجزرة المنصة

ما تعليقكم على فاجعة المنصَّة؟ وكيف ترى الموقف الآن بعد هذه المجزرة؟ وإلى أين تتجه البلاد؟ وبم تُوصي المتظاهرين قيادةً ومقودين؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلا تفي مفردات اللغة بوصف فجيعتنا وأحزاننا لهذه المجزرة، لقد فاقت كُلَّ خيال، وتجاوزت كلَّ تعبير، ولا نملك إلا أن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لقد اختلطت الدماءُ والأشلاء، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالًا شديدًا، والمنافقون والذين في قلوبهم مرض يقولون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا. والشامتون القابعون وراء الشاشات الصغيرة يتراقصون على أشلاء الضحايا، وفواجع الثَّكالى واليتامى، وستظلُّ هذه الدماء البريئة رِيبةً في قلوبهم إلا أن تقطِّعَ قلوبهم، ولعنةً تطاردهم أحياءً وأمواتًا وتنزل معهم في قبورهم إلا أن يتوبُوا.
وأول ما نذكِّر به ونؤكد عليه في هذا المقام أن نجدِّد يقيننَا بأن يدَ الله تعمل في هذا الوجود، وأن أعمالَ الله جل وعلا لا تنفكُّ عن حكمته، أدرَك ذلك من أدرَكَ، وأفِكَ عن ذلك من أفك، فإذا رأينا في حياتنا ما يُروِّعنا أو ما يدهشنا، أو ما يخرج بنا عن مألوف توقُّعاتنا، فينبغي أن نُحسن ظنَّنَا بالله عز وجل ، وأنا لا نتهم اللهَ على أنفسنا، بل نرجع في ذلك أول ما نرجع إلى أنفسنا، وأن نذكر دائمًا قوله تعالى للمؤمنين يوم أحُد: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165].
إننا غضاب! وإن كلَّ من كانت لديه بقيَّةٌ من دين أو عقل أو مُروءة لا شَكَّ غاضبٌ ومتغيِّظٌ، بل يكادُ يميز من الغيظ، ولكنَّ يقيننا أن الله أشدُّ غضبًا. إننا نغار على هذه الحرمات المستباحَة والدماء المسكوبة، ولكن يقيننا أن الله أغْيَر، فلا أحد أغير من الله.

وأن ما يجري إنما هو على سمعِه وبصره لحكمةٍ عُليَا يُريدها، ستكشف عنها الأيامُ والليالي، فلا نقنط من رحمة الله، ولا نيأس من رَوْحِه، ولا يكن في صدرِنا حرج من حكمته وتدبيره.
وبعد هذه الدفقة من الزفرات والمشاعر التي لا نُريد أن نسترسِلَ معها، أرجع إلى موضوع السؤال، وأود التأكيدَ على جملة من الحقائق لا نُريد أن تضيع في محرقة هذه الكارثة وجنائزها.
أولًا: فريضة الوقت هي التداعي لإيقاف هذه المجازر، ومنع تكرارها، فإن الدماءَ تحفر في القلوب من الحُفَر والأخاديد ما لا تردِمُه الأيام والليالي، ولا يجوز في منطق العُقلاء أن تعمَّق الثارات بين الأمة وقيادة جيوشها، فإن هذا أول الفشل وبداية الانهيار.
ثانيًا: التداعي لحقنِ الدماء مُحكَمٌ من النقل والعقل والوطنية والإنسانية، فلا ينبغي أن يُختلف فيه، ولا أن يُختلف عليه، ولا علاقة له بالصِّراعات الحزبية، ولا بالتراشقات السياسيَّة والطائفية، ولسنا بصددِ تقويم موقفِ هذا الفصيل أو ذاك، فلذلك ميقاتُه المناسب زمانًا ومكانًا، وإنما الذي نتداعى جميعًا له، ونتخندق جميعًا في خندقِه في هذه اللحظة التاريخية الراهنة هو حقُّ النصرة العام للمستضعفين، الذي تستصرخنا به دماءُ مئاتِ الشهداء، وأضعاف هذا العدد من الجرحى والمصابين.
ولا تزال أرتال الشهداءِ والمنكوبين تترَى وتتابع، وكل هؤلاء الضحايا والمنكوبين من الذريَّة الضعفاء والعزل الأبرياء، ولا علاقة لهذا الحق المعلوم والمحتوم بتباين الرؤى حول موقف الإخوان أو غيرهم من بقية الفصائل الإسلامية أو الوطنية سياسيًّا او جهاديًّا أو دعويًّا.
ثالثًا: لن نسمح أن نُجَرَّ إلى المشهد السوري بحال، مهما بلغت الاستفزازات وتفاحشت المظالم، وإن اعتزالَ المشهد بالكلية، واستمطار لعنات الله على القتلة، وانتظار جوابه على الظَّلمة، خيرٌ لنا من الدخول في الاحتراب الداخلي والحرب الأهلية.
رابعًا: الاحتشاد والتظاهر ليس مقصودًا لذاته، وإنما باعتبارِه وسيلةً للتعبير عن رأي، وإظهارِ عاطفةٍ، وإنكار مظالم، ودعم مطالب مشروعة، ولهذا يتعيَّن على عقلاء مصر وحكمائها بدءًا من مشيخة الأزهر مرورًا بالرموز الوطنية والشعبية والدينية التداعي إلى المخرج السِّلمي والدستوري لهذه الأزمة، وفيما طرحناه من قبل من مبادرة مجدوَلَةٍ مخرجٌ يمكن تطويره مع الخبراء والمتخصصين، وقد أشار إلى كثير منه الدكتور العوا حفظه الله، وآخرون من فقهاء السياسة والقانون الدستوري.
• خامسًا: أما بالنسبة لقضية استمرار التظاهر في ظل هذه المستجدات فإننا نحيلها إلى قيادة المشهد على الأرض من العلماء والخبراء، ولا نستطيع أن نجزِمَ فيها عن بعد، ولكن الذي يَلُوح لنا هو الثباتُ في مواقع التظاهر، وتجنُّب المسيرات التي تؤدي إلى مزيد من التصعيد والاستفزاز، لتكون رِدءًا وظهيرًا شعبيًّا للمطالبين بالحوارِ والحلِّ السلمي والدستوري للأزمة، والأمر في النهاية إلى قيادة هذا المشهد من أهل العلم وأهل الخبرة من المباشرين للحدث، وممن هم أقدر على تقدير مصالحه ومفاسده.
سادسًا: لا بديل من الحوار والمخرج السلمي للأزمة، لقد كانت الثورات فيما مضى على أنظمة فاسدة، وكان الثائرون والمتظاهرون ينتظرون انحيازَ الجيش إلى الثورة، ولكن التظاهر في هذه المرة ضدَّ من ولي قيادة الجيش نفسه، فماذا ننتظر؟! ومن ننتظر لنصرتنا بعد الله عز وجل  في عالم الأسباب البشرية؟!
لا نعرف قوة بشرية يمكن أن تقهر الجيش ننتظر انحيازها إلى الشرعيَّة والعدل، إذا رفعت الأسلحة والتقى الجمعان، بل لا نُريد هذه القوة البشرية التي تقهر جيشنا الذي نُعدُّه في النهاية درعًا لأمتنا، وآخر ما تبقى من حصونها ومعاقلها وجيوشها. فلا بديل إذن من الحل الدستوري والسلمي للأزمة.
سابعًا: أما القتلة والظلمة وقد تلوثت أيديهم، واسودت صحائفُهم، فجوابهم عند الله عز وجل ، وويل لهم من لحظة يقفون فيها بين يديه عز وجل ، في يوم يجعل الولدان شيبًا، فالموعد الله، والملتقى بين يديه. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ [إبراهيم: 42-43].
وكلمة أخيرة لإمامنا الأكبر:
لقد اتُّخِذَت من مباني كليات جامعة الأزهر منصاتٍ للقنص وأرصادًا لمن سفكوا الدم الحرام، تحت سمع وبصر العالَم، وإن تلاميذكم ومحبيكم ينتظرون جوابكم، ويتطلعون إلى موقفٍ قويٍّ يصدر عنكم، يُكافئ هذا الجرم، ويجدد شباب هذه المؤسسة العريقة التي تتسنمون قمَّتها، ويجدد ثقة الأمة بها.
هذا بعضُ ما جاشت به النَّفس من زفرات ومن تأملات، وهنا يُمسك القلم شباته، ولا تزال أوراق القضية مفتوحة، والكتابة عنها مستمرة بإذن الله، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل. والله تعالى أعلى وأعلم.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend