حول قسوة العمل السياسي، وشرعية رئاسة الدكتور مرسي

شيخنا الفاضل. تدور في وسط العاملين في الدعوة إلى الله بعض الأفكار نرجو التكرم بالحق والصواب عن هذه الأفكار وجزاكم الله خير الجزاء وزادكم توفيقًا:
أولًا: يقولون: إن العمل السياسي يُبعد القلوب عن الله U، ويجعل القلوب قاسية.
ثانيًا: يقولون: إن إمامة الرئيس مرسي غير شرعية؛ لأنها جاءت عن طريق انتخاب الدهماء، وليس عن طريق اختيار أهل الحل والعقد.
ثالثًا: يقولون: إن إمامة الرئيس مرسي غير شرعية؛ لأنه قبل الإمامة عن طريق الديمقراطية، وإنه رضي بشروطٍ غير شرعية، منها تحديد مدة الرئاسة، والتي يتلون عنها أن الإمام لا يترك الإمامة إلا بالموت أو الكفر أو الجنون أو العجز.
رابعًا: يقولون: إن السياسة لابد أن تكون عن طريق الأحزاب، وهذه الأحزاب تفرق الأمة وتقوي مشروع الديمقراطية، وهي ضد المشروع الإسلامي؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الله قد قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، والعمل السياسي على أهميته ليس بديلًا من الأعمال الدعوية أو التربوية، ولكنه مكمل لها، وعلى من فُتح عليه في باب من أبواب العبودية لله تعالى أن يلزمه، مع حرصه على أن يضرب بسهمه في غيره من الأبواب الأخرى ما استطاع.
والقول بأن العمل السياسي يُورث القلوب قسوة وظلمة قولٌ به كثير من الصواب، إذا لم تستوفِ النفس نصيبَها من التنسك والربانية.
ومن خبروا أجواء العمل السياسي في ظل أجواء الصراعات والتجاذبات يؤكدون على ذلك، وما يُنبِّئك مثل خبير.
ولكن هذا لا يعني إلغاء العمل السياسي، وإنما يعني السعي لاستصلاح أحواله وترشيد مسعى القائمين عليه.
ومن هنا كان تأكيدنا على أن العمل السياسي ليس بديلًا من الأعمال الدعوية أو التربوية، ونزيد هنا فنؤكد أن العمل السياسي لا يُحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله(1).
لقد استقرت قرارات المجامع الفقهية التي ناقشت قضية المشاركة السياسية على أن العمل السياسي لنصرة الدين من خلال الأحزاب السياسية والمجالس البلدية أو النيابية أسلوبٌ من أساليب الاحتساب واستصلاح الأحوال؛ بغية تحقيق بعض المصالح، ودفع بعض المفاسد، ورفع بعض المظالم، فهو ليس خيرًا محضًا كما يتوهمه المتحمسون، كما أنه ليس شرًّا محضًا كما يظنه المعارضون، ولكنه مما تختلط فيه المصالح والمفاسد، وتزدحم فيه المنافع والمضار، فهو يدور في فلك السياسة الشرعية، ويتقرر حكمه في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، فحيثما ظهرت المصلحة، ولم تُعارَض بمفسدة راجحة فلا بأس باشتغال بعض الإسلاميين به، شريطة ألا تُستنفد فيه الطاقات، وألا يحمل على الاستطالة على الآخرين، وألا يصرف عن الاشتغال بالأعمال الدعوية أو التعليمية أو التربوية، بل قد يكون الاشتغال به واجبًا في بعض الأحيان إذا تعيَّن وسيلة لتحصيل بعض المصالح الراجحة أو تكميلها، وتعطيل بعض المفاسد أو تقليلها، وقد يكون حرامًا إذا عظمت مفسدته، ورَبا ضره على نفعه.
أما القول بأن ولاية الرئيس مرسي ولاية غير شرعية لأنها جاءت عن طريق انتخاب الدهماء وليس عن طريق اختيار أهل الحل والعقد، فهو قول عجيب، وأدنى ما يقال في الرد عليه على سبيل التنزل اتفاق أهل السنة على الإقرار بولاية المتغلب.
فهب أن ولاية مرسي لم تأتِ عن طريق بيعة صحيحة كما يزعم هؤلاء، فهو على الأقل والٍ متغلب، قد ألقى إليه السواد الأعظم من الناس بمقاليد الحكم، ودانت له مؤسسات الدولة واعترفت له بمشروعية ولايته.
ومن ناحية أخرى فإن تراتيب البيعة وآلياتها ليست من قواطع الشريعة وثوابتها، وإنما هي من مسائل السياسة الشرعية التي تتغير فيها الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال.
ولا أعلم أحدًا ممن يُنقل عنه العلم أو ينسب إلى الديانة في مصر ممن يُفضِّل ولاية الفلول على ولاية مرسي، اللهم إلا إذا كان مغلوبًا على عقله.
أما الطعن في ولايته باعتبار مجيئها من خلال الديمقراطية فينبغي التفريق بين الديمقراطية باعتبارها آليات وتراتيب إدارية، والديمقراطية باعتبارها منهجية ومرجعية:
فالديمقراطية باعتبارها منهجية ومرجعية هي التي يرد عليها كل ما يقوله المتحفظون، بل هي أقرب إلى الوثنية السياسية إذا نظر إليها في فضاءاتها الغربية، وفي خلفياتها العلمانية.
أما الديمقراطية كآليات وتراتيب إدارية فهذا من جنس مسائل السياسة الشرعية التي تصطفي منها الأمة ما يصلح لها، وتُدخل عليها ما شاءت من التعديلات والتحسينات لتتوافق مع ثقافتها وخصوصياتها الحضارية.
فليس في الديمقراطية شكل مقدس، وإنما يمكن أسلمة هذه الآليات، وإدخال ما يشاء العقلاء عليها من تعديلات تجعلها أطوع للفكرة الإسلامية وللمفهوم الإسلامي في باب السياسة والحكم.
إن تسويغ العمل السياسي في الإطار السابق لا يعني الإقرار بالديمقراطية في إطارها الغربي؛ بما تعنيه من تأليه الإرادة البشرية ونقل مصدرية التشريع من الوحي المعصوم إلى الأهواء البشرية، وبما تتضمنه من إهدار أهلية الاختيار، والتسوية بين الناس كافة في عملية التصويت، فضلًا عن أكذوبة سيادة الأمة، وصورية تحكيم الأغلبية التي جعلت السينتور جيوفاني استيونتور يقول: أروني الشعب أُعطيكم عيني اليمنى؛ فمنذ عشرات السنين وأنا أبحث عنه ولم أجده بعد.
بالإضافة إلى آفة الالتزام الحزبي التي تُحوِّل العملية الديمقراطية إلى مسرحية هزلية، والتي حملت أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني على القول: لقد سمعت في مجلس العموم كثيرًا من الخُطَب التي غيرت رأيي، ولكني لم أسمع خطبة واحدة غيرت صوتي.
كما لا يعني كذلك تسويغ الاستبداد والمناهج القمعية؛ فإن الشورى من عزائم الأحكام وقواعد الشريعة، وهي تقوم على التفريق بين مصدر النظام التشريعي ومصدر السلطة السياسية، فالنظام التشريعي مصدره الوحي المعصوم قرآنًا وسنة وما حمل عليهما بطريق الاجتهاد، والنظام السياسي مصدره الأمة، فللأمة في إطار مرجعية الشريعة الحق كل الحق في الهيمنة على ولاتها تولية ورقابة وعزلًا، فالاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، ومن بايع رجلًا من غير مشورة من المسلمين فلا بيعة له ولا للذي بايعه تَغِرَّةَ أن يُقتلا كما قال عمر رضي الله عنه (2).
أما الطعن في ولاية الدكتور مرسي باعتبارها قد حُددت لمدة معينة، فقد علم المشتغلون بالسياسة الشرعية أن الإمامة عقدٌ من العقود، يمكن تقييدها بما تُقيَّد به سائر العقود، فقد تُقيَّد من حيث الزمان فيتم اختيار الوالي لمدة معينة، ثم يُعاد الأمر بعد ذلك إلى الأمة، والأمر إليها في التجديد له أو في العدول عنه إلى غيره.
وللشيخ ابن عثيمين : فتوى بجواز ذلك، بل ذكر أنه قد يكون هذا التحديد أرفق بالأمة وأقوم بمصالحها.
وهذا هو ما يقتضيه النظر الشرعي وقواعد السياسة الشرعية بعدما تجرعت الأمة الغُصَص من المُلك العضوض والحكم الجبري.
أما قضية الأحزاب فقد اختلف الباحثون في قضية التعددية الحزبية إلى ثلاثة آراء: الحرمة المطلقة، والجواز المطلق، والجواز إذا كانت داخل الإطار الإسلامي.
أما مأخذ القائلين بالحرمة فيتمثل فيما تُفضي إليه التعددية من تشرذم الأمة وتفرق كلمتها، وما تتضمنه من عقد الولاء والبراء على ما دون الكتاب والسنة، وما تتضمنه كذلك من الحرص على الولاية والتنافس في طلبها، وما تقتضيه المعركة الانتخابية من تزكية النفس والطعن في الآخرين، وما تعنيه من الخروج على الجماعة ومنازعة الأئمة، بالإضافة إلى انعدام السوابق التاريخية، وفشل التجارب المعاصرة، وخطأ القياس على تعدد الأحزاب العلمانية.
أما مأخذ القائلين بإطلاق الإباحة فهو الاستشهاد بالفرق الإسلامية القديمة، وباستيعاب الإطار الإسلامي للمجوس والوثنيين وسائر الملل.
وقد نوقش بأن الفِرَق ظاهرة مَرَضيَّة إن سُلِّم بوجودها فلا يُسلَّم بإتاحة السبل أمامها طواعيةً لتكون في موضع القيادة.
أما أهل الملل الأخرى فإنهم كغيرهم من أهل دار الإسلام ليس لهم الخروج على ثوابت الدولة ومرجعيتها التشريعية، وحقهم في العمل السياسي محكوم بهذه الأصول الكلية التي تجسد هوية الدولة الإسلامية.
أما مأخذ القائلين بالجواز داخل الإطار الإسلامي فيتمثل في أن هذا الأمر من مسائل السياسة الشرعية التي تعتمد الموازنة بين المصالح والمفاسد، ولا يشترط لمشروعيتها أن تكون على مثال سابق، وقاعدةُ الذرائعِ وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ دليلُ مشروعيتها.
فالتعددية أمثل طريق إلى تحقيق الشورى والرقابة على السلطة وصيانة الحقوق والحريات العامة، كما أنها الطريق إلى الاستقرار السياسي ومنع حركات التمرد والخروج المسلح، بالإضافة إلى بشاعة البديل وهو الاستبداد بالسلطة وما ترتب على ذلك عبر التاريخ من الإغراء بالقهر والتسلط، فضلًا عن أن الأدلة التي ساقها المعارضون موضع نظر، وأن ما ذكروه من مفاسد التعددية، منها ما يمكن تجنبه بالكلية، ومنها ما يمكن تقليله بحيث يبدو مرجوحًا إذا ما قورن بما في التعددية من المصالح الراجحة. والذي يظهر أن هذا القول هو أولى الأقوال بالصواب في هذه القضية.
وهَبْ أن أحبابنا كانوا من المعارضين لتكوين الأحزاب؛ فإن مسائل الاجتهاد لا ينبغي أن يُضيَّق فيها على المخالف. ففيم يختلفون؟! وعم يتساءلون؟!
أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل، وأن يأخذ بنواصينا إلى ما يحبه ويرضاه. والله تعالى أعلى وأعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فقد أخرج الترمذي في كتاب «اللباس» باب «ما جاء في لبس الفراء» حديث (1726)، وابن ماجه في كتاب «الأطعمة» باب «أكل الجبن والسمن» حديث (3367) من حديث سلمان رضي الله عنه ، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم  عن السمن والجبن والفراء قال: «الْـحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْـحَرَامُ مَا حَرَّمَ االلهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»، وحسنه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (3367).
(2) أخرجه البخاري في كتاب «الحدود» باب «رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت» حديث (6830).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend