حول سبي داعش للنساء الأيزيديين

السؤال

فضيلة سيدنا بارك الله فيكم، بعد أن أعلنت الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» في عددها الأخير من مجلتها الرسمية «دابق» أنها بدأت بسبيِ النساء، وقد سبت من الأيزيديين بالموصل، أرجو أن تتفضل فضيلتك ببيان حُكمِ السبي وشروطه والحكمة منه، فبعض النساء يقُلن: ما ذنب هؤلاء الضعيفات صاحبات الأولاد وغيرهن في أن يتمَّ بيعهن ليستمتع بهن الرجال وتتنقلن من رجل إلى رجل كالبهائم؟ جزاكم الله خيرًا كثيرًا وبارك فيكم ونفع بكم.

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

فلنحرر القول أولًا في قضية السَّبي في ذاتها بصورة مجرَّدة، ومنفصلة عن فعل داعش أو غيرهم، فنقول:

ليس للإسلام تشوُّف إلى الاسترقاق، بل كان تشوُّفه ولا يزال إلى العتق، ولهذا لم يجعل الاسترقاق مطلبًا من مطلوباته، ولا واجبًا من واجباته، ولا رغيبةً من رغائبه التي يَندب إليها ويشجع على ممارستها، بل جعله خيارًا من الخيارات ينظر إليه في ضوء مآله، وما ينجم عنه من صلاح أو فساد، وإن حدث فهو فَلِفَتْرَةٍ موقوتة تؤدي في النهاية وفي الأعمِّ الأغلب إلى العتق والتحرير.

ولا أدلَّ على ذلك من تجفيفِه منابعَ الرق كلها لكي لا يتجدد، فلم يبق من ذلك إلا المنبع الأوحد وهو رقُّ الجهاد المشروع في سبيل الله.

ولا أدلَّ على ذلك كذلك من سعيه الحثيث إلى تحرير الرقيق بشتَّى الوسائل، واعتباره من أجلِّ القُرُبات، وجعله خيارًا في كثير من الكفَّارات الشرعية، ككفارة الظهار، والقتلِ الخطأ والفطرِ المتعمد في رمضان، والحنث في اليمين ونحوه.

هذا. وإن الآية الوحيدة التي تعرضت لأسرى الحرب في القرآن الكريم وهي قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] لم تذكر الاسترقاقَ للأسرى، وإنما ذكرت الفداءَ وإطلاق السراح دون مقابل؛ حتى لا يكون الاسترقاق تشريعًا دائمًا للبشرية ولا ضربة لازب، لا بديل منه ولا غنى عنه، إنما هو أمر يلجأ إليه الجيشُ الإسلاميُّ المحارب عندما تقتضيه الظروفُ والملابسات، فهو ممكن عند الاقتضاء، وليس واجبًا من الواجبات.

ومن الناحية العملية لم يكن استدامةُ الاسترقاق وتوسيعُ رقعته هو المعهودَ في السُّنَّة العملية، فقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم فريقًا من أسرى بدر من المشركين منًّا بغير فداء، وأطلق فريقًا آخر لقاء فدية([1]). وأخذ من نصارى نجران جزيةً ورد إليهم أسراهم([2]). ومنَّ على سبي هوازن وتألف قلوب الصحابة على المنِّ على أسراهم في هذه الغزوة([3])؛ ليضرب بذلك المثل لما يريد أن تهتدي إليه البشريةُ في مستقبلها.

ولم يحرم الإسلام الرقَّ جملةً واحدة من البداية للاعتبارات العمَلِيَّة التي اقتضت ذلك، فقد كان العُرف السائد يومئذٍ هو استرقاقَ أسرى الحرب أو قتلهم، وهو عرفٌ قديم جدًّا، مُوغل في ظلمات التاريخ، يكادُ يرجع إلى الإنسان الأول، ولكنه ظلَّ ملازمًا للإنسانية في شتى أطوارها.

وجاء الإسلام والناس على هذا الحال. ووقعت بينه وبين أعدائه الحروبُ، فكان الأسرى المسلمون يُسترَقُّون عند أعداء الإسلام، فتُسلب حرياتهم، ويعامل الرجال منهم بالعسف والظلم الذي كان يجري يومئذٍ على الرقيق، وتنتهك أعراض النساء لكل طالب، أما الأطفال- إن وقعوا أسرى- فكانوا ينشأون في ذُلِّ العبودية البغيض.

عندئذ لم يكن جديرًا بالمسلمين أن يُطلقوا سراحَ من يقَع في أيديهم من أسرى الأعداء؛ فليس من حُسن السياسة أن تُشجِّع عدوك عليك بإطلاق أسراه، بينما أهلك وعشيرتك وأتباع دينك يُسامون الخسف والعذاب عند هؤلاء الأعداء، والمعاملة بالمثل هنا هي أعدلُ قانون تستطيع استخدامَه، إن لم تقل هي القانون الوحيد.

وقد كرم الإسلام النساءَ حتى في رِقِّهن بالمقارنة بما كن يلقين في غير بلاد الإسلام في ذلك الزمان؛ فلم تعد أعراضهن نهبًا مباحًا لكل طالب على طريقة البغاء التي كانت سائدة في الحضارة الرومانية، حيث تنتهك أعراضُ النساء لكل طالب، فيشترك في المرأة الواحدة الرجل وأولاده وأصدقاؤه من يبغي الاستمتاع منهم، بلا ضابط ولا نظام، ولا حريجة من دين أو خلق، ولا احترام لإنسانية أولئك النساء أبكارًا كن أم غير أبكار، فكانت أسيرات الحرب في البلاد الأخرى يهوين إلى حمأة الرذيلة بحكم أنه لا عائل لهن، ولأن سادتهن لا يشعرن نحوهن بحمية العِرض، فكانوا يدفعون بهن للاشتغال في هذه المهمة البغيضة، ويكسبون من هذه التجارة القذرة.

فجاء الإسلامُ فجعلهن ملكًا لصاحبهن وحدَه، لا يدخل عليهن أحدٌ غيره، وجعل من حقهن نيلُ الحرية بالمكاتبة، كما قضى أن الجارية المستولَدة إذا وضعت حملها أصبحت أمَّ ولد لا تُباع ولا تُوهب ولا تورث، وتَعتِق على سيدها بعد موته، ويحرر معها ولدها، وكن يلقين من حُسن المعاملة ما سارت به الركبان.

فيتحصل من جميع ما سبق أنه إذا اصطلح العالم على ترك الاسترقاق في الحروب، ودخلت بلادُ الإسلام في مثل هذه المعاهدات، ولم يعد من المسلمين أسرَى في دول أخرى يتعيَّن السعيُ لاستنقاذهن من الأَسر، ومفاداتهن بمن لدينا من أسرى غير المسلمين.

وأصبح الاسترقاقُ مجلبةً لشنِّ الغارة على الدين، ومظنةً راجحة غالبةً لرميه بالتُّهَم والمناكر، وتنفيرِ الناس من الدخول فيه، وفضِّهم عن دعوته، فيصبح من السياسة الشرعية الملائمة لمقاصد الشريعة ورُوحها تركُ الاسترقاق، والانكفافُ عنه، وإحسانُ معاملة الأسرى تألُّفًا لقلوبهم على الإسلام، واستمالةٌ لنفوسهم على ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيِّنات والهدى. وكم من مطلوبات شرعية تُركَت نظرًا إلى المآل واعتبارًا بالعواقب؟! فكيف إذا كان الأمر مجرَّد مكنة من المكنات أو خيارٍ من الخيارات؟!

ألم يترك النبي صلى الله عليه وسلم إعادةَ بناء البيت على قواعد إبراهيم مخافةَ ما يُثيره ذلك من الفتنة وما يجرُّ إليه من الفساد؟! فقال: «يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدِهِمْ بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ؛ بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ»([4]). وفي رواية: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ– أَوْ قَالَ بِكُفْرٍ- لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ الله وَلَـجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الْـحِجْرِ»([5]).

وعنون البخاريُّ على ذلك في «صحيحه» فقال: باب من ترَك بعض الاختيار مخافةَ أن يقصُر فَهم بعضُ الناس عنه فيقعوا في أشدَّ منه. وعلق الحافظُ بن حجر بقوله: «ويستفاد منه تركُ المصلحة لأمنِ الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولًا ما لم يكن محرمًا»([6]).

ومن هذا الباب امتناعُه صلى الله عليه وسلم عن قتل عبد الله بن أبي بن سلول مخافةَ أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتُل أصحابه([7]). وما جاء في سورة الأنعام من النهي عن سب آلهة المشركين حتى لا يسبوا الله عدوا بغير علم([8]).

بل لعله لا يبعد القول بحُرمة العودة إلى الاسترقاق بعد أن أعطَت دولةُ الخلافة العهدَ إلى دول العالم بتركِ الاسترقاق، ووقَّعت على ذلك فيمن وقعوا مع عصبة الأمم، وأصدرت قانونًا بتحريم الرّق سنة 1908م، وقد جاء في «المدونة» (٤/٢٧٤-٢٧٥): نقل ابن القاسم عن الإمام مالك: «إذا كان العهد الذي بيننا وبينهم في بلادهم على أن لا نقاتلهم، ولا نسبيهم، أعطونا على ذلك شيئًا أم لم يعطوا ففي هذه الحالة لا يجوز أن نشتري منهم رقيقًا»([9]).

أما ما ينسب إلى داعش فمنه ما هو منحول، وتهاويل أجهزة إعلام ساحرة وآخذة بالعقول، ومنه ما قد يكون صحيحًا فلا يجوز أن يُنسب إلى الدين أو الشريعة، والله ورسوله منه براء.

والقضية هنا ليست قضيةَ داعش أو غير داعش، بل هي قضية دينٍ يُشَيْطَن، وشريعةٍ تزَيَّف، وملةٍ تُحرَّف، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

فقد علم القاصي والداني ما تقاسمت عليه جُلُّ وسائل الإعلام العربية والغربية من شيطنةِ الدين والمتدينين، وشنِّ الغارة على شعائر الإسلام وشرائعه، في صلافة غير مسبوقة، وتوقُّحٍ تحار فيه العقول.

فاللهم أبرم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعز فيه أهلُ طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، وتصان فيه الحرمات والحقوق، اللهم آمين. والله تعالى أعلى وأعلم.

_____________________________

([1]) انظر «السيرة النبوية» (5/ 74).

([2]) أخرجه أبو داود في كتاب «الخراج والإمارة والفيء» باب «في أخذ الجزية» حديث (3041) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

([3]) أخرجه البخاري في كتاب «العتق» باب «من ملك من العرب رقيقًا فوهب وباع وجامع» حديث (2540) من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه.

([4]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «العلم» باب «من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم» حديث (126)، ومسلم في كتاب «الحج» باب «نقض الكعبة وبنائها» حديث (1333)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

([5]) التخريج السابق.

([6]) «فتح الباري» (1/225).

([7]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «ما ينهى من دعوة الجاهلية» حديث (3518)، ومسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا» حديث (2584)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

([8]) قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} [الأنعام: 108].

([9]) «المدونة» (3/298-299).

تاريخ النشر : 31 يناير, 2021
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية, 07 الجهاد

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend