حول حادث التفجير الذي قتل فيه الشيخ البوطي في سوريا(2)

جوابكم عن مقتل الدكتور البوطي أثار قلقًا لدى بعض المحبين لكم، والمتابعين لمقالاتكم، وما يصدر على مواقعكم من فتاوى، والسؤال: لماذا لم تتضمن كلمتكم إدانة صريحة للنظام الأسدي المجرم؟ وإدانة لمواقف الشيخ من خذلانه للثورة السورية واصطفافه بجوار طاغية الشام؟ ومظاهرته على قتل الحرائر والأطفال؟ وذبح شعبه واغتصاب حرائره وقتل أطفاله على نحو لا نظير له في واقعنا المعاصر؟  نرجو بيانًا تطمئن به القلوب، وتسكن إليه نفوس المكلومين والمجروحين.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلقد فصَّلنا القول في ذلك في مواضع أخرى، وأصدرنا من مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا في فجر الثورة السورية وفي سويعاتها الأولى بيانًا سطره قلم محبكم، وتداوله مع أعضاء المجمع حتى أصدروه بيانًا رسميًّا، وحتى لا ننسى سأسوقه في نهاية هذه الفتوى، وفيه رسالتنا الواضحة، وموقفنا الصريح منذ اليوم الأول لاندلاع هذه الأحداث، ففي حياة الرجل تحدثنا، وبعد موته وددنا أن تطوى صحيفته معه، ويفوض أمره إلى ربه جل وعلا، وترحمنا عليه لا يعني إقرارنا له على مواقفه التي خالف فيها الحق وحاد فيها عن الصواب، فإن الترحم مشروع لكل من لم ينقض عقد الإسلام ولو كان فاسقا أو مبتدعا. ورحم الله ابن حزم القائل: «وإن الفاسق لأحوج الى دعاء إخوانه المؤمنين من الفاضل المرحوم»(1).
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز: عندما يموت شخص مسلم ولكنه فاسق في حياته فهل يجوز الترحم عليه؟ فأجاب: نعمم يجوز الترحم عليه، والدعاء له بالعفو والمغفرة، كما يصلى عليه صلاة الجنازة إذا كان فاسقًا لا كافرا. والله المستعان .
أما بالنسبة للثورة نفسها وما يتعرص له الثوار والشعب الأعزل من مجازر، فلا تكاد تنفكُّ صلاةٌ من صلاتنا ولا محاضرة من محاضراتنا عن الدعاء لهم بالنصرة والتأييد، وحث العالم كله على إغاثتهم، ومؤازرتهم في قضيتهم العادلة، وكنا معهم كما قال الآخر: «جراحك جرحي، وبلسم جرحي أني أحبك، وحين جراحك تدمي وتكبر، فإني أحبك أكثر، أحبك أكثر». والآن أرجو من أحبتي مراجعة هذا البيان فإن فيه تذكرة وعبرة:
بيان مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا حول استمرار المجازر في سورية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: فلا يزال مجمع فقهاء الشريعة بالولايات المتحدة الأمريكية يتابع ببالغ القلق والغضب والاستياء مسلسل الاعتداءات الوحشية التي تتولى كبرها السلطات السورية ضد بعض مواطنيها العُزَّل، ممن خرجوا في تظاهرات سلميَّة، يطالبون بحقوق مشروعة، تقرهم عليها الشرائع السماوية والدساتير الأرضية، وتزداد هذه الانتهاكات بشاعة ووحشية مع مرور الأيام. وتسجل ذاكرة الأيام والليالي مشاهد عصيبة تتقاصر عن وصفها الكلمات، وسط صمت وتخاذل عربي، وتجاهل أو تواطؤ دولي، وإننا إزاء هذه المجازر الوحشية نود أن نذكر بجملة من الحقائق إبراء للذمة ونصحًا للأمة:
• أن هذه المجازر التي تتولى كبرها القيادة السورية تفقدها شرعية تمثيلها للشعب السوري، بل تفقدها شرعية وجودها من الأساس، وتلحقها بالغاصبين والمحتلين، وتجعل حق مقاومتها- بكل الوسائل السلمية- من الحقوق المشروعة، التي من أعان عليها فقد أعان على حسبة مشروعة، ومَن ظاهَر عليها فقد برئت منه الذمة.
• أن فريضة الصَّدْع بالحق وإعلان النكير على هذا العدوان إنما تتجه في المقام الأول إلى أهل البقعة المستباحة، وفي مقدمتهم أهل العلم وحملة الشريعة، فإن دفع الصائل يتعين أول ما يتعين إذا نزلت النازلة بمحلةِ قومٍ على أهل هذه المحلة، ثم يمتد بعد ذلك إلى الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، فعلماء سوريا في المقام الأول هم خط الدفاع الأول عن الشعب السوري وعن حرمة دمائه ومُقدَّراته، في مواجهة هذه المجازر الضارية، وواجبُهم هو الصدع بكلمة حقٍّ في وجه سلطان جائر، وتعريف الأمة بحكم الله في أمثال هؤلاء المعتدين القتلة، وجمع كلمتها على موقف رشيد تندفع به الفتنة، ويدفع به الصائل، ولا تبرأ الذمة في هذا المقام بمجرد اعتزالهم، وعدم مشايعتهم على باطلهم.
• ثم يلي هؤلاء في التكليف بإعلان النكير على هذا العدوان بقية أهل العلم وحملة الشريعة في الأمة، وأول ما نخصُّ بالذكر جهات الفتوى الجماعية التي تتمتع في الأمة بقبول عام، كهيئة كبار العلماء في بلاد الحرمين، واللجنة الدائمة للإفتاء بها، وكالمجامع الفقهية الدولية ونحوها من مؤسسات الإفتاء العام، وقد سبق لهيئة كبار العلماء موقف تاريخي مع سفَّاح ليبيا حيث أعلنت على الأمة بغير مواربة حكم الشريعة في هذا المارق الطاغية، فينبغي لعلماء هذه الهيئات أن يُظاهروا إخوانهم من أهل العلم في سوريا، وأن يعلنوا على العالم حكم الله فيما يجري من هذه الأحداث، وأن يتابعوهم بالنصح المتجدد، وفاء بالميثاق الذي أخذه الله تعالى على كلِّ من تعلم من علمه شيئًا بالبيان وعدم الكتمان، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187].
• ثم يلي هؤلاء في التكليف بهذا الواجب الجيش السوري، الذي يُستخدم اليوم أداةَ قتلٍ وترويع، وانتهاكًا للحرمات واستباحة لدماء لشيوخ والنساء والأطفال، إن دم المسلم حِمًى لله ورسوله، وإن زوال الدنيا أهونُ عند الله من إراقة دم امرئ مسلم بغير حق(2)، وإن ما تتناقله وسائل الإعلام من قتل وتنكيل جرائم حرب يندى لها جبين البشرية، وتسجل الخزي والعار على مرتكبيها إلى قيام الساعة، ولن يفلت أصحابها من بطش الله وعقابه إلا أن يشاء ربك، فاتقوا الله في أنفسكم وأمتكم، وليكن انحيازكم إلى أمتكم تكفيرًا عما سلف من هذه الخطيئات الفادحة، وبداية الخروج من هذا النفق المظلم الذي تساق إليه البلاد والعباد.
• ثم يلي هؤلاء في التكليف بهذا الواجب بقية الشعب السوري الذي يتعرض لهذه المحنة، ويقف صامدًا تحت هذا القصف، حيث يجب عليه أن يتداعى إلى وحدة موقف يصطف فيه خلف قيادة رشيدة من العلماء والخبراء، وأن يصدر عن توجيههم وفقههم، وأن يصبر ويصابر، وأن يثق برحمة الله وعدله، وأن يتواصى من أقصاه إلى أقصاه بتجديد توبة إلى الله، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، وأن يتسابق إلى مواساة المنكوبين، وإغاثة الجرحى والمتضررين، وأن يتحلى بالنبل ومكارم الأخلاق، وألا يستجيب لدعوات التشرذم والانقسام، وأن يترفع عن روح الثأر والانتقام، وإنما هو العصيان المدني والمقاومة السلمية، فإذا اندفع الصيال كان القسط والبر هو الحكم، وأن يستديم إخلاص الدعاء في الخلوات، وفي أدبار الصلوات، وفي أوقات التجلي الأعظم في الثلث الأخير من الليل، موقنًا بأن القوة لله جميعًا، و«إِنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَإِنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا».
• ثم يلي هؤلاء بقية الأمة في مشارق الأرض ومغاربها أن يدعموا صمود إخوانهم وأن يقدروا معاناتهم، وأن يرفع إلى الله أَكُفَّ الضراعة في خلواتهم وفي أسحارهم أن يرفع عنهم البلاء، وأن يكشف عنهم العذاب، وأن يُبدِّل عسرهم يسرًا، وخوفهم أمنًا، وضيقهم فرجًا ونجاة، ثم أن يسخر لهم من أموالهم بما يقدرهم على المصابرة والمرابطة، فما أرخص الأموال عندما تقارن بشلالات الدماء التي يجود بها إخوانهم في كل يوم.
• وبقيت كلمة إلى القائمين على الأمر في دولنا العربية: أما صكت مسامعكم هذه الفواجع والكوارث؟! ألم يأتكم نبأ هذه التقتيل والتنكيل الذي لم ينجُ منه شيخ ولا طفل ولا فتاة في عمر الزهور؟! أما تعلمون أنكم موقوفون بين يدي ربكم ومسئولون؟ لماذا لا يسمع لكم صوت؟ ولا يصل إلى العالم منكم أثارة من نكير؟ لماذا تظل عيون الأمة متشوفة وأعناقها مشرئبة إلى المجتمع الغربي والمنظمات الدولية، وأنتم أولى بذلك وأهله؟ إن كنتم قوميين فأين العروبة؟! وإن كنتم مسلمين فأين الإسلام؟! أليست الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي أولى بأن تقف لنجدة المتضررين، وإغاثة المنكوبين، من الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي؟! إن في مقدوركم- إن شئتم- السعي لإيجاد غطاء دولي لهذه الإغاثة ليتعاضد الدور الدولي مع الدور العربي والدور الإسلامي في دفع هذه الكارثة؟!
• إننا نُحَيِّي موقف القيادة التركية ونطلب منها المزيد من الغوث والنصرة والتأييد، ولعلها بهذا تحيي وتجدد مواقف الفاتحين الأتراك يوم كانوا درعًا للأمة وحماة للإسلام.
• كما ندعو العالم بأسره عربًا وعجمًا، مسلمًا وغير مسلم، أن يباشر مسئوليته الدولية التي باشرها من قبل في مناطق أخرى من العالم، وألا يكون العامل الاقتصادي وحده هو المحرك له على دعم هذه المنطقة وقطع دعمه عن تلك، إن الدماء أغلى من النفط، وأغلى من كل ما فوق الأرض من نقد ومن عرض.
• وأخيرًا نرفع أَكُفَّ الضراعة إلى الله جل وعلا أن يَمُدَّ المنكوبين الصامدين في سوريا الشقيقة بمددٍ من عنده، وأن يُرِيَنا عجائب قدرته فيمن يسومونهم سوء العذاب من القتلة المعتدين. والله من وراء القصد.
أرجوأن يكون في هذا البيان كفاية وغنية، والله تعالى أعلى وأعلم.

_______________________

(1) «المحلى» (5/169).

(2) أخرجه الدينوري في «المجالسة وجواهر العلم» (1/124) حديث (727) من قول العباس بن عبد المطلب .

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend