حول حادثة تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية

سؤالي عما وقع في الإسكندرية بعد منتصف الليلة الماضية من تفجير أودى بالعشرات، ما موقف الشَّريعة منه؟ وكيف ينظر إليه في سياق الأحداث العالميَّة والمحلية؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:

فإن الحادث قيد التحقيق، وليس لنا أن نستبق نتائِجَه، ولكننا نقول: إن الحدث أيًّا كان مرتكبه مصريًّا كان أو غير مصري، مسلمًا كان أم غير مسلم، يعد جَهَالةً جهلاء، وضلالة عمياء، وجريمة نكراء، تُدينها الشَّريعة الإسلاميَّة والنظم الوضعية، ولسنا في خنْدَق مرتكبيه أيًّا كانت دوافعهم، ومهما تبهرجت تأويلاتهم.

فقد تقرر في بَدَهيات الشَّريعة حُرمة دماء كل من تربطنا به رابطة المواطنة من المعاهدين، وكل من قدِمَ إلى بلاد الإسلام زائرًا أو تاجرًا أو سائحًا من المستأْمَنين، وأن حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم من جنس حرمة دماء المسلمين وحرمة أعراضهم وأموالهم، وأن من قتل معاهدًا في عهْدِه لا يَقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، وأنه لا يحلُّ لمسلم أن يحنَثَ في عهده.

فالغدْرُ قبيح عند الأمم كلِّها، فضلًا عن هذه الأمة التي تتبوأ مقام الشهادة على الأمم قاطبةً، ولكلِّ غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته(1).

وقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم  أن من خِصال المنافق: إذا عاهد غدر(2). وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَـمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْـجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»(3).

ولمن يحتجُّون بأنه قد بدَتْ بوادرُ الفتنة من قِبَلِ فريق من غيرِ المسلمين تمثَّل ذلك فيما ارتكب من أحداثٍ ضد بعض المسلمين الجدد، وتعقب قومهم لهم، ودخول بعض القيادات الدينيَّة غير المسلمة في هذا المعترك بما أثار الحفائظ وأشعل الحرائق، فإننا نقول: إنما يبوء بإثم ذلك وبعقوبته من تولى كِبْرَه وتورَّط فيه، وظاهَرَ عليه، ولكن لا تعمَّم تبعاته بحيث تطال البريء والظِّنِّين، ويَحترق بنيرانه الباقي على عهده والناقض له.

ونحن المسلمين نقرأ على النَّاس في كتابنا قول الله تعالى: ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [النجم: 36- 38].

ولقد علم العقلاء أن بدايات الفتن الكبرى كانت أحداثًا من هذا النَّوع سرعان ما تطايَرَ شررُها واستفحل خطرها حتى أتت على الأخضر واليابس، وقد رأينا شؤم الغدر في تاريخنا وما جرَّهُ على الأمة من الويلات والنكبات، ولا تنسَ ذاكرةُ التَّاريخ ما جرى للأمة من شنائع ومجازر على أيدي التتار، وقد كان أول ذلك حماقة ارتكبها بعضُ الحمقى، وغدرًا ببعض رسل التتار، وقد دفعت الأمة ثمن ذلك فادحًا فيما توالى بعد ذلك من أهوال جسام تقشعر لهولها الأبدان.

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: «وقد قَتَل جنكيز خان من الخلائق ما لا يعلم عددُهم إلا الذي خلَقهم، ولكن كان البداءة من خوارزم شاه… فإنه لما أرسل جنكيز خان تجارًا من جهته معهم بضائع كثيرة من بلاده فانتهوا إلى إيران، فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه وأخذ جميع ما كان معهم فأرسل جنكيز خان إلى خوارزم شاه يستعلمه: هل وقع هذا الأمر عن رضىً منه، أم أنه لم يعلم به فأنكره… وقال فيما أرسل إليه: من المعهود من الملوك أن التجار لا يُقتلون؛ لأنهم عمارة الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إن هؤلاء التجار كانوا على دينك- كانوا مسلمين- فقتلهم نائبك، فإن كان أمرًا أمرتَ به طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تُنكره وتقتصُّ من نائبك، فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيز خان، لم يكن له جوابٌ سوى أنه أمر بضرب عنقه، فأساء التدبير، وقد كان خرف، وكبرت سنه، وقد ورد في الحديث: «اتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ»(4)، فلما بلغ ذلك جنكيز خان تجهز لقتاله وأخذ بلادَه، فكان بقدر الله تعالى ما كان من الأمور التي لم يسمع بأغرب منها ولا أبشع»(5).

إن مفاسد مثل هذه الأحداث وشؤم نتائجها على الأمة والملة بادية للعيان، فهي تكرس الاحتقانات الطائفية، وتعوق مسيرة الدَّعْوة إلى الله عز وجل ، وتعطي للحمقى والشَّانئين من غير المسلمين مادة ملتهبة يُشعلون من خلالها الحرائق، ويبثون من خلالها الأراجيف والأباطيل، فهل ينتهي العابثون؟! وهل يرعوي الغلاة والخاطئون؟! اللَّهُمَّ غفرًا. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.

____________

(1) ففي الحديث المتفق عليه: الذي أخرجه البخاري في كتاب «الجزية» باب «إثم الغادر للبر والفاجر» حديث (3188)، ومسلم في كتاب «الجهاد والسير» باب «تحريم الغدر» حديث (1735) من حديث ابن عمر رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِذَا جَمَعَ اللهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ».

(2) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «الإيمان» باب «علامة المنافق» حديث (34)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان خصال المنافق» حديث (58)، من حديث عبد الله بن عمرو ب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ».

(3) أخرجه البخاري في كتاب «الجزية» باب «إثم من قتل معاهدًا بغير جرم» حديث (3166) من حديث عبد الله بن عمرو.

(4) أخرجه الطبراني في «الكبير» (19/375) حديث (882) من حديث معاوية بن أبي سفيان، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/304) وقال: «رواه الطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات».

(5) «البداية والنهاية» (13/119).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend