حول ترشيد السعي نحو التغيير المنشود في مصر

المشهد المصري وتطورات الأحداث فيه، والحاجة إلى بيان شرعي يضع الأمور في نصابها، ويجلي الموقف للحيارى والمرتابين، ويُعين العاملين على تلمُّس الطريق الصحيح.

إننا ننتظر صدور مثل هذا البيان الذي نرجو ألا يأتي متأخرًا؟ فهل نراه أو نسمع عنه عما قريب؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا قد أصدرت لجنته الدائمة للإفتاء بيانًا في هذا الصدد أسوقه لك بنصه ومنه يعلم الجواب بارك الله فيكم.
بيان من المجمع حول ترشيد السعي نحو التغيير المنشود في مصر.
· نهنئ إخوتنا في مصر بما أسبغ الله عليهم من نعمه، وما توج به تظاهراتهم السلمية واحتسابهم على الظلم والظالمين من نصر وتمكين، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ونسأل الله أن يتم عليهم نعمته، وأن يوفقهم في مرحلة البناء والإعمار كما وفقهم في مرحلة كسر شوكة الظلم والاستبداد، فإن الحياة في سبيل الله أشقُّ من الموت في سبيل الله! ونحتسب عنده جل وعلا من اصطفاهم إلى جواره من شباب هذه الحركة ممن سقطوا ضحايا الجور والطغيان، ونسأل الله أن ينزلهم منازل الشهداء، وأن يفرغ على قلوب ذويهم الصبر والسلوان.

وتهنئة خاصة للقوات المسلحة على ما وفقها الله إليها من الانحياز للحق، فلم تكن درعًا للظالم يستعين بها على مزيد من البطش والتنكيل، بل كانت بتوفيق الله عز وجل  درعًا للمظلوم يتقي به من ظالمه، وسوف يتحدث التاريخ عن هذه الموقف الباسل النبيل، سوف تحكيه الأمهات لأولادهن، وسوف تختزنه ذاكرة الأيام والليالي ما بقي الليل والنهار! ومن قبل هذا ومن بعده نرجو أن يجدوه نورًا يسعى بين أيديهم يوم يلقون ربهم بإذن الله، فلهم على ذلك كل الشكر والامتنان والتقدير.
· ونؤكد في البداية على ضرورة الاجتهاد في تصحيح النيات، وجعل هذه الأعمال خالصة لله جل وعلا، يراد بها التماس مرضاته، وإقامة العدل الذي يحبه ويرضاه، والذي من أجله أرسل رسله وأنزل كتبه، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾) [الحديد: 25]. وقد سئل صلى الله عليه وسلم  عن الرجل يقاتل شجاعةً ويقاتل حميَّة ويقاتل رياء، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله»(1).
· لقد انتقل المصلحون اليوم من المتشابه إلى المحكم، ومن الظني إلى القطعي، فقد انتهى الاختلاف حول مشروعية الاحتجاجات السلمية أو عدم مشروعيتها، والتقى الجميع في خندق الإصلاح والإعمار بعد انكسار شوكة الظلمة والمفسدين، فينبغي أن يحرص أهل الدين ومحبو الإصلاح على أن يجتمعوا على كلمة سواء، وأن يفرزوا من بينهم قيادة واعية تحدد أجندة الإصلاح المنشود، وتضع لها أولويات وبرامج زمنية، فلا أضر على المسيرة في هذه المرحلة من التنازع وفساد ذات البين!
· لقد اشترك في هذه الثورة أطياف سياسية وحزبية ودعوية مختلفة، ويعسر استبعاد فصيل منها، بل لعل من أسباب نجاح هذا العمل عفويته، اجتماع مختلف أطياف المجتمع عليه، فلا حرج أن يتداعى أهل الدين إلى الاجتماع فيما بينهم على كلمة سواء، وأن يلتقوا مع غيرهم على حِلْف فُضُولٍ جديد(2)، يتفقون فيه على نصرة المظلوم والضرب على يد الظالم، وحماية الكرامة الإنسانية، والتخلية بين الدعاة وبين الأمة: يبلغونها رسالات الله، ويقومون فيها بحجة الله على عباده، ويستفيض فيها البلاغ بما لا يسع
أهل الإسلام جهله من حقائق الدين عقائد وشرائع، بلا تخوف ولا ترقب، وأن يتفقوا على حد أدنى من الإصلاحات الممكنة، وأن يتفقوا على من يمثلهم في تقديمها والدفاع عنها ببصيرة وروية وأناة!

أن ما ينشده أهل الدين من الإصلاح قد لا يتيسر تحقيقه دَفْعةً واحدة، فلا حرج في التدرح المُجَدْول الهادف الذي يقبل بالميسور، ويسعى في التماس المعسور بأسبابه المشروعة والممكنة، وفي سيرة خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز وتدرجه في معالجة الأمور عبرة ومنهاج.
· أن عملية صياغة الدستور ينبغي أن تُجسِّد هوية الأمة، وأن تعكس رسالتها، وأن توفر من الآليات ما يقطع الطريق على الظلمة والمفسدين الذين جاسوا خلال الديار، وأكثروا فيها الفساد طوال هذه العقود المنصرمة، إنها خارطة الطريق التي نرسم بها مستقبلنا، ونتركها ميراثًا هاديًا لأبنائنا وأحفادنا، فينبغي أن تتكاتف الجهود لإنضاجها وتسديدها.
· وعلى رأس هذه الأولويات في صياغة الدستور التأكيد على هوية الدولة الإسلامية، فَدِينُها الرسمي هو الإسلام، والشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس للتشريع، وغير المسلمين من المواطنين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وهم شركاء في الوطن، وتختص محاكمهم الملية بالنظر فيما يتعلق بأحوالهم الشخصية، ولهم على الوفاء بحقوقهم ذمة الله ورسوله.
· ومن هذه الأولويات حماية الحقوق والحريات العامة، وإلغاء القوانين الاستنثنائية كافة التي تكرس الطغيان وتصادر الحريات، والنص على حق الأمة في مقاومة الاستبداد من خلال الاحتجاجات السلمية، وتحديد حدٍّ أقصى لمدة رئاسة البلاد، ليعود الأمر بعده إلى الأمة، فإن رئاسة الدولة عقد من العقود تقيد بما تقيد به سائر العقود، والتأكيد على استقلالية القضاء، واختصاصه بالإشراف على الانتخابات، وبالفصل في الطعون التي ترد على انتخاب أعضاء البرلمان، ونحو ذلك من الضمانات الدستورية التي يقررها أهل الاختصاص من خبراء القانون الدستوري في جماعة المسلمين.
ومنها السعي الجاد في استرداد الأموال المنهوبة والمغتصبة وردها إلى خزانة الدولة من خلال الملاحقات القضائية العادلة، فما جاع فقير إلا بجَوْر غنيٍّ واستطالته على حقوق المعدمين، فبلادنا بفضل الله عز وجل  ليست منكوبة بشحِّ مواردها، ولكن بجَوْر مُترَفِيها ومنعهم الحق واستلابهم حقوق الآخرين.
الحرص على تماسك النسيج الوطني وتجنُّب الاحتقانات الطائفية، ولنا في صحيفة المدينة(3) أسوة، وفي الخلطة التي كانت بين المسلمين وغير المسلمين في مجتمع المدينة عبرة، وفي التعايش السلمي الذي قام في مصر إبان أيام الثورة وما بعدها من أمن وأمان برغم أن كل كنائس مصر كانت بلا حراسة- تجربة عملية تدحض كل محاولات التشويش والإثارة، وإعلان البر والقسط ميثاقًا يحكم العلاقة مع المسالمين لأهل الإسلام من غير المسلمين، والتأكيد على رابطة المواطنة بين من يعيشون على تراب
هذا الوطن وإشاعة هذا ثقافة وفكرًا صمام أمان يحول دون نشأة هذه الاحتقانات أو تناميها.
· إذا لم يتهيأ العمل الإسلامي، أو لم يتهيأ له المناخ بعد لكي يباشر مواقع تنفيذية متقدمة، كرئاسة دولة أو تشكيل وزارة، فحسبه في هذه المرحلة أن يبقى في إطار الدعوة والاحتساب، والمشاركة النسبية التي تُجنِّبه وتجنب مَن وراءه من جماعة المسلمين تكالب المجتمع الدولي وتداعيه لإجهاض الدعوة إلى الإصلاح واستباحة بيضة المصلحين.
· وأخيرًا فإننا نُوصي التذرع بالصبر وطول النفس، فإن حجم الفساد الذي تغلغل في أعماق أمتنا مُروِّع، وهو ضارب بجذوره في أرجائها، وقد مضت عليه عقود متطاولة من الزمن، واقتلاع جرثومته يحتاج إلى جهود مضنية متواصلة لا تعرف السأم ولا الملل، ولا يصلح معها الارتجال أو التعجل.

والله مِن وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل. والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «التوحيد» باب «قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ﴾ حديث (7458)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا» حديث (1904)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه .
(2) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (6/367) حديث (12859) مرسلًا من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف: وذكره ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (7/325) وقال: «هذا الحديث صحيح».
(3) انظر: «السيرة النبوية» لابن هشام (3/34).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend