حول أكاذيب الإعلام وترويج الإشاعات عن الإسلاميين وحكمهم

نرجو التفصيل في مسألة: ما يصلح وما لا يصلح كمسوغ لحكم، مثل الدليل والقرينة والشاهد، فلجهلنا بهذه الأمور اغتالتنا أكاذيب الإعلام وأشباه العلماء والمتعالمين ولبَّسُوا على الناس دينهم وورطوهم في شهوة القضاء والحكم على الناس والتيارات، وإصدار أحكام جائرة بدون علم وبدون تأهل.
فبرجاء زيادتنا في هذا الباب فالحاجة إليه شديدة والمصادر بعيدة عن منال العوام، وتحتاج فهم راسخ وقراءة متخصصة متعمقة. فهل لنا من ملخص خفيف بلغة العصر؟ جزاكم الله خيرًا.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: سيأتي على أمته سنوات خداعات، يكذَّب فيها الصادق، ويصدَّق فيها الكاذب، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ»(1).
وفي مثل هذه الأوقات العصيبة يكثر التَّقاوُل بالشائعات، والتقاذف بالتُّهم والمناكر بلا بينة ولا برهان، فيكذَّب الصادق، ويصدَّق الكاذب، ويؤتمن الخائن، ويخوَّن الأمين، وقد رأينا استماتة إعلام الفتنة في شيطنةِ العمل الإسلامي ورجالاته ومؤسساته، بطريقة يعجز عن مثلها أشدُّ الشياطين مكرًا ودهاءً، ويا ويل هؤلاء من يومٍ يعرضون فيه على ربهم، ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم(2).
وقد جاء الوعيد في مَن تتبع العورات، واغتاب الناس بما هو فيهم؛ فعن أبي برزة الأسلميِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْـمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ»(3). فكيف بمن افترى عليهم واختلق لهم العيوب والشنائع؟!
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «شِرَارُ عِبَادِ الله الْـمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْـمُفَرِّقُونَ بين الأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ»(4).
وقد أمرت الشريعة بالتثبُّت، وحذرت من التخوُّض في أعراض الناس بالباطل، والاستطالة فيها بغير حق، فـ«إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْـمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ»»(5). فقال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6] [الحجرات: 6]. وفي قراءة أخرى: «فتَثَبَّتُوا»(6).
وحذرت من إشاعة الشخص لكل ما يسمعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالْـمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»(7). وفي رواية: «كَفَى بِالْـمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»(8).
قال النووي: «فإنه يَسمع في العادة الصدق والكذب، فإذا حدَّث بكل ما سمع فقد كذَب لإخباره بما لم يكن، والكذب الإخبارُ عن الشيء بخلاف ما هو ولا يشترط فيه التعمُّد»(9). انتهى.
وفي الحديث الآخر وهو في «السلسة الصحيحة» عن أبي قلابة قال: قال أبو مسعود لأبي عبد الله أو قال أبو عبد الله لأبي مسعود: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا»(10).
قال العظيم آبادي: «(بئس مطية الرجل) المطية معنى المركوب (زعموا) قريب من الظن؛ أي أسوأ عادة للرجل أن يتخذ لفظ (زعموا) مركبًا إلى مقاصده فيخبر عن أمر تقليدًا من غير تثبُّت فيُخطئ»(11).
وعن المغيرة بن شعبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنَعَ وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْـمَالِ»(12).
ومن معاني «قيل وقال» التي أوردها الحافظ ابن حجر رحمه الله: «إرادة حكاية أقاويل الناس والبحث عنها ليخبر عنها، فيقول: قال فلان كذا. وقيل كذا. والنهي عنه إما للزَّجر عن الاستكثار منه وإما لشيء مخصوص منه وهو ما يكرهه المحكي عنه»(13).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: إياكم والفتن، فإن وَقع اللسان فيها مثل وقع السيف(14).
وإذا كانت الاغتيالات الجنائية من جنايات الإرهاب الكبرى فإن الاغتيالات الأدبية والمعنوية والسياسية من جنسها، وقد يكون بعضُها أفحشَ منها؛ وذلك عندما تطلق نيران التشويه والشيطنة على بريءٍ غافلٍ، وتختلق له المعايبَ والفضائح، فتمزق أوصاله الأدبية والمعنوية، فتستقبل الملائكة هذه الزخَّات المتتابعة من الفجور لتسجلها كما تولى صاحبها كبرَها، لتُعرض عليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة(15)، يوم يجعل الولدان شيبًا، وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى، وقد خاب من حمل فيه يومئذ ظلمًا.
ومن وعَى دروس التاريخ يُدرك خطر الشائعات، وشؤم آثارها في الأمة!
• ففي حادثة الإفك تخوَّض في هذه الحادثة من تخوض، ووجد منها بيت النبوة كروبًا وآلامًا مبرحة حتى تنزل الفرَجُ ببراءة أمنا عائشة من فوق سبع سماوات(16).
• ويوم أحد كادت الشائعةُ التي فشت في الناس يومئذ أن رسول الله قد قُتِل- أن تفتَّ في عضد المؤمنين، وأن تزلزل الأرض من تحت أقدامهم، لولا فضل الله جل وعلا ورحمته(17).
• وما أشيع بعد الهجرة إلى الحبشة من أن قريشًا قد كفَّت أذاها عن المؤمنين، أدى إلى عودة كثير منهم ليروا أصنافًا من الأهوال تنتظرهم على أيدي جلاوزة مكَّة وأكابر مجرميها.
• وما أخبر به الوليد بن عقبة من أن بني المصطلق منعوا زكاةَ أموالهم وتجهزوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، كادَ أن يحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتالهم، لولا عصمة الله تعالى له، وتنزل الوحي ببراءتهم(18).
ومن أجل هذا فإنه يتعين التحلي بالروية والأناة، فـ«الْأَنَاةُ مِنْ الله وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ»(19). وأن يتثبَّت المرءُ ممَّا يسمعه، فلا يرويه ولا يُشيعه، بل ولا يعتقده أو يصدقه إلا بعد تحقيق وتمحيص، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6]. وفي قراءة أخرى: « فتثبتوا».
يقول الحسن البصري: المؤمن وقَّاف حتى متبين(20).
والتبيُّن: هو التأكد من حقيقة الخبر، واستفراغ الوسع والجهد في معرفة ظروفه وملابساته، فقد جعل الله للمسلم لسانًا وأُذنين، لكي يكون حديثُه على النصف من سماعه. والله تعالى أعلى وأعلم.

_____________________

(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب «الفتن» باب «شدة الزمان» حديث (4036) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (4036).

(2) قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18].

(3) أخرجه أحمد في «مسنده» (4/420) حديث (19791)، وأبو داود في كتاب «الأدب» باب «في الغيبة» حديث (4880)، وذكره العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (1/499) وقال: «أبو داود من حديث أبي برزة بإسناد جيد».

(4) أخرجه أحمد في «مسنده» (4/227) حديث (18027) بلاغًا عن عبد الرحمن بن غنم رحمه الله، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/93) وقال: «رواه أحمد وفيه شهر بن حوشب وبقية رجاله رجال الصحيح».

(5) أخرجه مسلم في كتاب «الأدب» باب «في الغيبة» حديث (4876) من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4876).

(6) قراءة حمزة والكسائي. انظر «حجة القراءات» لابن زنجلة ص209.

(7) أخرجه مسلم في «المقدمة» باب «النهي عن الحديث بكل ما سمع» حديث (5) مرسلًا من حديث حفص بن عاصم رحمه الله.

(8) أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في التشديد في الكذب» حديث (4992)، وابن حبان في «صحيحه» (1/213) حديث (30) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2025).

(9) انظر «عون المعبود شرح سنن أبي داود» (13/229).

(10) أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في قول الرجل: زعموا» حديث (4972) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4972).

(11) «عون المعبود شرح سنن أبي داود» (13/214).

(12) أخرجه البخاري في كتاب «في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس» باب «ما ينهى عن إضاعة المال» حديث (2408).

(13) «فتح الباري» (10/407).

(14) أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس» (1/386).

(15) قال تعالى: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4].

(16) قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور: 11]الآيات.

(17) انظر «سيرة ابن إسحاق» (3/309) رقم (509).

(18) انظر «تفسير الطبري» (26/123) عند تفسير قوله تعالى: ﴿ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6] .
(19) أخرجه الترمذي في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في التأني والعجلة» حديث (2012) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

(20) انظر «مجموع الفتاوى» (10/382).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend