تسويات سلمية ومبادرات سياسية لحلِّ الأزمة المصرية بين الانقلاب والشرعية

هل لا يزال هناك أمل في الحديث عن تسويات سلمية ومبادرات سياسية لحلِّ الأزمة المصرية الرَّاهنة بعد كل هذه الدماء والجرائم غير المسبوقة في تاريخ البشر؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فسوف تظلُّ دعوتنا إلى تسويةٍ سلميةٍ للأزمة قائمةً وإن كره ذلك من كره، وأدبر عن ذلك أو استكبر عنه من أدبر أو استكبر، وسوف يظل ابتهالُنا إلى الله عز وجل للتوفيق لتحقيق ذلك قائمًا، مهما تطاول ليل هذه الأزمة، وتكاثفت ظلمته، ولم يغب عن ذهننا مع ذلك كله أن المسافة قد تكون بعيدةً جدًّا في بعض الأحيان بين الأمل والواقع.
لقد طرحت مبادرات كثيرة في ظروف كانت أفضل للتفاوض من هذه الظروف، ولقيت تجاهلًا وصلفًا وعنادًا، فكيف بها عندما تعرض اليوم، وقد سكر القوم بنشوة استطالتهم، واستباحتهم للحرمات؟! بل ولا نبرئ قومَنَا من تصلُّبٍ غير محمود في ذلك.
وما كان ما اقترحه الدكتور محمد سليم العوا، والمستشار طارق البشرى، وغيرهم من رجال القانون والعلم والسياسة من مبادرة للخروج من الأزمة المصرية، ووقع عليه جمعٌ من الشخصيات الوطنية والفكرية والعلماء والناشطين المصريين، وما جاء في صدر بنودها تفويض رئيس الجمهورية سلطاته الكاملة، لوزارة مؤقتة جديدة يتمُّ التوافق عليها في أول جلسة سياسية، ودعوة هذه الوزارة المؤقتة في أول اجتماع لها لانتخابات مجلس النواب خلال 60 يومًا. ثم تشكيل وزارة دائمة بعد الانتخابات، لتجرى بعد ذلك الانتخابات الرئاسية والتعديلات الدستورية المنشودة- أقول: ما كان ذلك بِدعًا من التاريخ الحديث، وطريقة معالجة الكبار لما يمرُّ بهم من أزمات تاريخية!
لقد شهد تاريخ بلاد الحرمين أزمةً كبرى بين الملك سعود رحمه الله وإخوته، وكان قد اتُّهم بتَقْدِمِيَّتِه وميوله الناصرية، واحتدم الصراع بينه وبينهم، وازداد الأمر توتُّرًا بما ذكر يومها من قيام الطيران المصري بالإغارة على مدينة جيزان ونجران، لضرب القوات السعودية التي كانت متوجهة إلى اليمن لمساعدة الإمام يحيي ملك اليمن، لاستعادة عرشه المسلوب على أيدي الضباط الأحرار اليمنيين، ومساعدته على إخماد الفتنة أو الانقلاب في اليمن.
وأيًّا كانت بواعث هذا الصراع وملابساته، فالذي يهمنا من هذا المشهد كيف عالج الكبار هذا الشقاق، وكيف احتووا هذه الأزمة!
لقد انعقد مجلس العائلة الحاكمة لآل سعود بزعامة الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود، وبحضور العلماء، وأهل الحلِّ والعقد في المملكة العربية السعودية، وبحضور أيضًا الأمير محمد بن عبد العزيز آل سعود أكبر الأشقاء بعد الأمير فيصل، وبحضور مفتي الديار السعودية: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وأصدروا فتواهم في تاريخ 29/3/1964 بنقل السلطات الملكية من الملك سعود بن عبد العزيز إلى أخيه الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود وليِّ العهد، ويبقى الملك سعود ملكًا له حق الاحترام والإجلال.
فنُقِلت الصلاحيات تعاملًا مع الواقع، وبقي الاحترام والإجلال للملك سعود محافظة على الأواصر، ودرءًا للفتنة، وظلَّ الحالُ على ذلك قرابة ثمانية أشهر حتى الثاني من نوفمبر من عام 1964 حيث اجتمع العلماء والقضاة والأمراء من آل سعود واستعرضوا التطورات الأخيرة- الانقلاب في اليمن، وقصف مدينة جيزان ونجران من قبل السلاح الجوي المصري- والخلاف بين الإخوة: الملك سعود وأخيه الأمير فيصل ولي عهده، وقرروا خلع الملك سعود من الحُكم، وتنصيب الأمير فيصل بن عبد العزيز ملكًا على المملكة العربية السعودية.
تصرُّفٌ شارك فيه أهلُ الحل والعقد جميعًا، من أهل العلم وأهل القدرة، ورست به سفينة المملكة يومئذ على الجودي، وما علمنا أنه أريقت فيه يومئذ قطرة دم واحدة. فليتنا نأخذ العبرة، ونصغي إلى صوت الشرع والعقل، ونداء الفطرة والبصيرة.
وليس في هذا المثال تشبيهٌ لشخص بشخص، ولا حتى لظروف بظروف، وإنما تنويهٌ على أن فكرةَ التفويض لجهة توافقية، تواصل المسير فكرة جُرِّبَت من قبل، وحقنت بها الدماء.
وعجبت من التقارب بين الطريقة التي طرحت في المبادرة المصرية، وتلك التي طرحت آنذاك في بلاد الحرمين، على الرغم من بعد المسافة الزمنية التي تكاد تصل إلى ربع قرن، وقدرت أنه يمكن استدعاؤها والاستشهاد بها كموروث بشري وحضاري، إذا صدقت النيَّات لإيجاد مخارج سلمية للأزمات السياسية.
قد يقال: إن الوقت قد باتَ متأخرًا جدًّا للحديث عن مبادرات سياسية لتسوية الأزمة، بعد أن أصبح السيفُ هو الحكم، فأريقت الدماء، وأحرقت الجثث، وأصبح جلُّ المعارضين والمتظاهرين ما بين قتيل وجريج وسجين، وطريد، وأعمت سكرة القوة ونشوتها الأبصار والبصائر.
ولكنا لن نمَلَّ من النصح لأمتنا ومن آلت إليه الأمور فيها، استنقاذًا للبقية الباقية من العافية، أو الرمق الأخير في لُـحمة هذا الوطن المنكوب.
إن الحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن القيادة العسكرية ومن ظاهرها على بغيها أن أهل الدين يمثلون عمليًّا أغلبية في هذا البلد، فإذا داسوا مشاعر هؤلاء جميعًا، واغتروا بضجيج اللبراليين والعلمانيين من حولهم، فإنهم يصدرون ميراثًا من الأحقاد والبغضاء للأجيال القادمة، ويزرعون ملايين حقول الألغام في بنية هذا الوطن المنكوب.
وهذا الذي يدركه المراقبون للأزمة المصرية من الخارج، ويأبى الصلف والكبر على بعض قومنا أن يُدرِكه؛ فلِلَّه ثم للتاريخ: أدركوا هذا الوطن قبل أن يختنق الأمل، ويحترق الشعاع.
حاشية:
كاتب هذه الكلمات يُقسم بالله أنه ما انتسب إلى الإخوان، ولا إلى غيرهم من فصائل العمل الإسلامي ساعة من نهار، طوال عمره كله الذي أوفى على الستين، ولقد كان أول عهده بالاحتكاك بالعمل الجماعي هو ردُّه على جماعة التكفير والهجرة في بداية السبعينات، وبيان خروجها عن منهج أهل السنة، وما أعقب ذلك من اعتدائهم عليه، ثم بقي على نصح خارجي لكل فصائل العمل الإسلامي الجماعي، دون أن ينتسب إليهم، ولا أن يستوعبه فصيلٌ منهم، وليس هذا تجريمًا للعمل الجماعي إذا التزم بضوابط الرشد، وصاحب هذا المقال له كتابات عديدة في تفصيل القول في هذه القضية، ولكن كلٌّ مُيَسَّر لما خلق له، والمقصود هو بيان الحقيقة للتاريخ، وأن هذا النصح الذي نسوقه في هذا المقام لا تشوبُه بواعث حزبية، ولا علائق تنظيمية. والله من وراء القصد.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend