بين صراعات الأطياف السياسية وما يؤول إليه مستقبل مصر

نريد منكم الرأي فيما يدور في مصر من أحداث، وباختصار: أين أنت من هذه الأحداث؟ وما هي قراءتك لها؟ وما هو الواجب على الفرد المسلم أن يفعله؟ لأن هناك بعض الشباب يدور في حيرة مهلكة، ومنهم من تأخذه الحمية والحماس إلى ما لا يحسب له حسابًا من الناحية الشرعية؟ أفيديونا بارك الله فيكم.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فنحن أمام موجة عاتية من أمواج الفتن، تمس الحاجة فيها إلى بصيرة الفقهاء وحكمة الحكماء، والمخرج منها هو السعي إلى وحدة موقف يجمع بين كل أطياف هذا المشهد، على مشترك من الخير العام تستوعبه اللحظة الراهنة، ويضمن لشركاء الوطن جميعًا السعي الحثيث والجاد نحو ما ينشدونه من الحرية والكرامة، وما يتطلعون إليه من العدالة الاجتماعية والكفاية الاقتصادية، وليكن رائد الجميع في هذا قوله صلى الله عليه وسلم  يوم الحديبية: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ الله إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»(1)، وقوله صلى الله عليه وسلم  عن حِلف الفُضُول: «لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ الله بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ دُعِيتُ إِلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ»(2). ثم يتابع أهل الرشد والبصيرة استكمال مسيرة الإصلاح والمنشود إن شاء الله.
هناك أطراف في هذه المحنة، لا يمكن تجاوز فريق منهم: المجلس العسكري، الإسلاميون بفصيليهم الإخوان والسلفيين، الكتلة المصرية بكل ما تضمه من ألوان الطيف الليبرالي، الأقباط، بقايا النظام السابق، سواءٌ من بقي منهم في بعض المواقع التنفيذية، أم من بقي في مكمنه يراقب ويتابع، أو يخطط ويتآمر.
وهناك مطالب وطنية عامة لا يمكن تجاهلها: القضاء على الفساد، والمحاكمة العادلة لرموزه، وتطهير مؤسسات الدولة منهم، القصاص العادل للشهداء والضحايا، والتعويضات العادلة للمتضررين والمنكوبين، استكمال المؤسسات الدستورية للدولة… إلخ، وكل محاولة لعرقلة تحقيق هذه المطالب فهي انقلاب على الحق، ومشاركة في تأجيج ميزان الفتنة، وحركة في الاتجاه الخطأ.
الرأي عندي أن يتداعى الناس إلى عهدة وطنية، أو إلى ميثاق مواطنة، وأن يتولى الدعوة إلى ذلك هيئة عليا تحت مظلة الأزهر أو غيره من المؤسسات الوطنية، وأن تؤسس هذه الدعوة على الأصول الآتية:
الأول: أننا نؤكد على سلامة الفطرة البشرية، التي فطر الله تعالى الإنسان عليها؛ فقد خلقه محبًّا للخير مبغضًا للشر، يأنس إلى العدل، وينفر من الظلم، وإن بعد البشرية وإعراضها عن هدي الله عز وجل  وهدي رسله صلوات الله وسلامه عليهم هو السبب الرئيس لما تكابده البشرية من الشقاء الذي يهدد مستقبلها، ولا منقذ من ويلاته إلا أن تصيخ السمع للنداء الإلهي ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فلَا يَضِلُّ ولَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 123- 124].
الثاني: نؤمن بأن أصل الإيمان بالله ووحيه مستقر في قلوب السواد الأعظم من أبناء هذا الوطن جميعًا، وأن من يتخوفون من ذلك أو يجادلون في تطبيقه يخشون من سوء القراءة أو سوء التطبيق، وأقل القليل منهم هو الذي يضمر سوءًا للشريعة خاصة وللتدين عامة.
إن الخبرة التراكمية للعاملين في حقل الدعوة الإسلامية تؤكد هذه الحقيقة، وإن من الإنصاف أن نُصغي لمخاوف المعارضين وهواجسهم وأن نتحاور معهم حولها، ولا شك أن أول الطريق إلى الخروج من هذا الفصام النكد بين الضمير والواقع هو السعي الجاد لإزالة هذه التخوفات، وقطع الطريق على المرجفين والذين في قلوبهم مرض، وأن نُري الناس جميعًا مسلمين وغير مسلمين من جمال الشريعة ويسرها وسماحتها ظاهرة في سلوكنا وممارساتنا الاجتماعية والسياسية، ما يطمئن به الخائفون ويستيقن به المرتابون.
الثالث: أننا نؤمن أن الإسلام يمتلك حلولًا حضارية ربانية للأزمات المحلية والعالمية، وهي حلول ترتكز في الجملة على الإيمان بالله وحده، والتماس الهدي في وحيه المُنزَّل على خاتم أنبيائه.
إن المشروع الإسلامي للحضارة يستند إلى هذا اليقين الجازم بصلاحية هذا المنهج لكل زمان ومكان، وإن من الظلم للبشرية أن يحجب عنها هذا النور الذي تستضيء به في ظلمة هذه المادية العاتية؛ قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: 15- 16].
الرابع: نؤمن بأن كثيرًا من مسائل إدارة الدولة هي مما تركته الشريعة عفوًا، وأحالت فيه إلى التجارب البشرية والحضارات الإنسانية، وهي تمتلك بدورها رؤى ونظريات واجتهادات بشرية لمواجهة كثير من التحديات السياسية المعاصرة، ومن ذلك ما هو مشترك إنساني عام، تباركه الرسالات السماوية، وتتفق على أصوله الفطر البشرية، والفلسفات الوضعية، كرفض الظلم والعدوان، وانتهاك حقوق الإنسان، والتفكك الأسري، وإثارة الاحتقانات الطائفية، والإضرار بالبيئة البشرية… إلخ.
الخامس: نوقن أن الحوار الجاد- في إطار الإيمان بالله ورسله- لاكتشاف هذه المشتركات الإنسانية واستثمارها، والتفاهم حول قضايا التباين الأخرى، مقدمة حتمية لتطويق الاحتقانات الطائفية بين شركاء الوطن الواحد، التي تنشئها القراءات المتعجلة والفهم المغلوط، كما أنها مقدمة حتمية كذلك لحسن التعامل مع الأزمات المعاصرة بصفة عامة، وحماية البشرية من أضرارها، محليًّا وعالميًّا، وفي صحيفة المدينة التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم  مع جميع الطوائف في المدينة وما حولها مثال على ترسيخ قيمة المواطنة(3)، وفي قوله صلى الله عليه وسلم  يوم الحديبية: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ الله إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» مثال على ترسيخ قيمة السعي للتعاون العام على الخير، والالتقاء على المشترك منه.
السادس: أن الحوار المجتمعي بين كل تياراته وقواه ينبغي أن يبقى سلميًّا، وألا يسمح لأي تيار أن يلجأ للعنف أو لحمل السلاح بأي شكل من الأشكال، وإذا تعدى أي تيار على سلطة الدولة، فإن من حق السلطة الحاكمة أن تتعامل معه بكل صرامة وبما يقطع دابر الفتنة.
السابع: أن التواصل المنشود لا يعني التنازل عن المسلمات، ولا التفريط في الثوابت الدينية، ولا التلفيق بين الملل والنحل؛ إذ لا يلزم للتعاون على المشتركات الحضارية أن يكفر أحد الفريقين بثوابته ليلتقي مع الآخر، وإنما يعني التعاون على ما فيه خير الإنسان وحفظ كرامته وحماية حقوقه، ورفع الظلم ورد العدوان عنه، وحل مشكلاته، وتوفير العيش الكريم له، وهي مبادئ مشتركة جاءت بها الرسالات الإلهية، وأقرتها الدساتير الوضعية، وإعلانات حقوق الإنسان الدولية، فالتواصل يجري وفق القاعدة القرآنية: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6].
الثامن: أن هذه العهدة تعلن انفتاحها وتواصلها مع أبناء الوطن جميعًا، وتمد يدها إليهم كافة؛ لأن رسالة الإسلام إلى الناس كافة؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
فقد جعل الله الأرض مشتركًا بين عباده جميعًا، وجعل رزقها متاحًا لخلقه أجمعين، وفي مفتتح كتاب المسلمين: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، وفي خاتمته ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس: 1]، وتقرأ من خلال المبدأ والختام عموم الربوبية وشمول مقتضياتها للخلق أجمعين، فأرض الله تقل عباده جميعًا، وسمواته تُظلُّهم جميعًا، ورزقه يتسع لهم جميعًا ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: 20].
التاسع: أن التواصل قائم ومستمر مع أتباع الرسالات السماوية والفلسفات الوضعية؛ كما أنه شامل لجميع الأصعدة: السياسية والاقتصادية والأمنية والإعلامية والبحثية وغيرها، كما أنه لا يُقصي حتى الجهات ذات المواقف العدائية والمسيئة إلى الإسلام والمسلمين، إيمانًا منها بأن الناس أعداء لما جهلوا، وأنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، وأن التواصل مع هؤلاء إن لم يُؤت أكلَه من الاجتماع على كلمة سواء فإنه على الأقل يمهد الطريق للتعارف وتخفيف الاحتقان، والتمهيد للتعايش السلمي.
أرجو أن يكون لهذا السعي ما بعده، وأن يمثل مخرجًا من الفتنة. والله تعالى أعلى وأعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه البخاري في كتاب «الشروط» باب «الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط» حديث (2734) من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنه .
(2) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (6/367) حديث (12859) مرسلًا من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف :. وذكره ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (7/325) وقال: «هذا الحديث صحيح».
(3) انظر: «السيرة النبوية» لابن هشام (3/34).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend