السؤال:
نرجو من عالمنا الجليل توضيحَ الفرق بين الحاكمية عند القرامطة والحاكمية عند الشهيد سيد قطب، وهل هناك تشابه؟ وما المقصود بالحاكمية عند القرامطة؟ وفي أي مرجع أجد هذا الكلام؟ أفيدوني، جزاكم الله خيرًا.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقبل الحديث عن الحاكمية عند زيد أو عمرو من الناس، يجمل أن نتعرف على منزلة هذه القضية في ميزان العقيدة والشريعة، لتكون منها على بصيرة، ولتحقق فيها اعتقاد الفرقة الناجية والطائفة المنصورة بإذن الله:
لقد تحدث علماء الأصول يا بُنيَّ عن الحكم الشرعي، وذكروا أنه: عبارة عن خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين. كما تحدثوا عن الحاكم لأعمال المكلفين، وهو الشارع، وتحدثوا عن المحكوم عليه وهو المكلَّف، وعن المحكوم فيه وهو فعلُ المكلَّف.
وقد اتفق الأصوليون أجمعون أن الحاكم لجميع أعمال المكلفين هو الله جل جلاله، فلا حكم إلا لله، فهو الذي تفرَّد بالحق في توجيه الخطاب الملزم إلى المكلَّفين؛ لأنه له الخلقُ والأمر، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
يقول الغزالي في «المستصفى»: «أما استحقاقُ نفوذِ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذُ حكم المالك على مملوكه، ولا مالكَ إلا الخالقُ، فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والأب والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا لم يجبُ شيءٌ بإيجابهم، بل بإيجابُ الله تعالى طاعتهم، ولولا ذلك لكان كلُّ مخلوق أوجب على غيره شيئًا كان للموجَب عليه أن يقبل عليه الإيجاب؛ إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذن الواجبُ طاعةُ الله تعالى، وطاعة مَن أوجب الله تعالى طاعته»([1]).
فكما أنه لا شريك له عز وجل في الأمر الكوني الذي يرجع إلى القضاء والقدر، لا شريك له في الأمر الشرعي الذي يرجع إلى التكليف والأمر والنهي الشرعيين.
والأدلة على ذلك مستفيضة في كتاب الله عز وجل، نذكر منها قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف: 40]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)} [المائدة: 1]، وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50].
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ هُوَ الْـحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْـحُكْمُ»([2]).
وهذه القضية بهذا المعنى هي أحدُ ركني توحيد العبادة، الذي يقوم على كمال المحبة والتعظيم، وكمال الطاعة والانقياد.
فالحاكمية إذن هي الحقُّ في إصدارُ الخطاب الـمُلزِم المتعلِّق بأفعال المكلفين على سبيل الاقتضاء أو التخيير أو الوضع.
والتكليف قد يكون تكليفًا بفعل شيء أو تكليفًا بتركه، أو تخييرًا بين الفعل والترك، فخطاب التكليف: هو الخطاب المتعلق بجعل الشيءِ واجبًا أو محرَّمًا أو مباحًا.
أما الوضع: فهو الربط بين شيئين برابطة السببية أو الشرطية أو المانعية، فخطابُ الوضع هو الخطاب المتعلق بجعل الشيء سببًا أو شرطًا أو مانعًا.
وعلى هذا فالحاكمية هي التفرُّد بالحق في إنشاء الخطاب الملزِم، المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال، فهي التي تملك جعلَ الفعل واجبًا أو محرمًا أو مباحًا، وهي التي تملك جعل الشيء سببًا أو شرطًا أو مانعًا. وهي بهذا المعنى للشرع لا غير.
ولا يعني هذا أنه ليس لأهل العلم دورٌ بالكلية في باب التشريع، بل لهم دور من خلال الاجتهاد في استنباط الأحكام من الأدلة، أو من مقاصد الشريعة فيما تركته الشريعة عفوًا، وأحالت فيه إلى الخبرة البشرية. فالتشريع المطلق مرده إلى الله عز وجل، أما التشريع بمعنى استنباط الأحكام من الأدلة، وما حمل عليها بطريق الاجتهاد، فلا تزال أبوابه مفتوحة لمن تأهل له من أهل العلم ما بقي الليل والنهار.
والحاكمية بهذا المعنى من المفاهيم الشرعية الأصيلة، وإن لم تُفرد بأبواب مستقلة، إلا في كتب الأصول، لاندراجها تحت أصول عقدية أخرى، ولأنها لم تكن موضعَ جدل عبر العصور.
نظرية السيادة على الصعيد العلماني:
وتشبه قضية الحاكمية على الصعيد الإسلامي نظرية السيادة على الصعيد العلماني، والسيادة عندهم: هي إرادة تعلو جميع الإرادات، وسلطة تعلو كافة السلطات، لا توجد فيما تنظمه من علاقات سلطة أخرى تساويها أو تساميها، فهي السلطة العليا المطلقة، التي تملك وحدَها الحقَّ في إنشاء الخطاب المتعلق بأفعال المواطنين على سبيل التكليف أو الوضع، تمامًا كما أسلفنا عند الحديث عن الحاكمية.
وعلى هذا، فالسيادة هي السلطة العليا المطلقة، التي تفردت بالحق في إنشاء الخطاب الملزم، المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال، إيجابًا أو تحريمًا أو إباحة، أو جعله سببًا أو شرطًا أو مانعًا، ومن خصائصها:
1 – الإطلاق: فصاحبُ السيادة لا يُفرض عليه قانون، بل القانون هو التعبيرُ عن إرادته، وليس لإرادة أجنبية عنه أن تلزمه بالتصرف على نحو معين؛ لأنه لا توجد إرادة تساميه أو تساويه.
يقول «روسو»- وهو أحد فلاسفة نظرية السيادة: «إنه لا يتفق مع طبيعة النظام السياسي نفسه أن يُفرض على صاحب السيادة قانونٌ لا يستطيع أن يخالفه أو ينقضه»([3]).
2 – السمو: فهي في مجالها- كما سبق- إرادة تعلو جميع الإرادات، وسلطة تعلو كافة السلطات، لا توجد فيما تُنظمه من علاقات سلطةٌ أعلى منها ولا سلطة مساوية لها.
3 – الوحدانية والتفرُّد: فلا يوجد على الإقليم الواحد إلا سيادة واحدة؛ إذ لو وجدت سيادتان على إقليم واحد لفسدت أحواله.
ووجه ذلك أنه لو صدر من كل منهما تكليفٌ يناقض ما أصدرته الأخرى فلا يخلو الأمر من أحد هذه الأحوال: تنفيذ التكليفين معًا، وهو محال. أو الامتناع عنهما معًا، وفي ذلك إبطال لسيادتهما معًا. أو إنفاذ واحد منهما فقط، فيكون صاحبه هو الأحق بالسيادة، وتبطل سيادة ما سواه.
4 – الأصالة: فهي قائمة بذاتها، لم تتلقَّ هذا العلو من إرادة سابقة عليها أو من إرادة أعلى منها.
5 – عدم القابلية للتملُّك: فإذا اغتصبها من ليس أهلًا لها وفرض على الناس سلطانَه مدة من الزمن، طالت هذه المدة أو قصرت، فإنه لا يستطيع أن يدَّعِي شرعيةَ سلطته أو شرعية سيادته مهما طال الأمد، فغصب السيادة سيظل دائمًا غصبًا، لا يثبتُ بالحيازة، ولا يبرره التقادم.
6 – العصمةُ من الخطأ: فنظريةُ السيادة تنزع إلى اعتبار إرادةِ الأمة إرادةً مشروعة، وأن القانون يُعدُّ مطابقًا لقواعد الحق والعدل، لا لسببٍ إلا لأنه صادرٌ عن إرادة الأمة أو مُمثليها، ولذلك فإن هذه النظرية تَنسِب إلى الأمة أو الشعب صفةَ العصمة من الخطأ، حتى قال أحد زعماء وفقهاء ذلك العصر وهو «بابلي»: «حينما يتكلم القانون يجب أن يصمت الضمير»([4]).
هذه هي نظرية السيادة على الصعيد العلماني وقد جعلوا ذلك للأمة أو الشعب، على خلاف بينهم في الاصطلاحات، ومن هنا كانت العلمانية والإيمان نقيضان.
التفريق بين مصدر النظام التشريعي ومصدر السلطة السياسية:
وإذا كان مصدر الحكم التشريعي هو الوحيُ المعصوم، فإن مصدرَ السلطة السياسية هو جماعةُ المسلمين، فالأمَّة في إطار مرجعية الشريعة هي صاحبةُ الحق في الهيمنة على ولاتها توليةً ورقابة وعزلًا.
ضلال الفرق في باب الحاكمية:
وما سبق تقريرُه في هذه القضية هو من الـمُحكم الذي لا ينبغي أن يُختلف فيه، أو أن يختلف عليه، ولكن قدمت له قراءات مغلوطة في ماضي هذه الأمة وحاضرها، أدت إلى ارتباط نكد بين هذا المفهوم العقدي الأصيل، وبين الغلو والإرهاب والتطرف الديني.
وقد ضلَّ بعض الفرق الإسلامية فجعل مصدرَ السلطة السياسية هو الوحيُ كذلك، فقالوا بالنص في باب الإمامة، وأن الله جل وعلا كما نصَّ على أنبيائه فقد نص على الأئمة من بعدهم، ولم يجعلوا ذلك إلى اختيارَ جماعة المسلمين، فدولتهم هي التجسيد العملي للدولة الثيوقراطية التي تحكم بنظرية الحق الإلهي للملوك، والتي ثارت عليها أوروبا، وانتهت إلى أن خلعت عباءة الدين عن الدولة بالكلية.
وقريب من هذا الخلط كان موقف الخوارج الذين ثاروا في وجه عليٍّ رضي الله عنه؛ لقبوله التحكيمَ لحقنِ الدماء، وقالوا: «لا حكم إلا لله»، فقال لهم: «كلمة حق يراد بها باطل». وقال: «هذا كتاب الله بين دفتي المصحف صامت لا ينطق، ولكن يتكلم به الرجال». وحاجهم ابن عباس بما جاء في كتاب الله من التحكيم في الخصومات الزوجية، والتحكيم في جزاء الصيد الذي يقتله المحرم([5]).
وكان من شذوذات الخوارج في هذا الباب أن اعتبروا مُعسكرهم يُمثل دار الإسلام، وكفَّرُوا من سواهم من جماعة المسلمين، بدعوى أنهم لا يحكمون بما أنزل الله، فخلطوا بين الانحرافات الجزئية في تطبيق الشريعة، وهو من جنس المعاصي، ومبدأ الكفر بمرجعية الشريعة في علاقة الدين بالحياة على النحو الذي تفعلُه العلمانية المعاصرة، وهو الذي لا يجتمع مع أصل الإيمان.
وممن حاجهم في ذلك أبو مجلز- لاحق بن حميد الشيباني السدوسي- عندما أتاه أناس من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيت قول الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44]، {الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45]، {الْفَاسِقُونَ (47)} [المائدة: 47]. أحق هو؟ قال: نعم. فقالوا: يا أبا مجلز، فيحكم هؤلاء بما أنزل إليه؟! قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون، فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا، فقالوا: لا والله ولكنك تَفْرَقُ (تخاف). قال: أنتم أولى بهذا مني([6]).
فالفرق بين العلمانية وما وقع من انحرافات التطبيق في بعض العصور الإسلامية هو الفرق بين الكفر والمعصية، فالعلمانية ترفض ابتداء مرجعية القرآن والسنة في شأن من الشئون، وهو كفر بالإجماع، أما انحرافات الحكم بغير ما أنزل الله فيما مضي من بعض العصور الإسلامية فقد كانت مع الإقرار بالشريعة، والتسليم بمرجعيتها، وخروج المخالف لها عن مبدأ المشروعية، والخلط بين المناطين، وتنزيل أحكام أحدهما على الآخر من الأغلاط الشائعة في كثير من الأوساط الدعوية والعلمية المعاصرة.
وقد ارتبطت هذه القضية ذهنيًّا وتاريخيًّا بالخوارج، لسوء قراءتهم لها، وسوء تعاملهم بها، ولكنها كلمة حق كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإن أريد بها من قِبَلهم باطلٌ، فقد أوردها القرآن الكريم على لسان الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام عندما قال لصاحبيه في السجن: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف: 40]. وذلك قبل أن توردها دواوين التاريخ على ألسنة الخوارج.
أما سيد قطب رحمه الله فهو صاحب قلم رشيق، وعبارة سيالة، وقد تكون بعض إطلاقاته تحتاج إلى تقييدٍ، أو حاشيةٍ تبيِّنُ المراد، ويمكن أن تُقرأ كتاباته في الحاكمية على أوجه مختلفة، فقد تقرأ على النحو الذي أوردناه سابقًا، وقد يقرأها آخرون قراءة تقترب بهم من روح الخوارج، وينصح دائمًا بالتحقق بأصول أهل السنة قبل قراءة هذه الكتب الدعوية، ذات المشاعر الزخارة الدفاقة السيالة.
والقرامطة نُسب إليهم تقديمُ العقل على النقل في باب الحاكمية، كما عرف الشيعة بالخلط بين مصدر السلطة السياسية ومصدر النظام القانوني على النحو الذي أوردناه آنفًا.
فكن على جادة أهل السنة يا بني، ولا تكثر الجدل مع أهل الأهواء، ممن ابتلوا بفتنة الشهوات، أو بفتنة الشبهات، أو كليهما، فنحن نعيش في زمن قد مرج فيه الدين، وتشعبت فيه الأهواء، والمعصوم من عصمه الله عز وجل. والله تعالى أعلى وأعلم.
________________
([2]) أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في تغيير الاسم القبيح» حديث (4955)، والنسائي في كتاب «آداب القضاة» باب «إذا حكموا رجلا فقضى بينهم» حديث (5387) من حديث هانئ بن يزيد رضي الله عنه، وذكره الألبانى في «صحيح سنن أبي داود» حديث (4145)، و«صحيح الجامع» حديث (1845)، و«صحيح سنن النسائي» حديث (4980).
([3]) الدولة والسيادة، د. فتحي عبد الكريم: 89.
([4]) راجع: الإسلام ومبادئ نظام الحكم، د. عبد الحميد متولي: 136.