بيان من اللجنة الدائمة للإفتاء بمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا حول أحداث 25 يناير في مصر

المشهد المصريُّ وما يُثيره من قضايا ساخنة، ألا يستحقُّ منكم نظرةً تحليلية وبيانًا شرعيًّا لما فيه من مسائل متشابكة ومتداخلة، أم أن الفقه والإفتاء لا يكون إلا في مسائل النكاح والطلاق؟!

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فقد صدر بيان عن اللجنة الدائمة للإفتاء بمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا حول هذه النازلة أسوقه لك بنصه
لتتدبره ومنه يعلم الجواب:
بيان من اللجنة الدائمة للإفتاء بمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا حول الأزمة الراهنة في مصر:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فقد وردت للمجمع أسئلة كثيرة حول الأوضاع الراهنة في مصر وما يجري فيها من تظاهرات واعتصامات، وما أعقب ذلك من نتائج ومن تداعيات، وعن حكم إقامة مظاهرات تأييدية لما يقوم به المعتصمون في بلادهم هنا في أمريكا. ونودُّ أن نؤكد بمناسبة هذه الأحداث على جملة من المبادئ نوجزها فيما يلي:
1- أن جمهورية مصر العربية هي قلب العالم العربي والإسلامي، وحضارتها وتاريخها أعرق وأظهر من أن يذكَّر به، فحفظ أمنه ومدخراته من عز الإسلام والمسلمين، وثلمته أو انفراط عِقد أمنه لا قدَّر الله مما لا يرتضيه ولا يرجوه عاقلٌ مخلص لدينه مُوالٍ لأمته.
وعليه، فإن على حكومة مصر والمتظاهرين وقيادتهم استحضار هذا الأصل المهم في التعامل مع هذه الأزمة بما يحقق مصلحة الشعب؛ لأنه من المقرر في محكمات أصول الشريعة تقديم المصلحة العامة على الخاصة.
2- الظلم قبيح في الملل كلها، فهو جِماع الآثام ومنبع الشرور، وقد حرمه الله عز وجل  على نفسه، وجعله فيما بين عباده محرمًا، فقال: «إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَّالَـمُوا»(1).
3- أن واجب النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المحكمات في الدين، وهو واجب عام لا يُستثنى منه أحد، يتَّجه الخطاب به إلى الكافة، حُكامًا ومحكومين، ساسة ومسوسين: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله وَلِرَسُولِه وَلِأَئِمَّةِ الْـمُسْلِمينَ وعامَّتِهِم»(2). وأن الأمر بطاعة الولاة لا يتنافى مع إقامة هذا الواجب، بل هو من جملة حقوقهم على الرعيَّة.
4- أن وسائل النصح والاحتساب المتعلقة بالمنكرات العامة لا الشخصية متنوعة تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، فقد تتخذ صورة الكتابة إلى الهيئات الرقابية والمؤسسات الدستورية، أو الكتابة في الصحف والمجلات، أو الخطابة في المحافل والمنتديات، وقد تكون سرًّا أو علانية بحسب وجوه المصالح واعتبار المآلات.
5- أن حرمة الدماء والأموال والأعراض مما أُحكم في الدين، صدَّر بها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم  حديثه في خطبة الوداع، وأكَّد عليها في ثنايا حديثه يومئذٍ عندما قال: «فَلَا تَرجِعُوا بَعْدي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعضُكُم رِقَابَ بَعضٍ»(3).
وقد أجمع المسلمون على أن الإكراه على القتل لا يُجيزه ولو أُكره عليه بالقتل؛ لأن نفس المكره ليست بأولى من نفس أخيه الذي يُكره على قتله، كما أن الممتلكات العامة مصونة ومعصومة، سواء أكانت للمسلمين أم لغير المسلمين فلا يجوز الاعتداء عليها بالتخريب والإحراق.
6- التظاهر من مسائل السياسة الشرعية التي يدور حكمها في فلك الموازنة بين المصالح والمفاسد، فهو مما تتغير فيه الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال، وذلك تبعًا لتغير وجوه المصلحة، ونظرًا لاختلاط المصالح بالمفاسد في التظاهر، فينبغي أن يُرجع في تقدير ذلك إلى أهل الحِلِّ والعقد من أهل العلم.
وعليه فنحن نرى أن ما قام به إخواننا في مصر من مظاهرات حقٌّ مشروع لهم في الشريعة ومكفول لهم في الأعراف الدولية؛ لأنها مظاهرات سلمية تُطالب بحقوق مشروعة شرعًا وتدل على شجاعة ونبل هؤلاء الشباب ومن خرج معهم، ونؤكد لهم على أن مشروعية عملهم مرتبط ببقاء تظاهرهم بشكل سلمي وشرعية مطالبهم.
7- لا نرى صحة استدلال من اعتقد بأن مثل هذه التظاهرات تُعارض الأحاديث الواردة في النهي عن الخروج على الولاة والأمر بالصبر لاختلاف المناط، ولأن المنع من الخروج على أئمة الجور إنما كان لدفع الفتنة ومنع إراقة الدماء وإشاعة الفوضى، وليس تسويغًا للظلم أو إقرارًا للظالم على ظلمه، فحيثما امتُهد سبيل لمنع الظلم والطغيان دون مفسدة راجحة تعيَّن المصير إلى ذلك. فإن الظلمَ قبيحٌ في كلِّ الملل،
فإذا اتَّفقت الأمة على طريق مشروع للضرب على يد الظالم ومنعه من الظلم دون مفسدة راجحة، وضمنته في دستورها فيبقى الوقوف مع الأصل المحكم وهو إقامة العدل ومنع التظالم.

8- أن التظاهر السلميَّ لا يُعَدُّ بذاته من وسائل الخروج على الحكام إذا كان الدستور الذي بويع الحاكم على أساسه قد قنَّن هذه الوسيلة، وأسبغ عليها المشروعية، ونظم طرق ممارستها، واعتبرها من الآليات المشروعة للممارسات السياسية، فلا يحتج بأدلة منع الخروج بالسيف على منع هذه الاحتجاجات السلمية في ضوء ضوابط الالتزام بحرمة الدماء والأموال، وحماية المرافق والممتلكات الخاصة والعامة.
إنه مهما قيل في مشروعية التظاهر أو عدم مشروعيته فقد صار واقعًا قائمًا لا يُمكن تجاهله، وينبغي التعامل معه بما يُقلل مفاسده، ويُوسِّع رقعة الخير المرجوة منه، فليس المنهي عنه شرعًا كالمعدوم حسًّا.
9- لا نرى صحة الاستدلال بأحاديث النهي عن الاقتتال بين المسلمين واعتزال الفتن لمنع مثل هذه التظاهرات، فهؤلاء الشباب ما خرجوا حاملين للسلاح أو بغاةً صائلين، بل حَمَلَ السلاحَ عليهم شرذمةٌ ممن لا خَلَاق لهم، فالمناط مختلف تمامًا. ومن حقِّ المتظاهرين أن يدفعوا من صال عليهم بما يندفع به الصائل.
وأما أحاديث الفتن والأمر باعتزالها فمحلُّها عند عدم ظهور الحقِّ جليًّا للمسلم، أمَّا إذا ظهر الحقُّ فينبغي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتظاهر السَّلميُّ من وسائله المشروعة بشروطٍ كما سلف.
10- يجوز للمسلمين المقيمين في الغرب تنظيم تظاهرات سلمية لنصرة إخوانهم المعتصمين بمصر ومناصرة مطالبهم للتعريف بها في المجتمعات الغربية، شريطة أن تكون هذه المظاهرات مأذونًا بها وتخلو من المحاذير الشرعية.
11- الاستقواء بالأجنبي على حساب المصلحة الشرعية الوطنية في مثل هذه الظروف أو في غيرها جريمة شرعية وخيانة قومية، فإن خصوم الأمة يتربصون بها الدوائر، وينتظرون هذه الفرجات لينفذوا من خلالها إلى ما يريدون من الكيد للأمة، والوقيعة بين أبنائها، ولو دخلوا بينها ما زادوها إلا خبالًا ولأوضعوا خلالها، ودروس التاريخ ودروس الحاضر لمن وعاها ناطقة بذلك، فالحذرَ كلَّ الحذر من تمكين هؤلاء مما يريدون.
12- أن الحالة الراهنة لا تحتمل إثارة الوهن ومسائل الاختلاف في صفوف مريدي الإصلاح ممن يسعون جهدهم ويستفرغون وُسْعهم لتخفيف المظالم وتقليل المفاسد من خلال هذا الموقف الجماعي، الذي لا يُنجحه بعد فضل الله عز وجل إلا اجتماع الكلمة على مشترك من الخير والإصلاح العام، ومن لم يَرَ مشروعيةً للتظاهر فليكن دوره في اللجان الشعبية التي تضطلع بمهمة حفظ الأمن ودفع الصائل على الممتلكات الخاصة في ظل هذه الظروف الحرجة، فإن هذا خيرٌ لهم من الاشتغال بالإنكار على الآخرين.
ولهذا فإنه يتعين على الحركات الإصلاحية كافة بشتى اتجاهاتها القومية والإسلامية أن يتفقوا على قدرٍ مشترك من التنسيق والتعاون يضمن لشركاء الوطن جميعًا ما ينشدون من الحرية والكرامة، وما يتطلعون إليه من العدالة الاجتماعية والكفاية الاقتصادية، وليكن رائد الجميع في هذا قوله صلى الله عليه وسلم  يوم الحديبية: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ الله إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»(4)، وقوله صلى الله عليه وسلم  عن حِلْف الفضول: «لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ الله بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ»»(5).
13- أن ما يمرُّ بالأمة من محنٍ وما ينزل بها من بلاء إنما هو أخذٌ لها ببعض ذنوبها، وتعجيل لشؤم بعض خطيئاتها، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]، فلا ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يُكشف إلا بتوبة(6)؛ ولهذا فإن أول ما يُعنى بها المُوفَّقون عند نزول البلاء هو المبادرة إلى التوبة إلى الله عز وجل  والاستكانة له، وصدق اللجوء إليه والتضرع بين يديه، وقد قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ [الأنعام: 43].
فنُهيب بكلِّ من يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُبادر بالتوبة إلى الله عز وجل، وأن يستغيث ربَّه في أوقات الأسحار، وفي أدبار الصلوات، أن يرفع عن بلاد المسلمين البلاء، وأن يكشف عنها العذاب، وألا يُؤاخذها بما فعل السفهاءُ منها، وأن يولِّي أمورَها خيارها ولا يولي أمورها شرارها، وأن يردَّها إليه ردًّا جميلًا، قادة ومقودين، حُكَّامًا ومحكومين.
14- كما نُهيب بقادة الأمة جميعًا من علماء وأمراء أن يَعُوا هذا الدرس البليغ، وأن يقوموا بواجبهم نحوه، فينصحوا لأنفسهم ولشعوبهم من ناحية، ويقوموا بدورهم في النصح لجارتهم مصر، سواء لقيادتها الراهنة، أو لجماهيرها الثائرة من ناحية أخرى، فليس من المعقول أن تتطلع العيون إلى تصريحٍ يأتي من خارج ديار الإسلام، ولا يكون لهم دور في ترشيدها وبذل النصيحة الصادقة لها، ونحن شركاء في الملة والأمة.

نسأل الله تعالى أن يولِّي على المسلمين خيارَهم، ويبعد عنهم شرارهم، وأن يرزق ولاتهم البطانة الصالحة الناصحة، وأن يحفظ البلاد والعباد من شرِّ الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يغفر لمن مات في هذه الأحداث الدامية في تونس ومصر، وأن يُعافي الجرحى ويواسي المكلومين ويرفع عن المظلومين ويجلب الفرج والاستقرار عاجلًا لمصر الحبيبة.
وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وآله وصحبه وسلم، اللجنة الدائمة للإفتاء بالمجمع. والله تعالى أعلى وأعلم.

___________________

(1) أخرجه مسلم في كتاب «البر والصله والآداب» باب «تحريم الظلم» حديث (4674) من حديث أبي ذر رضي الله عنه .
(2) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان أن الدين النصيحة» حديث (55) من حديث تميم الداري رضي الله عنه .
(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المغازي» باب «حجة الوداع» حديث (4405)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم  لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» حديث (65)، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه .
(4) أخرجه البخاري في كتاب «الشروط» باب «الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط» حديث (2734) من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنه .
(5) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (6/367) حديث (12859) مرسلًا من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف: وذكره ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (7/325) وقال: «هذا الحديث صحيح».
(6) أخرجه الدينوري في «المجالسة وجواهر العلم» (1/124) حديث (727) من قول العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه .

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend