العمل السياسي لنصرة الدين من خلال الأحزاب السياسية والمجالس البلدية أو النيابية

فضيلة الشيخ، ما حكم مشاركة الإسلاميين أو المسلمين في المجالس النيابية في أنظمة الحكم المعاصر في البلاد غير الإسلامية مثل روسيا؟
وما حكم العمل في النيابة والقضاء ظنًّا أنه مصلحة المجتمع والمسلمين، والواقع الذي نراه أنهم لا يستطيعون فعل شيء للمجتمع إلا في الأمور البسيطة؟
هل آية الحاكمية تطبق عليهم؟ هل يحكم عليهم بالكفر؟
ما آراء العلماء في هذه المسألة مع الأدلة؟
أرجو سرعة الإجابة؛ لأني قلقة بارك الله فيك، وجزاكم الله عنا خير الجزاء.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن العمل السياسي لنصرة الدين من خلال الأحزاب السياسية والمجالس البلدية أو النيابية أسلوب من أساليب الاحتساب واستصلاح الأحوال، بغية تحقيق بعض المصالح، ودفع بعض المفاسد، ورفع بعض المظالم، فهو ليس خيرًا محضًا كما يتوهمه المتحمسون، كما أنه ليس شرًّا محضًا كما يظنه المعارضون، ولكنه مما تختلط فيه المصالح والمفاسد، وتزدحم فيه المنافع والمضار، فهو يدور في فلك السياسة الشرعية، ويتقرر حكمه في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، فحيثما ظهرت المصلحة ولم تعارض بمفسدة راجحة فلا بأس باشتغال بعض الإسلاميين به، شريطة ألا تستنفذ فيه الطاقات، وألا يحمل على الاستطالة على الآخرين، وألا يصرف عن الاشتغال بالأعمال الدعوية أو التعليمية أو التربوية، بل قد يكون الاشتغال به واجبًا في بعض الأحيان إذا تعيَّن وسيلة لتحصيل بعض المصالح الراجحة أو تكميلها، وتعطيل بعض المفاسد أو تقليلها، وقد يكون حرامًا إذا عظمت مفسدته، وربا ضرُّه على نفعه، بل ربما أدى إلى فساد في الاعتقاد، وانسلال من ربقة الإسلام؛ ولهذا فإن مسائل هذا الباب مما تتغير فيه الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال، وذلك تبعًا لتغير وجوه المصلحة.
وهو كغيره من الأعمال لابد لمشروعيته من ضوابط يتعين التزامها، ومحاذير يتعين اجتنابها حتى تمضي أعماله على سنن الرشد. ومن الضوابط التي تذكر في هذا المقام:
– دراسة الجدوى، والتحرير الدقيق لما يتضمنه هذا العمل من المصالح أو المفاسد، والتأكد من غلبة المصلحة، ومراجعة هذه الموازنات بصورة دورية ومتجددة؛ فإن المصالح والمفاسد في مثل هذه المسائل في حركة دائبة ومضطردة.
– ألا يقتضي هذا العمل مظاهرة على المؤمنين، أو اتخاذ عدوهم بطانة من دونهم.
ألا يُفضي إلى تشرذم فصائل العمل الإسلامي، بما يجره الخلاف حوله من تهارج وتفرق مذموم.
– التوازن بين الاشتغال بهذا العمل والاشتغال بسائر الأعمال الدعوية الأخرى، فالعمل السياسي ليس بديلًا من الأعمال الدعوية أو التربوية، فلا ينبغي أن يكون الاشتغال به على حساب تراجع أو تهميش هذه الأعمال.
هذا ولابد للعمل السياسي خارج ديار الإسلام من الاتفاق على جملة من المطالب والسياسات المعقولة والممكنة، تمثل مشتركًا سياسيًّا يسعون إلى تحقيقه في هذا المعترك، وعلى جهة تمثل المسلمين في هذا الجانب، وتتبنى الحديث باسمهم والتفاوض نيابة عنهم، حتى لا تتفرق كلمتهم وتذهب ريحهم، أما إذا كان أمرهم فرطًا، ولم يتفقوا على برنامج سياسي ولا على جهة تمثلهم فلا يتوقع أن تكون لهم شوكة في خضم هذا المعترك.
وما لم يتوفر ذلك للعمل الإسلامي فسوف تبقى محاولاته في هذا المجال محاولات قاصرة، لا يعول عليها كثيرًا في استخلاص حق أو في دفع مظلمة.
وأما ما نُسب إلى بعض الإسلاميين من إطلاق القول بتكفير من دخل في هذا العمل أيًّا كان مقصوده ونيته من الإطلاقات الفاحشة التي ترد على أصحابها؛ فإن البرلمانيين في ظل العلمانية أنواع:
– فمنهم من بقي على أصل إيمانه بالله ورسوله، محبًّا للشريعة ومنحازًا لفسطاطها، وكان له نوع تأول في دخوله إلى هذه المواقع أو بقائه فيها كتحصيل بعض المصالح أو دفع بعض المفاسد؛ فهذا له حكم أمثاله من أهل الإسلام، وأمره إلى الله.
– ومنهم من انحاز إلى العلمانية، وأعلن انتماءه لها، وتبنيه لمقرراتها، فهذا له حكم أمثاله من العلمانيين العقديين.
– ومنهم المغيبون عن حقيقة ما يجري في العالم من الصراعات الفكرية والسياسية من العامة وأشباه العامة، ولا أرب لهم في سعيهم إلى هذه المواقع إلا ما يكون لطلاب الدنيا عادة عند تطلعهم إلى المناصب والألقاب، مع بقاء انتسابهم إلى الإسلام في الجملة، وإقرارهم بشرائعه على الجملة، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من جهلاء أهل الإسلام، ممن خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، وهم في خطر المشيئة يوم القيامة، إلا إذا أقيمت عليهم الحجة الرسالية التي يكفر معاندها.
هذا وإن تسويغ العمل السياسي في الإطار السابق لا يعني الإقرار بالديمقراطية في إطارها الغربي؛ بما تعنيه من تأليه الإرادة البشرية ونقل مصدرية التشريع من الوحي المعصوم إلى الأهواء البشرية، وبما تتضمنه من إهدار أهلية الاختيار، والتسوية بين الناس كافة في عملية التصويت، فضلًا عن أكذوبة سيادة الأمة، وصورية تحكيم الأغلبية التي جعلت السينتور جيوفاني استيونتور يقول: أروني الشعب أعطيكم عيني اليمنى، فمنذ عشرات السنين وأنا أبحث عنه ولم أجده بعد.
بالإضافة إلى آفة الالتزام الحزبي التي تحوِّل العملية الديمقراطية إلى مسرحية هزلية، والتي حملت أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني على القول: لقد سمعت في مجلس العموم كثيرًا من الخطب التي غيرت رأيي، ولكني لم أسمع خطبة واحدة غيرت صوتي.
كما لا يعني كذلك تسويغ الاستبداد والمناهج القَمْعية؛ فإن الشورى من عزائم الأحكام وقواعد الشريعة، وهي تقوم على التفريق بين مصدر النظام التشريعي ومصدر السلطة السياسية، فالنظام التشريعي مصدره الوحي المعصوم قرآنًا وسنة وما حمل عليهما بطريق الاجتهاد، والنظام السياسي مصدره الأمة، فللأمة في إطار مرجعية الشريعة الحق كل الحق في الهيمنة على ولاتها تولية ورقابة وعزلًا، فالاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، ومن بايع رجلًا من غير مشورة من المسلمين فلا بيعة له ولا للذي بايعه تغرة أن يقتلا كما قال عمر رضي الله عنه(1). والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه البخاري في كتاب «الحدود» باب «رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت» حديث (6830).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend