الشورى

هل واجبٌ على الحاكم أن يشاور العلماء إذا لم يكن عالمًا؟ وما حكم الحاكم الذي لا يشاور العلماء ويستبدُّ برأيه؟ وهل توجد نماذج من الخلفاء في عهد السلف ومَن بعدهم؟ وهل هي واجبة أم مندوبة؟ وجزاك الله خيرًا.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، و«ما تشاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشَدِ أمورهم»(1)، وقد مَدَح اللهُ المؤمنين بقوله: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38].
ويتأكد العمل بها فيما أشكل من الأمور التي لا يوجد فيها وحيٌ صريح، فقد قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [الشورى: 38].
قال الجصاص: «هذا يدلُّ على جلالة موقع المشورة لذكره لها مع الإيمان وإقامة الصلاة، ويدل على أنا مأمورون بها»(2). انتهى.
والأدلة الشرعية على مشروعية الشورى كثيرة جدًّا:
مِن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم :
مثل استشارته قبيل معركة بدرٍ لمعرفة مدى استعداد أصحابه للقتال، ونزوله على رأي الحُبَاب بن المنذر في اختيار المكان الملائم لنزول الجيش، وهو أدنى مقام من ماء بدر(3).
وكذلك بعد المعركة استشار أصحابه في شأن قَبُول الفِداء من أسرى بدر المشركين(4).
وقبل موقعة أُحُد استشار الأصحاب في شأن الخروج من المدينة، وقَبِل رأيَ الكثرة الشباب التي أشارت بالخروج(5).
وقال صلى الله عليه وسلم  في قصة الإفك: «أَشِيرُوا عَلَيَّ مَعْشَرَ الْـمُسْلِمِينَ فِي قَوْمٍ…»(6).

واستشار أيضًا أصحابه في ردِّ سَبْي هوازن، وفي استطابة أنفسهم بذلك دون تعويض عن حقِّهم(7).
وشاور النبيُّ صلى الله عليه وسلم  أصحابَه يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة يومئذ، فأبى عليه السَّعْدانِ: سعدُ بن عُبَادة وسعد بن معاذ، فترك ذلك(8).
وقد روى عبد الرزاق في «المصنف» عدةَ آثار تحضُّ عليها.
وقال البخاري: «وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم  يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدَّوْه إلى غيره، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان القُرَّاء أصحابَ مشورة عمر، كهولًا أو شُبَّانًا، وكان وقَّافًا عند كتاب الله عز وجل» (9). انتهى.
وهي مشروعة للحُكَّام فيما أشكل عليهم من أمور الدين وسياسة الرعية، ويلحق بهؤلاء القضاةُ وكلُّ ذي مسئولية، عامةً كانت أو خاصة، ولكن الأمر في شأنهم أهونُ من الولاة.
واختُلف فيها: هل هي واجبة أو مندوبة على الحكام؟
ومن القائلين بوجوبها النووي، وابن عطية، وابن خويز منداد، والرازي، واستدلُّوا بقوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].
وظاهر الأمر في قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ﴾ [آل عمران: 159] يقتضي الوجوب، والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم  بالمشاورة أَمْرٌ لأمته لتقتدي به ولا تراها منقصة، كما مدحهم سبحانه وتعالى في قوله: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38].
ومن القائلين بأنها مندوبة: قتادة، وابن إسحاق، والشافعي(10)، والربيع.
وكما اختُلف في الشورى ابتداءً: هل هي واجبة أم مندوبة؟ اختُلف في نتيجتها انتهاءً: هل هي مُعلِمة أم مُلزِمة؟
وبعيدًا عن الخلاف الفقهي فإن الذي يصلح الأمة في واقعنا المعاصر أن تعقد البيعة للولاة على أساس دستور يبين متى تكون الشورى واجبة ومتى تكون مندوبة فقط؟ ومتى تكون مُعلِمة ومتى تكون ملزمة؟ وتنعقد البيعة على هذا الأساس.
فنخرج من هذا الخلاف الفقهي إلى أمرٍ قاصد بيِّن يصلح به حال الأمة. والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في «الأدب» ص149 حديث (46) من قول الحسن رحمه الله.
(2) «أحكام القرآن» للجصاص (5/263).
(3) انظر: «السيرة النبوية» لابن هشام (3/167)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/35).
(4) أخرجه ابن شبة في «أخبار المدينة» (2/46) حديث (1462).
(5) انظر «السيرة النبوية» (4/9).
(6) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «المغازي» باب «حديث الإفك» حديث (4141)، ومسلم في كتاب «التوبة» باب «في حديث الإفك وقبول توبة القاذف» حديث (2770) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(7) أخرجه البخاري في كتاب «الأحكام» باب «العرفاء للناس» حديث (7177) من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة. وانظر «السيرة النبوية» (5/162).
(8) «السيرة النبوية» (4/180).
(9) البخاري في كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة».
(10) جاء في «حاشية البجيرمي على الخطيب» من كتب الشافعية (4/390): «قوله: (وأن يُشاور الفقهاءَ) الأمناء ولو أدون منه، وفي الخصائص وشرحها للمناوي: واختُّص صلى الله عليه وسلم  بوجوب المشاورة عليه لذوي الأحلام العقلاء في الأمر عند الجمهور؛ لقوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران: 159]، أي: الذي ليس فيه وحي بما يصحُّ أن يشاور فيه ليصير سُنةً ولتطييب قلوبهم، ووجوبُ المشاورة هو ما صحَّحه الرافعيُّ والنوويُّ، وقيل: إنها غيرُ واجبة لما نقله الحافظ البيهقي في كتاب المعرفة، وصرَفَ الشافعيُّ الأمرَ إلى الندب، وعبارته في الأم بعد ذكره الآية: وقال الحسن: إن كان النبي عليه الصلاة والسلام لغنيًا عن ذلك، ولكنه أراد أن يَستَنَّ بذلك الحكَّامُ بعده إذا نزل بالحاكم أمرٌ يَحتمل وجوهًا، أو بشكل ينبغي له أن يشاور, ولا ينبغي له أن يشاور جاهلًا لأنه لا معنى لمشاورته ولا عالمًا غير أمين، ولكنه يشاور مَن جمَعَ العِلمَ والأمانة، وفي المشاورة رضا الخصم والحجة عليه، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «ما رأيت أحدًا أكثر مشورةً لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ». وعن ابن عباس لما نزلت هذه الآية: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159] قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله ورسوله غنيان عنها ولكن جعلها الله رحمةً في أمتي فمن شاور منهم لم يعدم رشدًا ومن ترك المشورة منهم لم يعدم عناءً». وقد قيل: الاستشارة حصن من الندامة اهـ.».  وانظر: «نهاية المطلب في دراية المذهب» (18/471).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend