الدستور المصري 2012 واحتكام غير المسلمين إلى شرائعهم

إذا كان الدستور المصري قد أباح لغير المسلمين الاحتكام إلى شرائعهم فيما يخصهم من أحوال شخصية، فهل يسري ذلك أيضًا بالنسبة للعقوبات؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فكيف يتم ذلك؟ وما آليات تطبيقه؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فهذه المسألة ونظائرها من كبار مسائل السياسة الشرعية ينبغي أن تُحال إلى المجامع الفقهية التي تجمع بين الخبراء والفقهاء، وتشقيق القول حولها من قِبَل العوام قد يكون ضرُّه أقرب من نفعه.
لقد خيَّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم  في الحكم بين اليهود في المدينة والإعراض عنهم، فقال تعالى: ﴿فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا﴾ [المائدة: 42]، ومورد الآية كما هو معلوم واقعة زنًى بين اثنين من اليهود، وكان القوم قد استثقلوا حكم التوراة بالرجم، فتواضعوا على عقوبة أخرى مخففة، فلما هاجر نبينا صلى الله عليه وسلم  إلى المدينة، قالوا: هذا نبي بُعث بالتخفيف، فاسألوه عن حكم مَن زنى إذا كان محصنًا؛ فإن أفتى بعقوبة مخففة فخذوا حكمه، وعذركم عند ربكم أن نبيًّا من أنبيائه قد أفتاكم بذلك، وإن أفتى بالرجم فاحذروا، فنزلت هذه الآية.
ووجه التخيير كما جاء في «التحرير والتنوير» لابن عاشور تعارض السببين: فسبب إقامة العدل يقتضي الحكم بينهم، وسبب معاملتهم بنقيض قصدهم من الاختبار أو محاولة مصادفة الحكم لهواهم يقتضي الإعراض عنهم؛ لئلا يعرض الحكم النبوي للاستخفاف(1).
وقد أجمع أهل العلم على أنه إن كانت الخصومة بين مسلم وغير مسلم فيجب الحكم بينهما بما أنزل الله، وأما إن كانت الخصومة بينهم فهذا موضع النظر، فمن أهل العلم من قال: إن هذه الآية محكمة، وإنه لا يجب على الحاكم أن يحكم بينهم إلا إذا قبلوا بحكمنا وترافعوا إلينا طائعين.
قال الزهري: «مضت السنة أن يُرَد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله»(2).
ومنهم من أوجب الحكم بينهم بكتاب الله في جميع الأحوال، وقال بنسخ هذه الآية بقوله تعالى بعد ذلك: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) [المائدة: 49].
وأما قوله: ﴿وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا﴾ [المائدة: 42]، فذلك تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لئلا يقول في نفسه: كيف أعرض عنهم، فيتخذوا ذلك حجة علينا، يقولون: ركنَّا إليكم ورضينا بحكمكم فأعرضتم عنا؛ فلا نسمع دعوتكم من بعدُ. وهذا مما يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه يئول إلى تنفير رؤسائهم ودهمائهم من دعوة الإسلام، فطمَّنه الله تعالى بأنه إن فعل ذلك لا تنشأ عنه مضرة.
والأمر كما ترى موضع خلاف معتبر بين المذاهب المتبوعة(3) عند أهل السنة، وهذا يفتح الباب أمام الحاكم المسلم في أن يختار من هذه الاجتهادات ما يراه أظهر في النظر، وأقوم بالمصالح العامة للأمة.
وأؤكد أنه ينبغي أن تترك هذه المسائل وأمثالها للمجامع العلمية، تحررها وتدقق مناطاتها وآليات تطبيقها مع أهل الاختصاص، فهي من كبار مسائل السياسة الشرعية، فينبغي أن تترك لأهلها، ولا نكثر التخوض فيها في واقع الفتنة. والله تعالى أعلى وأعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) «التحرير والتنوير» للطاهر بن عاشور (2/202-203).
(2) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (6/62) حديث (10007).
(3) جاء في «بدائع الصنائع» للكاساني الحنفي (2/311): «أمر رسول الله أن يحكم بينهم بما أنزله مطلقًا…».
وجاء في «بداية المجتهد» لابن رشد المالكي (2/472): «وأمَّا الحكم على الذمي فإن في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقضي بينهم إذا ترافعوا إليه بحكم المسلمين وهو مذهب أبي حنيفة. والثاني أنه مخيرٌ وبه قال مالك، وعن الشافعي القولان، والثالث أنه واجب على الإمام أن يحكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليه».
وجاء في «روضة الطالبين» للنووي الشافعي (7/154): «فصل: إذا ترافع إلينا ذميان في نكاح أو غيره إن كانا متفقي وجب الحكم بينهما على الأظهر عند الأكثرين. والثاني: لا يجب لكن لا نتركهم على النزاع بل نحكم أو نردهم إلى حاكم مِلَّتهم».
وجاء في «الكافي» لابن قدامة الحنبلي (4/176): «إذا تحاكم مسلم و ذمي إلى الحاكم لزمه الحكم بينهما لأن إنصاف المسلم والإنصاف منه واجب، وإن تحاكم ذميان إليه ففيه روايتان: إحداهما: يلزمُه الحكم بينهما لقول الله تعالى: ﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله﴾؛ ولأن دفع الظلم عنهم واجب، والحكم طريق له فوجب كالحكم بين المسلمين. والثانية: لا يجب بل يخير بين الحكم بينهم و بين تركهم».

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend