الدستور المصري واحتكام غير المسلمين إلى شرائعهم

إذا كان الدستور المصري قد أباح لغير المسلمين الاحتكام إلى شرائعهم فيما يخصهم من أحوال شخصية، فهل يسري ذلك أيضًا بالنسبة للعقوبات؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فكيف يتم ذلك؟ وما آليات تطبيقه؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فهذه المسألة ونظائرها من كبار مسائل السياسة الشرعية ينبغي أن تُحال إلى المجامع الفقهية التي تجمع بين الخبراء والفقهاء، وتشقيق القول حولها من قِبَل العوام قد يكون ضرُّه أقرب من نفعه.
لقد خيَّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بين اليهود في المدينة والإعراض عنهم، فقال تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [المائدة: 42]، ومورد الآية كما هو معلوم واقعة زنًى بين اثنين من اليهود، وكان القوم قد استثقلوا حكم التوراة بالرجم، فتواضعوا على عقوبة أخرى مخففة، فلما هاجر نبينا صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قالوا: هذا نبي بُعث بالتخفيف، فاسألوه عن حكم مَن زنى إذا كان محصنًا؛ فإن أفتى بعقوبة مخففة فخذوا حكمه، وعذركم عند ربكم أن نبيًّا من أنبيائه قد أفتاكم بذلك، وإن أفتى بالرجم فاحذروا، فنزلت هذه الآية.
ووجه التخيير كما جاء في «التحرير والتنوير» لابن عاشور تعارض السببين: فسبب إقامة العدل يقتضي الحكم بينهم، وسبب معاملتهم بنقيض قصدهم من الاختبار أو محاولة مصادفة الحكم لهواهم يقتضي الإعراض عنهم؛ لئلا يعرض الحكم النبوي للاستخفاف(1).
وقد أجمع أهل العلم على أنه إن كانت الخصومة بين مسلم وغير مسلم فيجب الحكم بينهما بما أنزل الله، وأما إن كانت الخصومة بينهم فهذا موضع النظر، فمن أهل العلم من قال: إن هذه الآية محكمة، وإنه لا يجب على الحاكم أن يحكم بينهم إلا إذا قبلوا بحكمنا وترافعوا إلينا طائعين.
قال الزهري: «مضت السنة أن يُرَد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله»(2).
ومنهم من أوجب الحكم بينهم بكتاب الله في جميع الأحوال، وقال بنسخ هذه الآية بقوله تعالى بعد ذلك:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49].
وأما قوله: {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا } [المائدة: 42]، فذلك تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يقول في نفسه: كيف أعرض عنهم، فيتخذوا ذلك حجة علينا، يقولون: ركنَّا إليكم ورضينا بحكمكم فأعرضتم عنا؛ فلا نسمع دعوتكم من بعدُ. وهذا مما يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يئول إلى تنفير رؤسائهم ودهمائهم من دعوة الإسلام، فطمَّنه الله تعالى بأنه إن فعل ذلك لا تنشأ عنه مضرة.
والأمر كما ترى موضع خلاف معتبر بين المذاهب المتبوعة(3) عند أهل السنة، وهذا يفتح الباب أمام الحاكم المسلم في أن يختار من هذه الاجتهادات ما يراه أظهر في النظر، وأقوم بالمصالح العامة للأمة.
وأؤكد أنه ينبغي أن تترك هذه المسائل وأمثالها للمجامع العلمية، تحررها وتدقق مناطاتها وآليات تطبيقها مع أهل الاختصاص، فهي من كبار مسائل السياسة الشرعية، فينبغي أن تترك لأهلها، ولا نكثر التخوض فيها في واقع الفتنة. والله تعالى أعلى وأعلم.

_____________________

(1) «التحرير والتنوير» للطاهر بن عاشور (2/202-203).

(2) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (6/62) حديث (10007).

(3) جاء «في شرح مختصر الطحاوي للجصاص» (4/ 344-345) من كتب الحنفية
«وقال أبو يوسف: لا يعترض لهما في شيء من ذلك، ما لم يرفعه أحدهما إلى حاكم المسلمين، فإذا رفعه أحدهما: حكم فيه بينهما بحكم المسلمين، رضي بذلك صاحبه أو كرهه).
قال أحمد: مذهب أبي حنيفة في ذلك: أنهم يخلون وأحكامهم في المناكحات، حتى يجتمعا جميعًا على الرضا بحكم الإسلام، فإذا تراضيا بذلك، حملا على أحكام المسلمين، إلا في النكاح في العدة، والنكاح بغير شهود.
وقال محمد مثل قول أبي حنيفة، أنهم يخلون وأحكامهم في النكاح، وليس لنا أن نعترض عليهم، إلا أنه يقول: إذا رضي أحدهما بأحكامنا حملا جميعًا على أحكام الإسلام في جميع ذلك، إلا في النكاح بغير شهود، فإنه لا يفسخه… قال أبو يوسف: لو أمكنني أن أتبعهم بأحكامنا في ديارهم فعلت،لقول الله تعالى:} وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم يحتج لأبي حنيفة في ذلك بقول الله: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم}. وروي أن قوله: {وأن حكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم {نزل بعد قوله: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} فصار التخيير الذي في الآية الأولى منسوخًا بالثانية، إلا أنه لم تقم الدلالة على أن شرط المجيء المذكور بالآية الأولى منسوخ، إذ ليس يمتنع أن تنتظم الآية معنيين، فينسخ أحدهما، ويبقى المعنى الآخر غير منسوخ، فإذا لم تقم الدلالة على أن شرط المجئ منسوخ بقيناه، وجمعنا بينه وبين الآية الثانية، فصار كقوله: فإن جاؤوك فاحكم بينهم بما أنزل الله.
وأيضًا: فإنا أعطيناهم العهد على أن نخليهم وشرائعهم وأحكامهم، ما لم يكن فيه فساد على أهل الإسلام».
وجاء في «البيان والتحصيل (4/ 186) » من كتب المالكية «مسألة قلت: فهل لحكم المسلمين أن يقضي بين أهل الذمة فيما يتظالمون فيه من الأموال أو من البيوع والرهون والغصب؟ فقال: نعم، ذلك الذي يحق عليه، قلت: ففي أي شيء يترك الحكم بينهم؟ قال في حدودهم وعتقهم وطلاقهم وبيع الربا التي يتبايعون بها من الدرهم بالدرهمين، ونحو هذا ونكاحهم ووجه غير واحد، وأما القتل والجراح والغصب والأموال التي يتظالمون بها فإن على حكم المسلمين أن ينظر بينهم.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا موافق لما في المدونة وغيرها لمالك وأصحابه لا اختلاف بينهم في أن على حكم المسلمين أن يحكم بينهم فيما يتظالمون فيه، وأنه مخير فيما سوى ذلك من حدودهم ونكاحهم وطلاقهم وبيوع الربا التي يتبايعون بها فيما بينهم إن ترافعوا إليه إن شاء حكم بينهم في ذلك، وإن شاء ترك لقول الله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] الآية إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] أي بحكم التوراة؛ لأن الآية نزلت في تحكيم اليهود النبي – عَلَيْهِ السَّلَامُ – في اللذينزنيا منهم فحكم عليهما بالرجم على ما في التوراة، فوجب أن يقاس على ذلك ما كان في معنى الحد من سائر شرائعهم، وأن يكون الإمام مخيرا في الحكم بينهم في ذلك إن حكموه فيه، وأما ما يتظالمون فيه فمن الحق على الإمام أن يحكم بينهم في ذلك، ويكف بعضهم عن بعض، وإن لم يحكموه في ذلك ويكف غيرهم أيضا عن ظلمهم؛ لأنه إنما أخذ الجزية منهم على ذلك، فهو من الوفاء بالعهد لهم».
وجاء في «المجموع شرح المهذب »(19/ 417) من كتب الشافعية «وان تحاكم مشركان إلى حاكم المسلمين نظرت فإن كان معاهدين فهو بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم لقوله عز وجل (فإن جاءوك فاحكمبينهم أو أعرض عنهم) ولا يختلف أهل العلم أن هذه الآية نزلت فيمن وادعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة قبل فرض الجزية، وإن حكم بينهما لم يلزمهما حكمه.
وإن دعا الحاكم أحدهما ليحكم بينهما لم يلزمه الحضور، وإن كانا ذميين نظرت فإن كان على دين واحد ففيه قولان
(أحدهما)
أنه بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم، لانهما كافران فلا يلزمه الحكم بينهما كالمعاهدين، وإن حكم بينهما لم يلزمهما حكمه، وإن دعا أحدهما ليحكم بينهما لم يلزمه الحضور.
والقول الثاني أنه يلزمه الحكم بينهما، وهو اختيار المزني لقوله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) ولانه يلزمه دفع ما قصد كل واحد منهما بغير حق فلزمه الحكم بينهما كالمسلمين، وان حكم بينهما لزمهما حكمه، وإن دعا أحدهما ليحكم بينهما لزمه الحضور».
وجاء في «شرح منتهى الإرادات» (1/ 668) من كتب الحنابلة «(وإن تحاكموا) أي أهل الذمة (إلينا) بعضهم مع بعض (أو) تحاكم إلينا (مستأمنان باتفاقهما أو استعدى ذمي على ذمي آخر) بأن طلب من القاضي أن يحضره له (فلنا الحكم والترك) لقوله تعالى: {فإنجاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42] ولا يحكم إلا بحكم الإسلام ; لقوله تعالى: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة: 42] ».

جاء في «الموسوعة الفقهية الكويتية» (35/19-21) :
«مخاطبة الكفار بفروع الشريعة:
11 – قال الزركشي : حصول الشرط العقلي من التمكن والفهم ونحوهما شرط في صحة التكليف ، أما حصول الشرط الشرعي فلا يشترط في صحة التكليف بالمشروط خلافا للحنفية وهي (المسألة) مفروضة في تكليف الكفار بالفروع وإن كانت أعم منه.
والجمهور على جواز خطاب الكفار بالفروع عقلا.
أما خطاب الكفار بالفروع شرعا ففيه – كما قال الزركشي – مذاهب :
القول الأول : أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة مطلقا في الأوامر والنواهي بشرط تقديم الإيمان بالمرسل كما يخاطب المحدث بالصلاة بشرط تقديم الوضوء.
والدليل على ذلك قوله تعالى : ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين، فأخبر سبحانه وتعالى أنه عذبهم بترك الصلاة وحذر المسلمين به ، وقوله تعالى : {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة}.
فالآية نص في مضاعفة عذاب من جمع بين الكفر والقتل والزنا ، لا كمن جمع بين “20” الكفر والأكل والشرب.
وكذلك ذم الله تعالى قوم شعيب بالكفر ونقص المكيال ، وذم قوم لوط بالكفر وإتيان الذكور.
كما استدلوا بانعقاد الإجماع على تعذيب الكافر على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعذب على الكفر بالله تعالى.
وقد ذهب إلى هذا القول الشافعية والحنابلة في الصحيح ، وهو مقتضى قول مالك وأكثر أصحابه ، وهو قول المشايخ العراقيين من الحنفية.
القول الثاني : إن الكفار غير مخاطبين بالفروع وهو قول الفقهاء البخاريين من الحنفية ، وبهذا قال عبد الجبار من المعتزلة والشيخ أبو حامد الإسفراييني من الشافعية ، وقال الإبياري : إنه ظاهر مذهب مالك ، وقال الزركشي : اختاره ابن خويزمنداد المالكي.
قال السرخسي : لا خلاف أنهم مخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات في الدنيا والآخرة ، وأما في العبادات فبالنسبة إلى الآخرة كذلك.
أما في حق الأداء في الدنيا فهو موضع الخلاف.
واستدل القائلون بعدم مخاطبتهم بالفروع بأن العبادة لا تتصور مع الكفر ، فكيف يؤمر بها فلا معنى لوجوب الزكاة وقضاء الصلاة عليه مع استحالة فعله في الكفر ومع انتفاء وجوبه لو أسلم ، فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله؟.
القول الثالث : إن الكفار مخاطبون بالنواهي دون الأوامر ، لأن الانتهاء ممكن في حالة الكفر ، ولا يشترط فيه التقرب فجاز التكليف بها دون الأوامر ، فإن شرط الأوامر العزيمة ، وفعل التقريب مع الجهل بالمقرب إليه محال فامتنع التكليف بها.
وقد حكى النووي في التحقيق أوجها ، وقال الزركشي : ذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا خلاف في تكليف الكفار بالنواهي وإنما الخلاف في تكليفهم بالأوامر.
ونقل ذلك القول صاحب اللباب من الحنفية عن أبي حنيفة وعامة أصحابه.
وقيل : إنهم مخاطبون بالأوامر فقط.
وقيل : إن المرتد مكلف دون الكافر الأصلي.
وقيل : إنهم مكلفون بما عدا الجهاد.
وقيل : بالتوقف».

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend